فتوى الإمام الشاطبي في المولد النبوي ( مع فوائد أخرى )
بسم الله الرحمن الرحيم« فتوى الإمام الشاطبي في المولد النبوي مع فوائد أخرى »
الحمد لله ، وبعد :
فمن الاحتفالات التي اعتاد الناس إقامتها في هذا الشهر الاحتفال بالمولد النبوي ، وهو لا شك من البدع ؛ لإنَّه اجتماع على أعمال يُقصد بها التقرب إلى الله ، والله لا يُتقرب إليه إلا بما شرع ، ولا يُعبد إلا بما شرع ، فكلُّ محدثة في الدين بدعة ، والبدع منهي عنها .
قال الله ـ تعالى ـ : (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله )) ، وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ، أخرجاه عن عائشة ، وفي لفظ لمسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) ، رواه مسلم .
وفي حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( عليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهدييِّن من بعدي تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة )) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على النهي عن الابتداع في دين الله ، وعن تشريع الناس لأنفسهم عبادات وأعمالا يتقربون بها إلى الله ، وهي لم يشرعها الله ولا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [1] .
وقد تتابع أهل العلم منذ ظهور هذه البدعة الشنيعة على إنكارها ، وإنكار ما يلتزمه الناس فيها دون سائر الأيام ، ومن هؤلاء الأعلام ؛ الإمام العلاّمة أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي المالكي ـ رحمه الله ـ ( ت 790هـ ) ؛ صاحب « الموافقات » و « الاعتصام » ؛ التي لم يُؤلَّف في بابها مثلها ، فكيف بأحسن منها ؟
فقد ورد له كلام نفيس ضمن جوابه على جملة مسائل في كثير من البدع التي اعتادها الناس [2] ، وكانت المسألة الأولى عن حكم الوصية من الميراث لإقامة المولد النبوي ، فقال ـ رحمه الله ـ : (... فمعلوم أن إقامة المولد على الوصف المعهود بين الناس بدعة محدثة، وكل بدعة ضلالة ، فالإنفاق على إقامة البدعة لا يجوز والوصيَّة به غير نافذة ، بل يجب على القاضي فسخُه وردُّ الثلث إلى الورثة يقتسمونه فيما بينهم ، وأبعد الله الفقراء [3] الذين يطلبون إنفاذ مثل هذه الوصيّة ...) انتهى المراد من كلامه .
و سُئل [4] : هل كل بدعة حُسِّنت أو قُبِّحت ضلالة لعموم الحديث ، أم تنقسم إلى أقسام الشريعة كما قال بعض الناس [5] ؟ والسلام .
فأجاب ـ رحمه الله ـ بقوله : ( .. قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كلُّ بدعة ضلالة )) محمول عند العلماء على عمومه ، لا يُستثنى منه شيء ألبتة ، وليس فيها ما هو حَسَنٌ أصلا ، إذ لا حَسَن إلاّ ما حّسَّنه الشرع ، ولا قبيح إلا ما قبَّحه الشرع ، فالعقل لا يُحسِّن ولا يُقبِّح ، وإنمَّا يقول بتحسين العقل وتقبيحه أهل الضلال [6] .
وما ذكره بعض الناس في تقسيم البدع لا يصح ظاهره ، بل له غَور لا أقدر الآن على تقريره ، فمن حمله على ظاهره زلَّ ، وبالله التوفيق .
وأمَّا قولكم أولا : هل نحن مأجورون على فعلها أو داخلون تحت وعيد ما ذكرتم ؟ ؛ فإنَّ يحيى بن يحيى [7] قال : ( ليس في خلاف السنَّة رجاءُ ثوابٍ ) .
والسلام على من يقف على هذا من كاتبه الشاطبي ورحمة الله وبركاته ) اهـ.
و قال ـ أيضاً ـ في « الاعتصام » ( 1/ 46 ـ ط مشهور ) : ( ومنها [ أي البدع ] : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ؛ كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عيداً ، وما أشبه ذلك ) .
وللشيخ أبي عبد الله الحفَّار الغرناطي ـ رحمه الله ـ ( ت811هـ ) فتوى في نفس الموضوع [8] ذهب فيها إلى ما ذهب إليه الشاطبي ، وأفاض في الجواب لمَّا سُئل عن رجل حبَّس أصل توت على إقامة المولد ، ثمَّ مات فأراد ولده أن يتملَّك أصل التوت .
وجاء في فتواه أنَّ السلف الصالح لم يفعلوا في ليلة المولد شيئاً زائداً على ما يفعلون في سائر الليالي ، لأنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنمَّا يُعظَّم بالوجه الذي شُرع في تعظيمه ، وهم قد اختلفوا في تعيين ليلة ولادته ، ولو شُرعت فيها عبادة لعيَّنها الصحابة وحقَّقوا .
[/B]وقال الحفَّار ـ رحمه الله ـ : ( الخير كلُّه في اتِّباع السلف الصالح الذين اختارهم الله ، فما فعلوه فعلناه ، وما تركوه تركناه ، فإذا تقرَّر هذا ظهر أنَّ الاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوبٍ شرعاً بل يُؤمر بتركه ، وقوع التَّحبيس عليه مما يَحمل على بقائه ، واستمرار ما ليس له أصلٌ في الدين ، فمحوه وإزالته مطلوبة شرعا .
ثم ها هنا أمر زائد في السؤال : أنَّ تلك الليلة تقام على طريقة الفقراء ، وطريقة الفقراء في هذه الأوقات شنعة من شنع الدين ، لأنَّ عُمدتهم في الاجتماع إنَّما هو الغناء والشطح ، ويقرِّرون لعوامِّ المسلمين أنَّ ذلك من أعظم القُربات ، وأنَّها طريقة أولياء الله ، وهم قوم جهلة لا يُحسن أحدهم أحكام ما يجب عليه في يومه وليلته ، بل هم ممَّن استخلفهم الشيطان على إضلال عوامِّ المسلمين ؛ إذ يُزيِّنون لهم الباطل ، ويضيفون إلى دين الله ما ليس منه ، لأنّ الغناء والشطح من باب اللَّهو و اللَّعب ، وهم يُضيفونه إلى أولياء الله ، وهم يكذبون في ذلك عليهم ليتوصَّلوا بذلك إلى أكل أموال الناس بالباطل ، فصار التَّحبيس عليهم ليُقيموا بذلك طريقتهم تحبيساً على ما لا يجوز تعاطيه ؛ فيبطل ما حُبس في هذا الباب على هذه الطريقة . ويُستحب لابن هذا المحبِّس أن يصرف هذا الأصل من التوت على باب آخر من أبواب الخير الشرعيَّة ، وإن لم يقدر على ذلك فينقله لنفسه )اهـ.
وقبل أن أضع القلم أنقل لك ـ أيُّها القارئ الكريم ـ كلمات نيِّرات لعلاّمة الجزائر في زمانه الشيخ السلفي عبد الحميد بن باديس الصنهاجي المالكي ـ رحمه الله ـ ( ت1359هـ ) في الحثِّ على الاتِّباع و التَّحذير من الابتداع ، وحُقَّ لها أن تُكتب بماء الذهب و العيون لنفاستها .
قال ـ رحمه الله ـ أثناء ردِّه على شيخه العلاّمة محمد الطاهر بن عاشور في مسألة القراءة على الأموات ( 3/ 273 ـ آثاره ) : ( ... ولا يكون الإقدام على إحداث شيء للتقرُّب به مع ترك النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ له مع وجود سببه ، إلاَّ افتياتاً عليه ، وتشريعاً من بعده ، وادعاءً ضِمنياًّ للتفوُّق عليه في معرفة ما يُتقرَّب به ، والحرص عليه ، والهداية إليه ، فلن يكون فعل ما تركه ـ والحالة ما ذُكر ـ من المباحات أبداً ، بل لا يكون إلاَّ من البدع المنكرات ..) .
وقال في نفس السياق (3/298) : ( إنَّ هذا الأصل وهو ما تركه النبيُّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع قيام مُقتضيه فالدِّين تركُه ، والزيادة عليه بدعة مذمومة مخالفة لمقصد الشارع ، هو حجة المصلحين في ردِّ البدع على الغالين والمتزيِّدين.. ) .
و قال ـ رحمه الله ـ في رسالته الموسومة بـ « جواب سؤال عن سوء مقال » (3/222 ـ آثاره) : ( اعلموا ـ جعلكم الله من وُعاة العلم ، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم ، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع ، وجنَّبكم ذلّة الابتداع ـ أنَّ الواجب على كلّ مسلمٍ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ ؛ أن يَعتقد عَقْداً يتشرَّبه قبله ، وتسكن له نفسه ، وينشرِح له صدره ، ويلهج به لسانه ، وتنبني عليه أعماله ؛ أنَّ دين الله ـ تعالى ـ من عقائد الإيمان ، وقواعد الإسلام ، وطرائق الإحسان ، إنَّما هو في القرآن والسنَّة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وأنَّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول ، ولم يحظ لديها بالقَبول ـ قولاً كان أو عملاً أو عقداً أو احتمالاً ـ ؛ فإنَّه باطلٌ من أصله ، مردودٌ على صاحبه ـ كائناً من كان ، في كلِّ زمان مكان .
فاحفظوها واعملوا بها تهتدوا وترشدوا إن شاء الله ـ تعالى ـ ، فقد تظافرت عليها الأدلَّة من الكتاب والسنة وأقوال أساطين الملَّة ، من علماء الأمصار أئمَّة الأقطار وشيوخ الزهد الأخيار ، و هي لَعَمر الحقِّ لا يقبلها إلاّ أهل الدين والإيمان ، ولا يردُّها إلاّ أهل الزَّيْغ والبُهتان ، والله أسأل التوفيق لي لكم ولجميع المسلمين ، والخاتمةَ الحسنة والمنزلةَ الكريمة في يوم الدين ، آمين والحمد لله ربِّ العالمين ) اهـ.
وبهذه النَّصيحة النَّافعة والوصيَّة الجامعة أختم المقال ، وصلّى الله على رسولنا الكريم وعلى جميع الصَّحب الآل .
فريد المرادي ( 9 / ربيع الأول / 1426هـ ) .
( ثم راجعتُ المقال و صححته : ليلة 12 / ربيع الأول / 1429هـ ) .
=========
الهوامش :
[1] « المنظار في بيان كثير من الأخطاء الشائعة » لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ( ص17ـ18) .
[2] « فتاوى الإمام الشاطبي » ( ص 203ـ204 / جمعها و حقَّقها و قدَّم لها : محمد أبو الأجفان ) ، وبنحوها في « المعيار المعرب » (7/102) و(9/252) .
[3] المراد بهم الصوفية ؛ فتنبه.
[4] كما في « فتاويه » (ص180ـ181) .
[5] وعلى رأسهم العلاّمة العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ في كتابه « قواعد الأحكام » ( 2 / 172-173 ) .
[6] لا يخفى عليك أن الشاطبي ـ غفر الله له ـ أشعري العقيدة في الجملة ؛ راجع ـ فضلا ـ كتاب « الإمام الشاطبي : عقيدته وموقفه من البدع وأهلها » لعبد الرحمن آدم علي ـ رحمه الله ـ ، وكتاب « الإعلام بمخالفات (الموافقات) و(الاعتصام) » للشيخ ناصر بن حمد الفهد ـ وفقه الله ـ .
[7] هو الليثي ( ت203هـ ) راوي موطأ الإمام مالك ، ومفتي الأندلس في زمانه .
[8] أفادها المحقِّق في الحاشية ، وبنحوها في « المعيار المعرب » ( 7 / 99 ـ101 ) .
[b]والنقل
لطفـاً .. من هنــــــا
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=130830
لطفـاً .. من هنــــــا
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=130830