رفع اللبس عن حديث سجود الشمس
مع زيادات وتصحيحات واستدراكات وفوائد علمية.
((أقول من أنعم النظر في الرواة والمرويات ومساعي أئمة الحديث في الجمع والتنقيب والبحث والتخليص والتمحيص عرف كيف يثني عليهم، وأبقى الله من بعدهم ما يتم به الابتلاء وتنال به الدرجات العلى ويمتاز هؤلاء عن هؤلاء وقد أسلفت أن الاستشكال لا يستلزم البطلان. بدليل استشكال كثير من الناس كثيراً من آيات القرآن، والخلل في ظن البطلان أكثر جداً من الخلل في الأحاديث التي يصححها الأئمة المتثبتون)).
"الأنوار الكاشفة ، عبدالرحمن المعلمي اليماني "
===================
سأل سائل فقال: قد أشكل علي معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن سجود الشمس تحت عرش الرحمن. كيف تسجد ؟ ومالنا لا نرى ذلك ؟ ثم إن الحديث الشريف يذكر أنها تصنع ذلك بعد غروبها مع أنها تغرب عن أهل كل بلد فإذا كان الأمر كذلك فإنها تسجد في كل وقت لأنها غاربة في كل وقت عن بلد من البلاد. فما العمل؟ أفيدونا رحمكم الله وزادكم الله علماً.
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، لا حول ولا قوة إلا بالله و ما توفيقي إلا بالله وما أصابني من خذلان فمن نفسي والشيطان ، فاغفر لي اللهم خطئي وعمدي وجدي وهزلي وكل ذلك عندي:
الحديث الذي ذكر فيه سجود الشمس حديث صحيح وأصله في الصحيحين من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه :
أخرجه البخاري رحمه الله في بدء الخلق عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب ؟ قلت الله ورسوله أعلم ؟ قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقديرالعزيز العليم .
وأخرجه أيضاً في باب تفسير القرآن عن أبي ذر رضي الله عنه بلفظ :" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟ قلت الله ورسوله أعلم ؟ قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى: والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم .
وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ؟ قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم ذاك حين يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
وكذا أخرجه الترمذي في جامعه وأحمد في مسنده بألفاظ متقاربة .
واعلم أن الغرض من هذا البحث ليس إثبات صحة الحديث فهو صحيح بلا ريب ، وإنما الغرض نفي الامتناع ، أي امتناع حصول سجود الشمس واستئذانها مع كون الناس لا يستنكرون من أمر سيرها وجريها شيئا. أما من يرمي جاهداً إلى إثبات الامتناع فيلزمه – قبل أن يمشي خطوة واحدة - الإحاطة بحقائق ثلاث أمور عليها يدور معنى الحديث فإذا أحاط بحقائقها وتيقن من ذلك حق اليقين فليأتنا بالدليل القاطع على ما حصلّه من علم (وما أظنه قادر على ذلك) وهذه الحقائق هي :
1- حقيقة العرش.
2- حقيقة حركة الشمس.
3- حقيقة سجود الشمس.
أولاً: حقيقة العرش:
فالذي يمكن قوله هنا هو أن نقص الإحاطة بحقائق هذه الثلاث مؤثر ولا بد في مقدار الفهم و طريقة الإدراك ، فما بالك إذا كان المرء يجهل أكثر حقيقتها وعلى رأس هذه الأشياء حقيقة العرش الذي لا يعلم حقيقة كيفيته و هيئته و حجمه وصفته إلا الله وحده. وليس لنا أن نتكلف للعرش من الأوصاف ما لم يجيء بها القرآن والسنة. فنؤمن بأنه عظيم القدر حجماً و وزناً. أما عظم حجمه فقد جاء في الحديث (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، و فضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة) السلسلة الصحيحة رقم:109 ، وأما عظم وزنه فقد جاء عند مسلم من حديث جويرية بنت الحارث (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وكانت تسبح بالحصى من صلاة الصبح إلى وقت الضحى فقال: لقد قلت بهدك أربع كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضى نفسه). قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة العرشية (فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان).
وللعرش قوائم ففي الصحيحين عن أبي سعيد قال (جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه ؛ فقال : يا محمد رجل من أصحابك لطم وجهي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوه فدعوه فقال : لم لطمت وجهه ؟ فقال : يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول : والذي اصطفى موسى على البشر فقلت : يا خبيث وعلى محمد ؟ فأخذتني غضبة فلطمته . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية (فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم) . أما إذا شغبنا بطلب الإيغال في معرفة حقيقة حجم العرش وحقيقة قوائمه وسائر أحواله وصفاته فهذا مما لا علم لنا به ، و هو الحد الفاصل الذي يستوي عنده العالم والجاهل ع فيبقى الكل عاجزاً حسيراً عن تصور ماهيته ومعرفة أصل حقيقته ، والخوض في حقيقة ذلك تكلف منهي عنه ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم و اختلافهم على أنبيائهم)
ثانياً: حقيقة حركة الشمس:
وكذا حقيقة حركة الشمس. فالحديث صريح في أن الشمس هي التي تتحرك وأنها غير ثابتة ولا يقولن مسلم: لكن الحق الذي لا مرية فيه أن الشمس ثابتة لأن هذا غير ثابت بطريق القطع الحسي كما سنرى ولا يوجد إجماع كامل من كل العلماء على ذلك بل يوجد فريق كبير من العلماء المعاصرين على خلاف هذا الرأي كما سيتبين لاحقاً. وأنبه هنا على أني لست بصدد بعث استنهاض النقاش حول ثبوت دوران الشمس من عدمها أو دوران الأرض من عدمها وإنما القصد الأهم عندي هو التأكيد على أن هذه النظريات ليست محل اتفاق كلي أبدي سرمدي وأن حقيقة حركة الشمس أمر لم يحسم حسماً تاماً كما سيظهر إن شاء الله. أعود فأقول لم يطبق على أمر ثبات الشمس كل علماء الفلك والفيزياء ولم يتفقوا عن بكرة أبيهم على ضد ذلك وإن اتفق أكثر الناس لشهرة المعلومة لا لثبوتها لديهم من طريق حسي يقيني. لم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القول بثبات الشمس يستند إلى شاهدٍ قطعي من الواقع الملموس. غاية ما هنالك أن هذا النموذج الذي يسمونه النموذج الشمسي (heliocentric) والذي وضعه كوبرنيكس استحسنه وفضله العلماء لأنه أنسب من جهة الحساب في تفسير دوران الكواكب وحركة الأجرام. وقد نص كثير من كبار علمائهم مثل "فرد هويلي" و "بول ديفس" و "برتراند رسل" على احتمالية هذه المسألة وخضوعها لمبدأ النسبية أكثر من كونها نظرية أضحت حتماً مقضياً. وصرح آخرون مالفيسلوف الأمريكي والتر ستيس بأنه لو قال أحد أن الشمس هي التي تدور لا يمكن لأحدٍ أياً كان أن يبرهن (بطريق الحس) على خطأه إلا إذا استطاع أن ينظر للكون كله من الخارج ويرى ذلك وهذا مستحيل في الوقت الراهن. ولذلك يؤكد الفيزيائي المعاصر بول ديفس على أنه لن نتمكن أبدًا من التأكد من صحة هذا التصور مهما بدا دقيقًا وعليه (فليس لنا أن نستبعد كليٌّا أن صورة أكثر دقة قد تُكتشف في المستقبل).
ومن هنا دافع مؤيدوا كوبرنيكس نفسه عنه أمام الكنيسة – التي عارضته - وقالوا (بأن النموذج الذي قدمه كان مجرد تحسين رياضي مفيد لتحديد أماكن الكواكب في المجموعة الشمسية، وليس تمثيلاً حقيقيٌّا لواقع العالم).
وقد ظهر الآن فريق من العلماء يعرفون ب (Neo-geocentric scientists) أي "علماء النموذج الأرضي المتأخرين/ المعاصرين" و يؤيدون في نموذجهم بأدلتهم الجديدة النموذج الأرضي القائل بثبات الأرض ودوران الشمس. ولذلك لم يجرؤ عالم معتبر على زعم ثبوت النموذج الشمسي بطريق الحس وإن كان لديهم قرائن ليست بأفضل من استحسانهم الرياضي للنموذج. ومع كونه رياضيا فإنهم لم يجعلوا الحساب فيصلاً يقينياً لأن جمهورهم متفقون على أنه لا يلزم من صحة النتيجة الرياضية مطابقتها للحقيقة الفيزيائية الخارجية من كل وجه ، وقد اشتغل الفيزيائي ستيفن هوكنغ ردحاً من الزمن بتفسير ما أسماه الثقوب السوداء بالاعتماد على الرياضيات والمعادلات حتى اغتر هو وكثير من العلماء – فضلاً عن عوام الناس - وكادوا يقطعون بوجود هذه الثقوب لولا أن هذا العالم أعلن قبل عدة أشهر أنه لم يتوصل إلى نتيجة مرضية وأنه لا يوجد ما يمكن الاعتماد عليه للقطع بوجود هذه الظاهرة سوى التخمينات الرياضية. ولنضرب على ذلك مثلاً من فيزياء الكم أو الفيزياء الكمومية والتي اعتبرها العالم الألماني البرت أينشتاين ضرباً من الخرافة لما انطوت عليه من أمور يظن السامع لها أنها تخالف صريح المعقول ، ومع ذلك فالعلماء الملاحدة يؤمنون بأعاجيبها وغراباتها ويستميتون في الدفاع عنها ، أفلا نؤمن نحن بقدرة العزيز الحكيم الخبير العليم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ؟
النظرية التي أوردها مثالاً هنا تتعلق بالتجربة المشهورة التي اقترحها شرودنجر وأسموها فيما بعد بتجربة قطة شرودنجر. وهذه التجربة مثال مشهور على الانفصام بين الصحة الرياضية والواقع الفيزيائي لظاهرة ما ولذلك قال عنها العالم البريطاني ستيفن هوكنج :"كلما سمعت عن قطة شرودنجر مددت يدي نحو المسدس !!" أي يريد أن يقتل نفسه لأن المعادلة تبدو صحيحة رياضياً ولكنها مستحيلة في الواقع فكيف يحصل هذا التناقض المحير؟
وتجربة شرودنجر هذه مبنية على مبدأ الاحتمالات الرياضية وذلك بافتراض وجود قطة داخل حاوية مغلقة بها علبة غاز سام وهناك خطاف يتدلى منه مطرقة معلقة فوق هذه العلبة فلو افترضنا أن نسبة احتمال تحرك هذا الخطاف هي النصف 50% بحيث يرخي المطرقة لضرب علبة السم ومن ثم موت القطة لبقي هناك نسبة أخرى كذلك هي 50% تضمن سلامة القطة من موتها بهذا الغاز السام وبالتالي يكون الاستنتاج الرياضي الصحيح هو وجود الاحتمالين معاً لأنه لا يوجد سبب منطقي لإهمال أحدهما وبالتالي فالقطة حية وميتة في نفس اللحظة !! ولكن الشيء المبهر من حيث الواقع الفيزيائي هو أنه لا يمكن أن يكون هناك إلا احتمالا واحدا من احتمالين : إما حية أو ميتة !! فأي التفسيرين أصوب: الرياضي (العقلي) أم الفيزيائي (الحسي)؟
ومما يجدر التنبيه عليه هو أن اختلاف زمان ومكان الملاحظين مؤثر في الحكم على الأعيان المتحركة التي تشغل زماناً ومكاناً مختلفين كذلك. وهو ما يسمى "بالإطار المرجعي" للأشياء أو (frame of reference). ومن الأمثلة البسيطة التي يضربها أصحاب النظرية النسبية للتمثيل عليها هو وجود ملاحظين يشاهدان قطاراً واحداً هذا في الجهة الأولى من سكة القطار والمشاهد الآخر في الجهة المقابلة من سكة القطار. فالأول يقول القطار متجه إلى اليسار أما الآخر فيجزم باتجاه القطار إلى اليمين ، فأثّر اختلاف مكان الملاحظين في الحكم على الجهة. ومثال أجود منه هو ما لو كان على القطار المتحرك راكب وأطلق رصاصة في اتجاه سير القطار مع وجود من يلاحظه من خارج القطار من فوق جبل أو شاهق – أي في إطار مرجعي مختلف. فالراكب الذي أطلق الرصاصة يجزم بأن سرعة الرصاصة ثابتة وأما الملاحظ الذي يشاهد الحدث من خارج القطار فيجزم بأن سرعة الرصاصة تجاوزت سرعتها الطبيعية بسبب إضافة سرعتها إلى سرعة القطار الذي يسير في ذات الاتجاه ، فتصير السرعة سرعة مركبة. ومنشأ الخلاف هنا هو أن أحدهما متحد مع الحدث في إطاره المرجعي والآخر منفصل عن الحدث في إطار مرجعي مباين ، ولذلك فالثاني يشاهد مالا يشاهده الأول.
وهكذا الأمر بالنسبة لحركة الشمس. فالعلماء المؤيدين للنموذج الأرضي يشترطون التواجد في إطار مرجعي منفصل عن المجموعة الشمسية بأسرها للوقوف على حقيقة حركتها ومن ثم الحكم عليها حساً بالإثبات أو النفي. وهذا الأمر غير متأت وتبقى الحقيقة الكونية مجهولة. أما الحقيقة الشرعية فظواهر النصوص دالة على حركة الشمس ولكنها لا تنفي حركة الأرض. والآيات والأحاديث دالة على ذلك أوضح دلالة ، ولا يمنع أن يكون كل من الشمس والأرض يدوران حول بعضهما بحيث تتكامل سرعة دورانهما حول بعضهما في سرعة مركبة يظنها المشاهد على الأرض سرعة كوكب الأرض ، وهو رأي لبعض علماء الفلك. يقول الفيلسوف والتر ستيس إنه: (ليس من الأصوب أن تقول إن الشمس تظل ساكنة، وإن الأرض تدور من حولها من أن تقول العكس. إلا أن كوبرنكس قد برهن على أنه من الأبسط رياضيٌّا أن نقول إن الشمس هي المركز، ومن ثم فلو أراد إنسان في يومنا الراهن أن "يشذّ" ويتفوه بأنه لا يزال يؤمن بأن الشمس تدور حول أرض ساكنة فلن يكون هناك من يستطيع أن يثبت أنه على خطأ).
والذي اضطرني لوضع هذه المقدمة أمر واحد: ألا وهو أننا لا نزال نجهل الكثير عن ما نعتقد في أذهاننا أننا قد بلغنا النهاية والغاية في إدراك حقيقته ، مع أن هذه الأشياء هي المقدمات التي يترتب على كمال إدراكها صحة النتيجة العقلية الحاكمة على تلك القضية ، ولكن كثير من الناس لفرط استجابتهم لبادي الرأي من أنفسهم يحكمون بالنتيجة قبل استصلاح المقدمات و اكتمالها ، وقد قال الله تعالى (وكان الإنسان عجولا).
ثالثاً: حقيقة سجود الشمس:
فباعتمادنا على الحساب وحده نحن نجهل حقيقة الواقع "الحسي" لحركة الشمس فصار عندنا الآن جهلين بحقيقة شيئين: جهل بحقيقة العرش الذي يحصل السجود تحته وجهل بحقيقة حركة الشمس الفاعلة للسجود. وبناءً على هاتين المقدمتين يقال: يكفي في سجود الشمس واستئذانها القول بأن عدم العلم ليس بدليل على العدم وهي قاعدة مشهورة وأكثر عمل الجهال على خلافها ، فعدم الوقوف على حقيقة سجودها واستئذانها لا يلزم منه نفي إمكان السجود والاستئذان ، ولذلك يقال لمن ارتاب : إذا أوضحت لنا حقيقة سجود الشمس والقمر والنجوم والشجر في قوله تعالى : (الم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) نقول إذا استطعت أن توضح لنا حقيقة ذلك فانتقل إلى إيضاح حقيقة الأخص وهو سجود الشمس تحت العرش ذلك أن تفسير الأعم في الأغلب أيسر من تفسير الأخص لما يكتنف الأخص من التقييدات والتحرزات التي لا يتفطن لها كثير من أرباب العلوم فضلاً عن عوام الناس. فالجاهل يراها من المستحيلات الممتنعات ، والأعلم منه يراها من المحارات الممكنات ، والناس بين هؤلاء وهؤلاء درجات. والحق أن الله قد اختص كل مخلوق بسجود يناسب هيئته وخِلقته لا يشترك فيه مع غيره إلا بموجب الاشتراك اللفظي لا الاشتراك الفعلي الحقيقي المطابق للفعل والهيئة ، وقد أخبرنا الله تعالى أن الشجر يسجد مع كونه أمام ناظرنا صباحاً ومساءً بل يقطف ثمره ويجلس في ظله ومع ذلك لا نقول الشجر لا يسجد. مع أن هذا أدعى للاستنكار لقرب الشجر منا وملامستنا له و رؤيتنا له على الدوام وأكلنا من ثمره. فدل هذا على جهل بني آدم بحقيقة سجود هذه المخلوقات و حقيقة تسبيحها لله عز وجل ، قال تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فحسم الخلاف وقطع الريب والجدال بنفي قدرتنا على إدراك حقيقة التسبيح ، فيصبح السؤال عن ذلك من أشد التكلف. فإذا استقرت هذه المسألة في الأذهان انقطع المستشكل عن بحث ما وراء ذلك والخوض فيه إذ كيف يُتوصل إلى نتيجة صحيحة دون القطع بفهم حقيقة مقدمات تلك النتيجة وهو الأمر المنتفي هنا. ومن المعلوم أن صحة النتيجة هو ملزوم صحة المقدمات و صحة المقدمات هو ملزوم صحة إدراك وفهم المقدمات. فاتهام الرأي البشري المحدود المتقلب يأتي قبل اتهام الحقائق الخارجية التي لا تتغير ولا تتبدل (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا).