رد على كاتب صوفي يحتج بالرؤى
التحقيقات الفاضحة لحقيقة الدلائل الواضحة
رد على رسالة المدعو محمد بن الأزرق المسماة:
(الدلائل الواضحة على سنة الاستدلال والعمل بالرؤى الصالحة)
قال الإمام مالك :
(الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.)
كتبها
أبو عبد الله طارق بن عبد الرحمن
الحمودي التطواني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فهذه رسالة كاشفة لحقيقة كتاب (الدلائل الواضحة على سنة( ) الاستدلال والعمل بالرؤيا الصالحة) لمحمد بن الأزرق الطنجي المنسوب إلى جماعة العدل والإحسان الصوفية عندنا بالمغرب,ولأتباعهم بمدينة طنجة صلة قوية بالطائفة الدرقاوية التي ينسب إليها السقاف وصاحبه المصري, قصدت فيها إلى أدلته التي زعم أنها حجج على استحباب العمل بالرؤى في الأحكام, وتصديق ما فيها من غيبيات,فرددت عليها بإنصاف إن شاء الله, وما أفلح الأخ في انتقاء أدلته , إذ غالبها ضعيف, وباقيها لا تقوم به الحجة لما ادعاه, وسأحاول بيان ذلك إن شاء الله, ولست أدعي عصمة في ذلك, فكلنا خطاء, وقد نظمت ردي موافقا ترتيب أدلته في كتابه, كي يكون أبلغ في بيان حقيقة كل دليل من أدلته على حدة,وأود نصيحة مقدم كتابه هذا أحمد بوعود في ما يخص مقدمته
فأقول له: غفر الله لي ولك , قد كان الأولى أن تنزه نفسك عن توريطها في تبعات ما ورد من تجاوزات في هذه الرسالة, فكونك مفكرا إسلاميا كما وصفك الأزرق لا يسوغ لك الحديث في هذه المسألة بالطريقة التي تناولتها بها, فإن هذا مضمار يخص أهل العلم لا المفكرين, فكلنا مفكر يا أستاذ, ولا أدل على ذلك من حديث رواه الترمذي أوردته في أواخر المقدمة وهو حديث أم سلمة وفيه (أنها رأت النبي في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب فقال لها : شهدت قتل الحسين)
ولا أخفيك استغرابي منك, كيف يرى النبي على رأسه التراب وهو سيد ولد آدم ولو مناما , فقد كان هذا كافيا ليثنيك عن إيراده في مقدمتك, الحديث ضعيف يا أستاذ , ضعفه الترمذي نفسه فقال : حديث غريب, والمعروف عند المحدثين وطلبة الحديث أن قوله ذاك تضعيف منه للحديث,وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (3771) ,ولا حول ولا قوة إلا بالله, ولو سكت من لا يعلم لقل الخلاف كما قيل.
ومن الإنصاف أن أذكر كلمة جميلة للأستاذ قالها صادقا إن شاء الله, وهي تخالف ما تضمنه كتاب الأزرق ونصها: (الرؤيا من مبشرات النبوة, وقصها والسؤال عنها سنة نبوية, كما أن مضمونها , كما لا يضيف تشريعا, فهو مما يحمل بشرى للمؤمن تستحثه على الزيادة في الخير, وتبين له أمر الأعمال الصالحة, أو تحذير عن المضي في أمر ليس له حسن عاقبة وآل عند الله عز وجل ومصيره عنده, أو مصير ذلك في مجتمعه).
هذه عقيدتنا
الحمد لله أما بعد :
فهذا تنبيه بين يدي الرد ,كي لا يظن أحد أننا لا نسوغ العمل بالرؤى مطلقا, فالصحيح أننا ممن يرى ذلك بشروط فإنه: (لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر ,وأنذر وندب وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة والإلهام الصحيح والكشف الواضح والرؤيا الصالحة كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على طريق من الصواب وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع لكن مع مراعاة شرط ذلك ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران:
أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل بمقتضى ذلك أمرا ونهيا وتحذيرا وتبشيرا وإرشادا مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه شأن كل عمل صدر منه( ) ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام( ) .
والثاني عمل الصحابة رضى الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي.
ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم, ولكن يبقى هنا النظر في شرط العمل على مقتضى هذه الأمور ,وذلك أن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ولا قاعدة دينية( ) فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكما شرعيا ليس بحق في نفسه بل هو إما خيال أو وهم وإما من إلقاء الشيطان وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص كما تقدم في المسألة قبل هذا وأصله لا ينخرم ولا ينكسر له اطراد ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده مضادا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل).
قاله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (2/200 إلى 203)
الدليل الأول
رؤيا المؤمن وحي
قلت : قال ابن عباس: ( الرؤيا الحسنة بشرى من الله)
الدليل الأول
ذكر الأزرق قوله تعالى :(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب, أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء, إنه علي حكيم)وقال : (وحيا) أي مناما عند كثير من أهل التفسير , فالرؤيا من طرق تكليم الحق تعالى لعباده.
قلت : ذكر الأزرق كلاما ونقلا عن ابن تيمية وابن القيم في أن الله يوحي لغير الأنبياء بطريقة مجملة لا تسمن ولا تغني من جوع, ولذلك رأيت أن أفرد الرد على ما أورده هناك في رسالة مستقلة حرصا على الموضوعية في الرد.سميتها : (إتحاف السادة النبلاء بحقيقة الوحي لغير الأنبياء).وسأخرجها قريبا عن شاء الله.
الدليل الثاني
قال: قال النبي : (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت, فلا رسول بعدي ولا نبي . قال : فشق ذلك على الناس, فقال : لكن المبشرات, قالوا : وما المبشرات ؟ قال : رؤيا المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة . قال في الهامش : رواه الترمذي وصححه.
قال : فقد أثبتت هذه الأحاديث أن الرؤيا الصالحة جزء من النبوة, أي طريق من طرق الوحي للأنبياء , شاركهم فيه المؤمنون, فتأكد عموم الآية.
قلت : كلام ابن الأزرق هزيل المبنى, فليس للوحي الخاص بالأنبياء وجود بعد وفاة النبي , لأنه لازم للنبوة طردا وعكسا,إيجابا وسلبا.فنفي النبوة يستلزم نفي الوحي, ونفيه يستلزم نفي النبوة. وقد قال النبي : (إن الرسالة والنبوة قد انقطعت), فدل ذلك أن الوحي انقطع. وبهذا تعلم خطأ قول ابن الأزرق : (شاركهم فيه المؤمنون), لأنه لو أثبت الوحي بعد رسول الله للزمه أن يثبت نبوة بعده, وهذا مردود شرعا.فبقي أن رؤيا المؤمن ليست من ذاك الوحي, إنما هي مبشرات كما قال النبي . فالحديث يدل على أن الرؤيا بالنسبة للأنبياء أخص من الوحي, فالوحي أنواع, الرؤيا نوع وتكليم الملك نوع وكلام الله نوع.وإثبات الأخص بالنسبة لهم يستلزم إثبات الأعم. بخلاف غيرهم, فالرؤيا بالنسبة لهم أعم من الوحي, فالرؤيا تنقسم إلى نوعين, رؤيا وحي وهي رؤيا الأنبياء, ورؤيا غيرهم وهي الرؤى المبشرات,وإثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص.
وقد يقول قائل: إذا كانت الرؤيا جزءا من الوحي, فهي أيضا وحي.والجواب أن هذا صحيح بالنسبة للأنبياء لما سبق ذكره, أما بالنسبة لغيرهم فلا. فإنك لو قلت في من هو دون النبي : الرؤيا وحي, والوحي نبوة, لكانت النتيجة : (الرؤيا نبوة), وهذا خطأ. وستقول : هذا صحيح بالنسبة للنبي. وهذا هو المقصود.لأن رؤيا الأنبياء حق. ورد الحافظ هذا بطريقة أخرى فقال في الفتح (12/375/دار المعرفة) : (ظاهر الاستثناء أن (الرؤيا نبوة) وليس كذلك لما تقدم أن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له, كمن قال أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا ولا يقال أنه أذن وإن كانت جزءا من الأذان وكذا لو قرأ شيئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة)
هذا في الوحي الخاص بالأنبياء, أما الوحي الأعم والذي تحته وحي الإلهام وغيره فلا محل له من الكلام هنا.ولا ينبغي ذلك.
الدليل الثالث
قال : عن عبادة بن الصامت أن النبي قال : (رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبدَ ربَه في المنام) وهو حديث صحيح,صححه الألباني , وقد خرجته وتكلمت على أسانيده في (رفع الملام)
قلت : ذكر الحديث وذكر مصادره ثم ذكر تضعيف الشيخ الألباني لرواية ابن أبي عاصم بحمزة بن عبد الله بن الزبير وترجيحه أنه حمزة بن الزبير.
وقال : أما حمزة فليس كما قال الشيخ رحمه الله, بل هو حمزة بن الزبير بن العوام.
وثقه العجلي فقال في معرفة الثقات : حمزة بن الزبير مدني تابعي ثقة
ثم هو مشهور في كتب السنة والفقه بحديث في الرضاع, فعن زينب بنت أبي سلمة ...وذكر الحديث
ثم قال :وهذا الحديث يدل على أن الزبير كان من سادات التابعين, معروفا لدى الصحابة الأطهار, فهو وإن لم يرو عنه إلا جنيد, في عداد المستورين, الذين يحسن حديثهم إذا لم يكن منكرا.
قال في الجنيد بن ميمون : صوابه سعيد بن ميمون .فقد قال المناوي في تخريج الحديث في فيض القدير (4/12) :ورواه عنه الحكيم في نوادره, قال الحافظ :وهو من روايته عن شيخه عن ابن أبي عمر, وهو واه, وفي سنده سعيد بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة .
حكم عليه بالجهالة الحافظ ابن حجر في التقريب ( 241 ),وهذا حكم غير مقبول, فقد روى عنه غير واحد, وترجمه البخاري في الكبير, وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بما يدل على أنه معروف , وسكتا عنه ,وأورده ابن حبان في الثقات, ولذلك سكت عنه الذهبي في الكاشف والمزي ,فكان رأيهما أسلم من حكم الحافظ رحمه الله (ص41)
قلت :
غفر الله لي ولك. وطهرني وإياك من العمى. والذي حصل لك أيها الأستاذ أنك وقعت في أحد أكثر الأخطاء التي يقع فيها المتطفلون على علم الحديث . فلا عليك واحذر هذا مرة أخرى.
إن تصحيحك كون جنيد سعيد بن ميمون اعتمادا على نقل المناوي عن الحافظ خطأ, فإنك لو راجعت كلام الحافظ في الفتح (14/376) في شرح كتاب التعبير من صحيح البخاري, لوجدت أن الذي وقع في كلامه هو جنيد بن ميمون, لا سعيد, وهذا من الأخطاء التي تقع بسبب الاعتماد على الوسائط تقليدا دون الرجوع إلى الأصول, وما كان ينبغي لك أن تقع في هذا وأنت المنابذ للتقليد, والمجتهد الناقد بمنظار المحدثين, وخريج دار الحديث. وعلى كل فجَلَّ من لا يسهو.
وأنبهك إلى الخطأ الثاني الذي وقع لك عافاني الله وإياك من مرض الخلط بين الرواة, وهو أن سعيد بن ميمون رجلان, أحدهما يروي عن نافع عن ابن عمر حديث الدم عند ابن ماجة ولا يعرف إلا بهذا الحديث
قال المزي في تهذيب الكمال : روى له بن ماجة هذا الحديث الواحد ,وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : هو مجهول وخبره منكر جدا في الحجامة.وقال في التقريب : مجهول من الثامنة,وقال الذهبي في الميزان (3/234) : سعيد بن ميمون (ق) عن نافع تفرد عنه عبد الله بن عصمة في الحجامة.
وبناء على القواعد التي لا أحتاج إلى تذكيرك بها,فإن سعيدا هذا مجهول كما قال الحافظ ولا ينكر عليه .
وأما سعيد الآخر فهو الذي ترجم له ابن حبان فقال: سعيد بن ميمون ,كوفي يروي عن البراء بن عازب عداده في أهل الكوفة روى عنه شريك
وقال ابن أبي حاتم : سعيد بن ميمون كوفي روى عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :من غشنا فليس منا روى عنه شريك سمعت أبي يقول ذلك.وكذلك قال البخاري في التاريخ
وأنت ترى معي جيدا أنه يروي عن البراء, يعني أنه تابعي كما تعلم حفظني الله وإياك
ثم إنك أيها الأستاذ نقلت كلام الحافظ في التقريب,ولم تنتبه إلى كلمة كتبها الحافظ بعد ذلك وهي :(من الثامنة) ولست ألومك, فلعلك لا تعرف منهج الحافظ في التقريب, ولا تعرف التفرقة بين الطبقات ,فعلمني الله وإياك ذلك, وأقول لك : إن معنى من الثامنة ,أي أنه من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين,وهذا يدل على أنهما رجلان لا رجل واحد , فكان الأولى بخريج دار الحديث أن يتأنى ويحتاط, ولكنه النقد بمنظار المحدثين الذي يفعل هذا بك, ولست ألومك.
وانظر الصحيحة رقم (215)
ولا يفوتني أن أنبه إلى خطأ لعله من الأخطاء المطبعية وهو نصبهم لكلمتي العبد والرب, وصورتها : (رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبدَ ربَه في المنام, والصحيح ربُه بضم الباء .
قال ابن الأزرق :ورواه ابن أبي عاصم وابن منده في ترجمة الطبراني من طريق صفوان عن حميد بن عبد الرحمن عن عبادة
وذكر ترجيح الألباني كونه خطأ من الناسخ وأن الصواب حميد بن عبد الله بأربعة مرجحات وردها مجوزا كون ابن عبد الرحمن يروي الحديث أيضا معللا ذلك بأنه في نفس طبقة ابن عبد الله المدني أو المزني وهذا مجرد تخمين لا يقوم على ساق.
وأعيد صياغة مرجحات الشيخ الألباني مع مرجحات أخرى.
سمي الراوي عن عبادة في رواية عبد الوهاب بن نجدة الحوطي عن إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو (حميد بن عبد الرحمن) عند ابن منده وابن أبي عاصم
وعند الطبراني في مسند الشاميين عن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي أيضا عن إسماعيل بن عياش عن صفوان عن حميد بن عبد الله. وتابع إسماعيل بن عياش الوليد بن مسلم, وتابع صفوان على ذلك الأحموسي عند الطبري .وتابع ابن عياش أبو المغيرة عند الطبري أيضا في جميعها عن حميد بن عبد الله.
أن السيوطي أورده في الدر المنثور من رواية الحكيم الترمذي وابن مردويه عن حميد بن عبد الله.
الدليل الثاني والثالث
عمل الأنبياء والنبي بالرؤى
قلت : قال ابن عباس :( رؤيا الأنبياء وحي)
قال : فإن قلت : إن دليل تخصيص النبي بجواز العمل بالرؤى هو قول ابن عباس (رؤيا الأنبياء وحي), فهو دال بمفهومه على أن رؤيا غيرهم ليست وحيا:
قلنا : هذا فهم لا تحسد عليه, وليس لك فيه سلف ولا خلف... ومفهوم المخالفة يا عزيزي لا يحتج به إذا كان يقابله المنطوق, وهو الأحاديث الدالة على أن المبشرات جزء من النبوة.
قلت : بل هو فهم يغبط عليه, ولا ينتبه إليه مثلك.فقد قال به جمع من الأذكياء. ومن أدلتهم على خصوصية كون الرؤيا حقا بالأنبياء ما رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/294) عن معمر عن عوف عن أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين قال :قال رسول الله فلا أدري أقال في المنام أم لا ,و(كان منامه وحيا): رأيت كأن رجلا شق أحد شدقيه... ) وقوله :(إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)..قال ابن عبد البر في التمهيد (21/73) عقب ذكره لهذا الحديث : (ولهذا قال ابن عباس وغيره من العلماء :(رؤيا الأنبياء وحي).وقال الزرقاني فيه أيضا في شرحه للموطأ(1/352): (ولذا قال ابن عباس وغيره من العلماء : (رؤيا الأنبياء وحي) ولو سلط النوم على قلوبهم كانت رؤياهم كرؤيا من سواهم,ولذا كان ينام حتى ينفخ ويسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ لأن الوضوء إنما يجب بغلبة النوم على القلب لا على العين).قال الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرح حديث رؤيا النبي صورة عائشة في سرقة من حرير : (رؤيا الأنبياء وحي, وعصمتهم في المنام كاليقظة).
وقول ابن عباس تعليل لوجوب تصديقهم لرؤاهم. وقد روى البخاري عن عائشة قالت :( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).أي أن ما كانوا يرونه في منامهم وحي كوحي اليقظة. وقد قال النبي كما في صحيح مسلم :( لست كمثلكم). قال ابن العربي في أحكامه: (اِعلم أن رؤيا الأنبياء وحي فما ألقي إليهم ونفث به الملك في روعهم وضرب المثل له عليهم فهو حق).
وأما قولك : (ومفهوم المخالفة يا عزيزي لا يحتج به إذا كان يقابله المنطوق, وهو الأحاديث الدالة على أن المبشرات جزء من النبوة).فخطأ.فليس هناك تعارض بينهما.إذ شرط صحة القول بتعارضهما اتحاد موردهما, وهذا مالم ينتبه إليه ابن الأزرق, فمفهوم أثر ابن عباس يدل على أن رؤيا غير الأنبياء ليست وحيا. ومنطوق تلك الأحاديث يدل على أن الرؤيا جزء من النبوة.وقد بينا أن هذا لا يعني كون الرؤيا نبوة مطلقا,وأظنك لا تعرف ما تقول, فقصد ابن عباس بقوله (وحي) أي حق يعمل به لصدقه لأنه من الله, ولا يجوز لأحد غيرهم أن يعتبر رؤياه مجردة في الأحكام والغيبيات. ويفسر هذا قول قتادة في قوله تعالى : (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك)(الصافات: من الآية102): (رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه).فهل يجوز لأحد ذبح ابنه لرؤيا رآها تشبه رؤيا إبراهيم عليه السلام, اللهم لا, وهذا هو الفرق بين رؤيا الأنبياء ورؤيا غيرهم. قال ابن حزم رحمه الله تعالى في الفصل (3/190 ): (وأما رؤيا غير الأبياء فقد تكذب وقد تصدق, إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته, حاشى الأنبياء فإنها كلها مقطوع على صحته) .
وساق ابن الأزرق أمثلة كثيرة فيها أخذ النبي برؤاه ورؤى الصحابة, ثم قاس على ذلك غيره , وخلص إلى جواز أخذ غير النبي بالرؤى في العقائد والأحكام, ولم يلحظ الفرق بينه وبين غيره. فالنبي مؤيد بالوحي, ولا يقر على خطأ, وتصديقه برؤى أصحابه معصوم بوحي الله تعالى, فإقرار الله تعالى له دليل على صدقها. فكيف يعلم غيره ذلك, وقد انقطع الوحي. هذا مربط الفرس كما يقال . والله الموفق.