ما أن كادت دموعنا تجف، وقلوبنا عن اضطرابها تخف؛ حتى فُجعنا بعد عصر 22 / جمادى الأولى / 1420 هـ، الموافق 2 / 10 / 1999 مـ بوفاة إمام السنَّة، وعلم الحديث، الإمام المحدث شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -.
وكان لزاماً علينا أن نعرِّف الأمة بشيءٍ من حياته، وترجمة مختصرة عن أعماله، لعله أن يكتسب بسببها دعوة مِن محبٍٍّ، أو عدل من منصف.
اسمه ومولده
هو ناصر الدين بن نوح بن نجاتي الألباني، وقد أضاف إلى اسمه اسم محمد لما في اسمه الذي سمي به من تزكية، فكان أحق الناس أن يكون ناصر الدين هو نبينا محمد.
وقد ولد في مدينة ((أشقودرة)) في ألبانيا، سنة 1355 هـ، الموافق 1914 م، وقد توفي بعد عمر في هذه الفانية بلغ حوالي 85 سنة.
هجرته واستقراره
هاجر هو وأهله من ألبانيا، وكان عمره آنذاك تسع سنوات، حفاظاً من والده على دين أهله، واستقر به المقام في دمشق عاصمة سوريا، ثم تنقل بين بيروت والإمارات حتى استقر به المقام في عمَّان الأردن، حيث توفي فيها.
طلبه للعلم
كانت بدايته في طلبه للعلم رجمه الله مع كتاب الحافظ العراقي ((المغني عن حمل الأسفار))، وهو كتاب خرَّج فيه الحافظ العراقي كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، فقام الشيخ الألباني بنقل كتاب العراقي، وأتم أحاديثه، وشرح غريبه، وقد انتفع بهذا الكتاب كثيراً كما قال هو - رحمه الله -.
وقد كان لمجلة المنار، وبالأخص مقالات صاحبها محمد رشيد رضا أعظم الأثر في حياة الشيخ - رحمه الله - وتوجهه للعلم.
جهده في طلب العلم
ونذكر في ذلك حادثتين:
الأولى: أنه أصيب في عينه أيامه الأولى في الشام، وطلب منه الطبيب أن يمكث شهراً لا يعمل بمهنة الساعات، و لا يقرأ شيئاً! فمكث أياماً، ثم أصابه الملل، فطلب من بعض إخوانه أن ينسخ له من المكتبة الظاهرية في دمشق كتاب "ذم الملاهي " لابن أبي الدنيا.
فنسخ الناسخ حتى وصل إلى مكان فيه ورقة ضائعة، قطعت اتصال الكلام، فلما أخبر الشيخ بذلك طلب إليه الشيخ أن يستمر بالنسخ. فلما فرغ الناسخ وانتهت مدة العلاج؛ ذهب الشيخ يبحث عن تلك الورقة الضائعة في المكتبة الظاهرية، فظل الشيخ ينقب عن تلك الورقة، فلم يجدها، وفي تلك الأثناء كان يدون الأحاديث التي يقف عليها في المخطوطات، حتى دوَّن أكثر من أربعين مجلداً من الأحاديث بخط يده!! وكان عدد المخطوطات آنذلك حوالي عشرة آلاف مخطوطة!!
الثانية: وقد بلغت الهمة والجلَد عند الشيخ - رحمه الله - أنه كان ينسى معهما الطعام والشراب، فكان يأتي إلى مكتبة الظاهرية قبل موظفيها، ويخرج بعدهم!!
ويأتيه أهله بطعام الإفطار، فيظل على ما هو عليه إلى موعد الغداء، فيؤخذ طعام الإفطار ويوضع طعام الغداء! وهكذا مع العَشاء.
وقد ظل الشيخ الإمام - رحمه الله - على هذه الهمة إلى أن توفاه الله، فإذا كان يعجز عن البحث قرأ، فإذا عجز عن القراءة قُرِأ عليه.
ومن رأى همة الشيخ ونشاطه قبل مرضه الأخير لم يفرق بين أول حياته وبين هذه الأيام.
وإذا قيل للشيخ في رحلاته أن يرتاح، قال: إن راحتي في الكلام والبيان!! لا في السكوت.
رجوعه إلى الحق
والشيخ - رحمه الله - عرف عنه رجوعه إلى الحق، حتى أصبح متميزاً به، فكم من حديث صححه وانتشر في الآفاق بسببه، ولما تبين له ضعفه من بعد الطلبة تراجع عنه بقوة وإنصاف، ومثال ذلك حديث دخول المنزل ((اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج)) فهو حديث صححه الشيخ ثم تراجع عنه.
وقل الأمر نفسه في المسائل الفقهية العملية، كما هو الحال في مسألة جماع الزوجة بعد طهرها من الحيض، حيث كان الشيخ يرى أنه يكتفى بانقطاع الدم دون الغسل، ثم تراجع عنه إلى قول الجمهور، وهو عدم جواز الجماع إلا بعد الغسل. وهذا الأمر أعني تراجعه إذا تبين له الحق استغله بعض الجهلة والحساد لبيان أن ذلك من تناقضه ولم يدر هؤلاء أن هذا من أعظم أخلاق الدين، وقد قل أهله في هذا الزمان، فكم من إنسان جادل بالباطل من بعد ما تبين له الحق فأصر مستكبراً كأن لم يسمع الحق؟!!
والشيخ برأه الله من ذلك وكتبه طافحة برجوعه عن أقواله التي تبين فيها خطؤه ملياً، ولم ينقصه ذلك بل رفعه الله به، ولكن عند المنصفين العقلاء، وهذا هو المهم، والأهم أنه كان يراقب ربه ولا يهمه ما يقال بعد ذلك.
تعظيمه لاعتقاد السلف ومنهجهم
وقد كان الشيخ - رحمه الله - من أعظم المدافعين والمنافحين عن دين الله - عز وجل - في هذا القرن، حتى عدَّه بعض الأفاضل وهو الشيخ مقبل الوادعي - من المجدِّدين لهذا الدين، وقد سلك سبلاً كثيرة في توضيح اعتقاد السلف الصالح والدفاع والذب عنه، فكان أن أخرج للناس مختصر العلو للذهبي وضمنه تلك المقدمة الماتعة في بيان اعتقاد سلف هذه الأمة، وبيان زيغ أعدائها وضلالهم.
وكذلك أخرج للناس كتابه ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) وقد حذر فيه كثيراً من عمل المشركين الذي سرى إلى المسلمين في بناء الأضرحة والمقامات ودعاء الأولياء الأموات، والذبح والنذر عندها.
وأما منهج السلف وفهمهم للكتاب والسنة، فقد كان - رحمه الله - من أعظم المتمسكين به في نفسه، الداعين له من خلال كتبه وأشرطته، وقد كان قوله - تعالى -: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً)) شعاراً له - رحمه الله -.
كتبه ومؤلفاته
وهي بحمد الله كثيرة نافعة، ولا يُعلم له رسالة مكررة أو أنه يمكن للباحث أن يستغني عن العلم الذي فيها، وقد بلغ المطبوع منها حوالي 40 ما بين تحقيق وتأليف، وله من المؤلفات المخطوطة في خزانته ما لعله أن يبلغ ضعف هذا العدد.
وقد نفع الله بكتبه كثيراً من الناس، فنهلوا من علمها واستفادوا من التحقيق الذي فيها، وإن كان بعضهم سطا عليها سرقة منها دون أن يشير ولو بأدنى إشارة أنها لغيره، ويصدق على هذا قوله - تعالى -: ((ولا تحسبن الدين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..)) وينطبق عليهم قوله: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)).
ثناء العلماء عليه
وقد أثنى عليه أهل العلم ثناء عطراً، وهو يستحق أكثر منه، فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: ((ما علمت تحت أديم السماء أعلم بالحديث من الشيخ الألباني))، وللشيخ محمد بن صالح العثيمين ثناء عليه وقد وصفه بالعلامة المحدث، وقد أثنى عليه غيرهما، وقيلت فيه أشعار لطيفة يمكن للقارئ أن ينظرها في كتاب ((حياة الألباني)) لأخينا محمد بن إبراهيم الشيباني.
عداءُ أهل البدعة له
لا يحب الألباني إلا صاحب سنَّة، أو فطرة سليمة، ولا يبغضه إلا صاحب بدعة، أو جاهل بقدره، وقديماً قال السلف: ((من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر)).
وقد تكالب على الشيخ - رحمه الله - أهل البدع والضلال من جميع الطوائف والفرق، فكان - رحمه الله - كالطود الشامخ يرد على هذا، ويفند شبهة هذا، حتى أتى على بنيانهم من قواعده فخر عليهم السقف من فوقهم.
فتوى الهجرة من فلسطين
وقد شنع على شيخنا بعض المشاغبين من أهل الجهل؛ فراح يُلبس الشيخ رداءً ليس له، ويحمِِّل كلامه ما لم يحتمله، أو يزوِّر الحقائق التي أتى بها الناس.
وملخص هذه المسألة أن الشيخ - رحمه الله - سئل عن أناس يعيشون في بلادٍ لا يستطيعون إظهار شعائر دينهم فيها، فقال لهم الشيخ بوجوب الهجرة إلى بلاد يستطيعون فيها ذلك استدلالاً بقول الله - تعالى -: ((قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)) وهذا تبكيت من الملائكة لمن ظلَّ بين الكفار أو العصاة فأثر ذلك في دينه فاحتج على فعله بغيره.