المتنبي لم يكن شيعياً إمامياً!!
ولم يقدِّم دليلاً على ذلك إلا شبهات هي أوهى من خيوط العنكبوت. ثم أقرَّ بأخرَة بأن هذه الدعوى لا أساس لها من التاريخ، وأنه وصل إليها من خلال ما أسماه "منهج التذوُّق"، أي الشعور الحدسي الذي وجده وهو يقرأ شعر المتنبي ويرى تعاظمه لنفسه، فيبغي إذن أن يكون من سلالة أعظم العلويين!
فاهتبل رافضة عصرنا هذا الرأي، وزعموا أن المتنبي علوي إمامي، على طريقتهم المعروفة في الغشّ والتدليس العلمي وتجاهل النصوص التي تتعارض مع الغرض الطائفي! بل زعم أجدهم ـ واسمه محمود الملاح ـ أنه ابن الإمام الثاني عشر الغائب! في كتاب يضحك الثكالى!!
وأما التحقيق العلمي فالظاهر من جملة النصوص أن شيعة الكوفة في القرن الرابع كانوا زيدية مالكية. وذلك أن أعظم رجالاتها آنذاك هؤلاء الأربعة:
1 - أبو الحَسن محمَّد بن يحيى العلوي الزَّيدي، جار أبي الطيِّب المتنبِّي. وهو الذي قال للتنوخي المؤرِّخ (كان المتنبِّي وهو صبيٌّ ينزل في جواري بالكوفة، وكان يُعرف أبوه بعِيدان السَّقَّا، يسقي لنا ولأهل المحلة، ونشأ وهو محبّ للعلم والأدب فطلبه، وصحب الأعراب في البادية فجاءنا بعد سنين بدويًّا قُحًّا ...
قال أبو الحَسن : كان عيدان والد المتنبِّي يذكر أنَّه من جُعْفي، وكانت جدة المتنبِّي هَمْدانية صحيحة النسب لا أشكُّ فيها، وكانت جارتنا، وكانت من صُلَحاء النساء الكوفيات).
وقد كاد هذا الرجل أن يليَ الخلافة! فقد أراد معزّ الدولة ـ وهو زيديّ الهوى - خلع الخليفة العباسي ومبايعته بالخلافة لمّا دخل بغداد سنة 334، فصرفه عن ذلك وزيره الصَّيْمَري بقوله (إذا بايعتَه استنفرَ عليك أهَل خراسان وعوامَّ البلدان وأطاعه الديلمُ ورفضوك وقَبِلوا أمرَه فيك.
وبنو العباس قومٌ منصورون، تعتلُّ دولتهم مرَّةً وتصحُّ مراراً، وتمرض تارةً وتستقلُّ أطواراً، لأنَّ أصلها ثابتٌ وبنيانها راسخ)، فأطاعه معزُّ الدولة وأبقى على الدولة العباسية (انظر تكملة تاريخ الطبري للهمذاني 354).
وذكر البِيروني أن معزّ الدولة استدعى أحد العلويين من فارس لتسليم الخلافة إليه (المقفَّى 1/368، وملاحق كتاب المتنبِّي لشاكر 683).
ولا شكّ بأن المقصود أبو الحسن، بدليل أن الهمذاني ذكر إقامته بعَسْكَر مكرم من بلاد الأهواز (تكملة تاريخ الطبري 408).
2 - أبو الحَسن محمَّد بن عمر بن يحيى العلوي الزَّيدي، والظاهر أنه ابن أخي الرجل الأول، وكان عظيم القدر في الدولة البويهية. ولا شكّ بأن حاله من جهة المذهب كحال عمِّه وعشيرته.
3 - أبو الحسن بن أم شيبان الهاشمي العباسي، قاضي القضاة في الدولة العباسية كلها، وهو الذي قال للتنوخي المؤرِّخ (كنت أعرف أباه بالكوفة شيخاً يسمَّى عِيدان، يستقي على بعير له، وكان جُعْفيًّا صحيح النسب). وهو معدود في أعلام المالكية، ومترجم في كتب المذهب.
4 - المحدِّث الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، وهو زيدي.
وظاهر أن الرجلين العلويين المذكورين هما من أحفاد يحيى بن عُمَر الزَّيدي، حفيد زيد بن علي وزعيم الزَّيدية في القرن الثالث، الذي طلب الخلافة وثار بالكوفة في أيام المستعين وقُتل بها سنة 250، فرثاه ابن الرومي بقصيدته المشهور (أمامَكَ فانظرْ أيَّ نَهْجيكَ تَنْهَجُ)، وقد نصَّ ابن حزم على مذهبه بقوله (كان فاضلاً مالكيَّ المذهب حسَنَ القول في جميع الصحابة رضي الله عنهم ).
واسم عمر يدل بوضوح على أن القوم كانوا من أهل السنة والجماعة، وربما مع تشيُّع خفيف مقبول. ولا تعارُض بين الزيدية والمالكية؛ فالزيدية كانت آنذاك نسباً وعقيدة سياسيية ضمن أهل السنة والجماعة من حيث الجملة، والمالكية مذهب فقهي. ثم صار للزيدية دولة في طبرستان واليمن، واتَّجهت إلى الاعتزال، وصار لها مذهب فقهي مستقل، وكل ذلك بعد عصر المتنبي.
وقد أوضح أبو الطيِّب رأيه في الشيعة الإمامية الاثني عشرية، واستهزأ بأسطورة الغيبة ومهديِّ الإمامية! وقد وقعت حادثة الغيبة المزعومة في منتصف حياة أبي الطيّب، وهو الرجل الكوفي الذي ادَّعى الانتساب إلى العلويين ذات مرَّة! كمع أنه ان في الشام آنذاك، فقد يتابع أخبار العراق أولاً بأول، وما كانت هذه الحادثة الغريبة وما يدور حولها من خصومات وجدل مذهبي ليخفى على مثله.
فلما مدح ابن العميد بعد حادثة الغيبة بخمس وعشرين سنة ـ وهو رجل فارسيّ لم يكن صاحب دعوة مذهبية ولم يزعم أنَّه المهديّ ولم ينتسب إلى آل البيت، وبالتالي لم يُطالب الشعراء بمثل هذا الكلام ـ
قال له أبو الطيِّب:
فإن يكنِ المهديُّ مَنْ بانَ هَدْيُهُ * فهذا، وإلا فالهُدى ذا فما المَهْدي؟!
يعلِّلنا هذا الزَّمانُ بذا الوعدِ * ويَخْدَعُ عمَّا في يديه من النَّقْدِ
هل الخيرُ شيءٌ ليس بالخيرِ غائبٌ؟ * أو الرُّشْدُ شيءٌ غائبٌ ليس بالرُّشْدِ؟
يعلِّلنا هذا الزَّمانُ بذا الوعدِ * ويَخْدَعُ عمَّا في يديه من النَّقْدِ
هل الخيرُ شيءٌ ليس بالخيرِ غائبٌ؟ * أو الرُّشْدُ شيءٌ غائبٌ ليس بالرُّشْدِ؟
ولا معنى لهذه الأبيات إلا أنه يسخر بحادثة الغيبة ويعتبرها خدعةً من خدع الزمان ووعداً كمواعيد عرقوب، ويتَّخذ السخرية بها أداةً لكسب الدَّراهم، وقطعت جهيزةُ قول كلّ خطيب! فكيف لو عاش في عصرنا ورأى الرافضة ينتظرون خروج المهديّ المزعوم من السرداب!
وإليك شرح الواحدي لهذه الأبيات الثلاثة:
(1) إنْ كان المهديُّ في الناس مَنْ ظهر سَمْتُهُ وصلاحُه وهُداه، فهذا الذي نراه [أي ابن العميد] هو المهديُّ الموعودُ يملأ الأرضَ قِسْطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً. وإنْ لم يكن هو الموعود، فما نراه نحن من طريقته وسيرته هُدىً كلّه، فما معنى المهديّ بعد هذا؟
(2) الزمان يَعِدُنا خروجَ المهديّ، فيُعلِّلُنا بوعدٍ طويل، ويخدعنا عمّا عنده من النَّقْد بالوعد. يعني أن الممدوح هو المهديّ نقداً حاضراً، وما يُنتظر خروجُه وَعْدٌ وتعليلٌ وخِداعٌ.
(3) لا ينبغي أن يُعتقَد في الخير والشرّ الحاضرَيْن أنهما ليسا بخير ولا شرّ، كذلك لا ينبغي أن يقال: ليس ابنُ العميد المهديَّ والمهديُّ غيرُه. وهذا استفهامٌ معناه الإنكار.
واستنكر ابن مَعْقل الأزدي ـ وهو شيعيّ إمامي ـ هذا القول على أبي الطيّب لأنه يتعارض مع أصول المذهب فقال (لا يُنْكَر للمتنبِّي أن يدَّعي في ابن العميد أنه المهديّ! ولو علم أنه يزيده في العطاء بزيادته على ذلك لقال إنَّه نبي، بل قال إنَّه إله! وتهوُّره في هذا المديح يدلّ على تهوُّره في الضلال ووقوعه في الوبال! ).
وقال صاحب التببيان (لم يختلفوا في أنَّه [أي المهديّ] من قريش وأنَّه من ولد عليّ رضي الله عنه، إلا أبا الطيّب: فإنه جعله في هذا البيت أبا الفضل بنَ العميد ).
لقد كان قدماء الشيعة على شيء من الحياء والأمانة العلمية، وأما شيعة اليوم ـ من أمثال محسن الأمين صاحب أعيان الشيعة - فتبلغ بهم الخيانة والوقاحة أنهم يقرأوان هذه الأبيات الصريحة فيتجاهلونها ويزعمون أن المتنبي من طائفتهم!!
فالحاصل أن القول بأن المتنبي من الطائفة الشيعية الاثني عشرية كذب ظاهر، وغاية ما هناك أنه كوفي، والكوفة من معاقل الشيعة المعروفة. ولكنها الشيعة الزيدية. بل إن أشرافها كانوا على المذهب المالكي!
وغفر الله للأستاذ محمود شاكر، فهو الذي فتح هذا الباب!
والنقل
لطفــــــــاً .. من هنــــــــــــــــا