من طرف أبو عبد الرحمن عبد المحسن 12.02.09 18:29
وأما قول علي المذكور: لو أنكر علي لرد علي، فجوابه: أنه ليس كل ما نشر في الصحف من الأخطاء أطلع عليه؛ لكثرة ما ينشر في الصحف، وكثرة مشاغلي عن الاطلاع على ذلك، والله ولي التوفيق، ونسأله سبحانه أن يحفظنا من الخطأ والزلل في القول والعمل.
وأما إنكار علي المذكور كون القرآن الكريم شفاء لبعض الأمراض البدنية فهو أيضاً قول باطل، وقد أوضح الله سبحانه أن كتابه شفاء في كتابه العظيم، فقال سبحانه في سورة بني إسرائيل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا[4] وقال سبحانه في سورة فصلت: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ[5] الآية، والآيتان الكريمتان المذكورتان تعمان شفاء القلوب وشفاء الأبدان، ولكن لحصول الشفاء بالقرآن وغيره شروط، وانتفاء موانع في المعاِلج والمعاَلج وفي الدواء، فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حصل الشفاء بإذن الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله))[6] رواه مسلم. كثير من الناس لا تنفعه الأسباب ولا الرقية بالقرآن ولا غيره؛ لعدم توافر الشروط، وعدم انتفاء الموانع، ولو كان كل مريض يشفى بالرقية أو بالدواء لم يمت أحد، ولكن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء، فإذا أراد ذلك يسر أسبابه، وإذا لم يشأ ذلك لم تنفعه الأسباب، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها أنه كان إذا اشتكى شيئاً قرأ في كفيه عند النوم سورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[7]، وسورة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[8]، وسورة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[9] ثلاث مرات، ثم يمسح بهما على ما استطاع من جسده في كل مرة بادئاً برأسه ووجهه وصدره، وفي مرض موته عليه الصلاة والسلام كانت عائشة رضي الله عنها تقرأ هذه السور الثلاث في يديه عليه الصلاة والسلام، ثم تمسح بهما رأسه ووجهه وصدره رجاء بركتهما، وما حصل فيهما من القراءة، فتوفي صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك؛ لأن الله سبحانه لم يرد شفاءه من ذلك المرض؛ لأنه قد قضى في علمه سبحانه وقدره السابق أنه يموت بمرضه الأخير عليه الصلاة والسلام.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الشفاء في ثلاث شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية نار وما أحب أن أكتوي)) ومعلوم أن كثيراً من الناس قد يعالج بهذه الثلاثة ولا يحصل له الشفاء؛ لأن الله سبحانه لم يقدر له ذلك، وهو سبحانه الحكم العدل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي الصحيحين أنَّ ركباناً من الصحابة رضي الله عنهم مروا على قوم من العرب وقد لُدغ سيدهم، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه، فسألوا الركب - المذكور - هل فيكم راقٍ؟ فقالوا: نعم، وشرطوا لهم جعلاً على ذلك، فرقاه بعضهم بفاتحة الكتاب فشفاه الله في الحال، وقام كأنما نشط من عقال، فقال الذي رقى لأصحابه: لا نفعل شيئاً في الجعل حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم -، وكان أصحاب اللديغ لم يضيفوهم فلهذا شرطوا عليهم الجعل، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بما فعلوا، فقال: ((قد أصبتم واضربوا لي معكم بسهم))، ففي هذا الحديث الرقية بالقرآن، وقد شفى الله المريض في الحال، وصوبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهذا من الاستشفاء بالقرآن من مرض الأبدان. وقد أخبر الله سبحانه في آية أخرى في سورة يونس أن الوحي شفاء لما في الصدور، وهي قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[10]، وكون القرآن شفاء لما في الصدور لا يمنع كونه شفاء لمرض الأبدان، ولكن شفاءه لما في الصدور أعظم الشفائين وأهمهما، ومع ذلك فأكثر الناس لم يشف صدره بالقرآن ولم يوفق للعمل به، كما قال سبحانه في سورة سبحان: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا[11] وذلك بسبب إعراضهم عنه، وعدم قبول الدعوة إليه. وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يعالج المجتمع بالقرآن، ويتلوه عليهم ويدعوهم إلى العمل به، فلم يقبل ذلك إلا القليل، كما قال الله سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[12]، وقال سبحانه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[13] فالقرآن شفاء للقلوب والأبدان، ولكن لمن أراد الله هدايته، وأما من أراد الله شقاوته فإنه لا ينتفع بالقرآن ولا بالسنة ولا بالدعاة إلى الله سبحانه؛ لما سبق في علم الله من شقائه وعدم هدايته، كما قال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[14] وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا[15] الآية، وقال سبحانه: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[16] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهكذا الأحاديث الصحيحة.
وأما تأويل علي بن مشرف الحديث: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) بأنه على سبيل الاستعارة، كما حكاه الحافظ بن حجر في الفتح عن بعضهم، أو أن ذلك بالنسبة لبعض الموسوسين كما قاله علي المذكور، فهو قول باطل، والواجب إجراء الحديث على ظاهره، وعدم تأويله بما يخالف ظاهره؛ لأن الشياطين أجناس لا يعلم تفاصيل خلقتهم، وكيفية تسلطهم على بني آدم إلا الله سبحانه، فالمشروع لكل مسلم الاستعاذة به سبحانه من شرهم، والاستقامة على الحق، واستعمال ما شرعه الله من الطاعات والأذكار والتعوذات الشرعية، وهو سبحانه الواقي والمعيذ لمن استعاذ به ولجأ إليه، لا رب سواه، ولا إله غيره، ولا حول ولا قوة إلا به.
ونسأل الله سبحانه أن يثبتنا على دينه، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من اتباع الهوى ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين لكل خير، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يصلح قادتهم، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[4] سورة الإسراء الآية 82.
[5] سورة فصلت الآية 44.
[6] صحيح مسلم بشرح النووي (14 / 159 ).
[7] سورة الإخلاص 1.
[8] سورة الفلق 1.
[9] سورة الناس 1.
[10] سورة يونس الآية 57.
[11] سورة الإسراء الآية 82.
[12] سورة سبأ الآية 20.
[13] سورة يوسف الآية 103.
[14] سورة الأنعام الآية 35.
[15] سورة يونس الآية 99.
[16] سورة التكوير الايات 26 – 29.
نشرت في صحيفة المسلمون في العدد (549) بتاريخ 15/3/1416 هـ. وفي مجلة الدعوة في العدد (1504) بتاريخ 21/3/1416 هـ - مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الثامن
منقول