ثبات الأحكام الشرعية ، وضوابط تغيُّر الفتوى
أنزل الله شريعته التي جاءت في كتابه القويم القرآن الكريم وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم لتكون هادية للناس الصراط المستقيم ، ولتكون حاكمة على أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم إلى يوم الدين .
وقد ختم الله تعالى كتبه بالقرآن المجيد ، وختم رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم الرسول الأمين .
ومن ضرورة ذلك أن تكون الأحكام الشرعية التي تضمنتها تلك الشريعة الخاتمة شاملة وثابتة لا يشوبها نقص أو قصور ، ولا يعتريها تبديل أو تغيير .
وهذه قضية بدهية عليها أدلة كثيرة من النصوص الشرعية ، وليس من قبيل المبالغة إذا قلت إن هذه المسألة عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة .
* بين الحكم الشرعي والفتوى :
وقبل المضي قدماً في الموضوع يحسن التعريف بالحكم الشرعي وبالفتوى .
فالحكم الشرعي : « عبارة عن حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين » [1] .
والفتوى والفتيا : « ذكر الحكم المسؤول عنه للسائل » [2] ؛ أي « جواب المفتي » [3] .
و « الإفتاء : بيان حكم الواقع المسؤول عنه » [4] ، فالإفتاء هو عمل المفتي ، والفتوى هو ما يصدر عن المفتي .
والغالب أن الحكم الشرعي هو الحكم المتعلق بأفعال العباد على وجه العموم من غير التفات إلى واقع معين يرتبط به الحكم ، كالقول بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر وهكذا .
والغالب أن الفتوى هي ما كانت مرتبطة بواقع ما ، فالفتوى على ذلك هي تطبيق الحكم الشرعي على الواقع ، وإن كان في بعض الأحيان يأتي أحدهما بمعنى الآخر فهما مرتبطان ، ولا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان الحكم الشرعي منطبقاً على الواقع انطباقاً صحيحاً ، يقول ابن القيم - رحمه الله - في بيان علاقة الفتوى بالحكم الشرعي : « ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم .
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر » [5] .
وعندما استُفتي ابن تيمية - رحمه الله - في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط وأفتى بقوله : « نعم يجب قتال هؤلاء ، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين ، وهذا مبني على أصلين : أحدهما المعرفة بحالهم ، والثاني : معرفة حكم الله في مثلهم » [6] .
ومن البيّن هنا أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل ، وبالتالي فإن الفتوى تكون مرتبة عليها ، وقد يحدث أن يُستفتى المفتي في واقعة قد اجتمعت لها كل عواملها ، فيفتي بالحكم الشرعي الذي ينطبق عليها ، ثم تأتي واقعة أخرى مشابهة لها في الظاهر ، لكن بينهما فرق مؤثر في الحقيقة نتيجة غياب بعض تلك العوامل أو وجود عوامل أخرى ؛ فيفتي المفتي بحكم شرعي مناسب للحالة الجديدة ، وهو بطبيعة الحال مغاير للفتوى الأولى ، ومن هذا الوجه ونحوه على ما يأتي تفصيله في هذا المقال - إن شاء الله - قال من قال من أهل العلم بـ « تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد » [7] ،
فأخذت هذه الكلمة وأضرابها طائفة من المعاصرين وطاروا بها في كل حدب وصوب ، وصاحوا بها في كل واد وناد ، يرومون تغيير الشريعة وأحكامها إرضاءً وتجاوباً مع الأهواء مما لا يحبه الله ورسوله ، بل صارت عمدة من عمد الذين يريدون تحريف الدين تحت ما يزعمونه من ضرورة « تجديد الخطاب الديني » ، وفي هذا المقال نتعرض لمسألتين :
الأولى : أدلة ثبات الأحكام الشرعية .
الثانية : الضوابط التي من خلالها يمكن أن تتغير الفتوى .
* أولاً : أدلة ثبات الأحكام الشرعية :
والمراد بالثبات هنا بقاء الحكم الشرعي على ما هو عليه ودوامه وعدم تغيره لا بزمان ولا بمكان ولا بغير ذلك .
والأدلة على ذلك كثيرة كما قدمنا ، فمنها :
1 - قوله تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) ، فالدين قد كمل ، والنعمة تمت ، والتغيير فيما قد كمل نقْص ، وما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون بعدُ ديناً ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي يلزم عنه عدم التصديق بأن الله أكمل الدين ، وهو في الوقت نفسه رفض لنعمة الله التي أتمها علينا .
2 - قوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } ( الأنعام : 115 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - : « أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي » [8] ، والحكم الشرعي هو في باب الأمر والنهي ، وحيث تغير العدل كان الظلم .
3 - قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ( المائدة : 49 ) .
ففي هذه الآية ثلاثة أمور :
1 - الأمر بالحكم بما أنزل الله ( الشريعة ) .
2 - بيان أن ترك الحكم بها إنما هو اتباع للأهواء .
3 - بيان أن من الفتنة ترك بعض الشريعة .
وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته من بعده ، فكلهم مخاطب به ، ولا شك أن القول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد للحكم بغير ما أنزل الله ، ومؤد لترك بعض الشريعة ، وهذا اتباع للهوى ووقوع في الفتنة ، ولا يسلم المرء من ذلك إلا بالقول بثبات الحكم الشرعي وعدم تغييره .
4 - قوله تعالى : { وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ( الإسراء : 73 ) ، وهو يبين أن تغيير الحكم الشرعي إنما هو من الافتراء على الله عز وجل ، والافتراء على الله لا يجوز عند أحد من المسلمين ، فظهر من ذلك أن تغيير الحكم الشرعي أو القول بجواز ذلك محرم لا يجوز القول به ولا الإقدام عليه
وهذه الآية تدل على مدى حرص الكفار ورغبتهم في تغيير الحكم الشرعي ، حتى إنهم ليتخذون من يفعل ذلك أو يقوم به « خليلاً » ، والخُلة أعلى درجات المحبة
قال ابن جرير - رحمه الله - : « والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله » [9] .
5 - قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ }
( المائدة : 44 ) . وقال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
( المائدة : 45 ) . وقال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ }
( المائدة : 47 ) . فبيَّن الله تعالى أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، ومن قال بجواز تغيير الحكم الشرعي ، فهو إما حاكم بغير ما أنزل الله وإما مجوز لذلك .
6 - قال الله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ( الأنعام : 153 ) . فمن لم يتبع صراط الله المستقيم ( الكتاب والسنة ) اتبع سبل الشيطان ، ولا يمكن للمرء أن يتبع الكتاب والسنة مع القول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره .
7 - قال الله تعالى : { اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ( الأعراف : 3 ) ، فأمر الله الناس أن تتبع ما أنزل إليها من ربها خالقها ورازقها ، وبيَّن أن من اتبع غير ذلك فقد اتبع أولياء من دونه ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لاتباع الأولياء من دون الله .
ثم تهدد الله وتوعد من يتبع الأولياء من دونه ، فقال عقيب الآية المتقدمة : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } ( الأعراف : 4 ) .
8 - قال الله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الجاثية : 18 ) ، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الشريعة التي أوحاها إليه ، وبيَّن أن ترك شيء من هذه الشريعة إنما هو اتباع لأهواء الذين لا يعلمون ، ولا يمكن اتباع الشريعة كاملة مع القول بعدم ثبات الأحكام الشرعية أو بعضها وجواز تغييرها ، ثم بيَّن الله تعالى أن هؤلاء الداعين إلى ترك اتباع الشريعة بتغيير الحكم الشرعي ظالمون ، وأنهم لن يغنوا عن أحد شيئاً أو يدفعوا عنه شيئاً من عذاب الله ، فقال تعالى عقيب الآية المتقدمة : { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ } ( الجاثية : 19 ) .
9 - قال تعالى : { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } ( البقرة : 211 ) ، فقد توعد الله سبحانه وتعالى بالعقاب الشديد من يبدل نعمته التي أنعمها على العباد ، والأحكام الشرعية التي باتباعها استقامة العباد وصلاح الدنيا ، والنجاة من النار والفوز بالجنة من أجل النعم التي أنعم الله بها ، والقول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره هو من تبديل نعمة الله .
10 - قال الله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ( يونس : 15 ) .
وفي هذا من الدلالة على رغبة الكفار في أن يقع المسلمون في تغيير الأحكام الشرعية أو تبديل الوحي المنزل ، وقد بينت الآيات أنه ليس لأحد ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير الحكم الشرعي من تلقاء نفسه ، بل عليه أن يتبع الأحكام الشرعية التي يوحيها الله إليه ؛ لأن من فعل ذلك فقد عرض نفسه للعذاب العظيم
قال القرطبي - رحمه الله - : « إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك عذاب يوم عظيم هوله » [10] .
والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر ، ولو ذهبنا نتتبعها لطال بنا المقام .
وقد دلت السنة على ما دل عليه القرآن في ذلك ، فمن السنة :
1 - قوله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [11] ، أي مردود عليه ، والقول بتغيير الحكم الشرعي إحداث في الدين لم يأت به كتاب ولا سنة ، ولا أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مردود على صاحبه .
2 - قوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة » [12] .
فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاة في اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين اتبعوه وساروا على سنته ، وأمر أن يُعض على ذلك بالنواجذ تمسكاً بها ، وعدم الحيد عنها قيد أنملة ، وحذر من محدثات الأمور ، وبيَّن أن المحدثات في الدين ضلالة ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي يخالف كل ذلك ، فهو يخالف التمسك بالسنة ويوقع في المحدثات .
3 - قوله صلى الله عليه وسلم : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي » [13] .
فمن تمسك بالكتاب والسنة لم يضل أبداً ، والمفهوم من ذلك أن من لم يتمسك يضل ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لعدم التمسك بالكتاب والسنة أو ببعضها الذي تغير ، والأدلة على ذلك من السنة كثيرة أيضاً .
وبالنظر إلى أصول الفقه نجد أن علماء أصول الفقه يعرّفون الحكم الشرعي بأنه « خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد أمراً أو نهياً أو تخييراً أو وضعاً » [14] .
وخطاب الشارع هو الكتاب والسنة ، والقول بأنه يمكن تغيير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الشارع ، وخطاب الشارع لا يملك أحد من البشر أن يغيره ، وبالتالي فمن غير المستطاع القول بجواز تغيير الحكم الشرعي ، ومن وجهة نظر ثانية فإن القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان هو نسخ للحكم الشرعي ، هذا هو معنى النسخ عند الأصوليين ، فالنسخ يراد به عندهم « رفع الحكم الشرعي بخطاب » أو « رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر » ونحو ذلك [15] ،
فمضمون النسخ على ذلك هو تغيير الحكم الشرعي الثابت وإلغاء الحكم الشرعي القائم واستحداث حكم جديد ، لكن النسخ لا يكون إلا من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يعني أن النسخ قد انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعلى ذلك الأحكام الشرعية ثبتت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يدعو يوم القيامة على من بدل شيئاً من الدين بعده فقال صلى الله عليه وسلم : « ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلُّم ! فيقال : إنهم قد بدَّلوا بعدك . فأقول : سُحقاً سُحقاً » [16] ، وفي رواية : « سحقاً حقاً لمن بدل بعدي » ، والقائل بجواز تغيير الحكم الشرعي لا شك أنه داخل في هذا الحديث ، نسأل الله السلامة .
وقد بيّن ابن تيمية - رحمه الله - أن من يجوّز النسخ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو « يُجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم ، كما تقول النصارى أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة ، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة ، وليس هذا دين المسلمين » [17] .
وبالجملة فإن الأدلة على بطلان القول بتغيير الأحكام بتغير الزمان كثيرة جداً ، وفيما قدمت من الأدلة كفاية إن شاء الله .
قال الشاطبي - رحمه الله - في بيان ثبات الأحكام الشرعية وعدم تغييرها :
« فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ، ولا تخصيصاً لعمومها ، ولا تقييداً لإطلاقها ، ولا رفعاً لحكم من أحكامها ، لا بحسب عموم المكلفين ، ولا بحسب خصوص بعضهم ، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال ، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع ، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط ، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب ، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك » [18] .
إن القول بثبات الحكم الشرعي وعدم إمكانية تغييره من قبل أحد كائناً من كان إضافة إلى أنه الحكم الذي دلت عليه الأدلة كما تقدم ؛ يمثل ضمانة من أهم ضمانات استقرار أحوال الأمة ، واستتباب الأمن فيها ، ومنع الاستبداد ، ولقد أدرك أصحاب القوانين الوضعية أهمية الثبات وأثره في أمن المجتمع واستقراره فقالوا بثبات الدساتير ، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا لأنها من صنع البشر .
وإذ تقدم هذا فإنه من غير المقبول أن نجد من بين المعاصرين من يقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين : أحدهما ثابت ، والآخر متغير ، ويعرف المتغير بأنه « موارد الاجتهاد وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح » [19]
فهذا قول غير صحيح لأنه مخالف للدليل ، ولم ينقله قائله عن أحد من أهل العلم المعروفين السابقين على امتداد أجيال الأمة التي بلغت أربعة عشر قرناً وربعاً من الزمان وعلى اتساع مذاهبها الفقهية وتنوعها [20] .