وجوب التحري في الفتوى
هذه محاضرة للشيخ الألباني رحمه الله ألقيت -غالب الظن- في مدينة جدة في شهر 10 من عام 1413هـ - الموافق 1 / 5 / 1993م. رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهدية ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ياأيها الذين آمنوا أتقو الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يأأيها الناس اتقو ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساء واتقو الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ياأيها الذين آمنو اتقو الله وقولو قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما.. أما بعد
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله وكل ضلالة في النار. وبعد
فإنه ليسرني جدا إقبالكم في هذا البلد الطيب إن شاء الله بسكانه الراغبين في إتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم هذا الإقبال الذي يذكرني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (كان جالساً ذات يوم وحوله أصحابه وهو يذكرهم ويعلمهم مما آتاه الله عزوجل من وحي السماء لما أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فوجد فراغا فتقدم أما الثاني فاستحيا فجلس في المؤخرة أما الثالث فولى مدبراً ولم يعقب فقال أما الرجل الأول الذي أقبل فأقبل الله عليه وأما الآخر الذي أستحيا فجلس من خلف فقال فقد إستحيَ الله منه أما الآخر الثالث الذي ولى مدبراً فأدبر الله عنه وأعرض عنه).
فإقبالكم هذا على مجلس العلم يبشر بخير كثير إن شاء الله تبارك وتعالى. الأمر الذي يذكرني أيضاً بحديث آخر فعن أبي هريرةt قال:قال رسول الله ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) فنسأل الله عزوجل أن يجعلنا من هؤلاء الذين تحفهم الملائكة وتنزل عليهم الرحمة ولايكون مثل هذا الفضل الذي ذكره في هذا الحديث لأي علم يجتمع حوله طلاب العلم إلا إذا كان يدورحول كتاب الله وحديث رسول الله لأن هذا العلم القائم على الوحيين هو العلم الذي ينجي الله به المتبعين لهما يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولقد كان من أسلوب طلب العلم في العهود الغابرة ان يجتمع طلاب العلم حول عالم فاضل يدرسهم مما علمه الله عزوجل من كتاب الله ومن حديث رسول الله ثم دار الزمان دورته فانقلب الوضع العلمي انقلاباً لا يبشر بخير حيث أننا قلما نجد عالماً يجلس لطلاب العلم ويقابل هؤلاء العلماء الذين لايجلسون لطلاب العلم، طلاباً لا يرغبون في طلب العلم ولذلك فقد خلت المساجد خلت بيوت الله تبارك وتعالى من تلك الحلقات العلميه التي أشرت إليها آنفاً والتي كانت بيوت الله تبارك وتعالى بها عامرة ولقد أدركت أنا شخصياً كثيراً من الحلقات التي كانت تقام في بعض المساجد وكنت أنا شخصياً من رواد تلك الحلقات يصغي إلى أهل العلم وينتفع منهم من كل منهم حسب ما عنده من علم بالشرع الشريف ثم صارت هذه المساجد مع الأسف خاوية على عروشها!!.. لا تكاد تجد فيها عالماً جالساً وحوله من يطلب العلم، ولكن انقلب طلب العلم اليوم إلى وسيلة أخرى !.. وهي بواسطة كثرة الكتب التي تنشر اليوم بسبب مايسر الله عزوجل من وسائل نشر العلم طباعةً وإذاعةً كما تعلمون فهذه وسيلة لم تكن معروفة من قبل.
ووسيلة أخرى قد شرعها الله عزوجل منذ أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله على نبيه {فاسألو أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فهذه وسيلة، ذكر الله عزوجل بها عباده بأن من كان لا يعلم من المسلمين فعليهم أن يسألوا أهل الذكر، وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الصريح في الآية الكريمة بحديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سريةً فأصيب أحد أفرادها بجراح في بدنه بعد معركة قامت بين المسلمين والمشركين فلما أصبح به الصباح وقام ليصليَ صلاة الفجر إذا به يرى نفسه قد إحتلم ويجب عليه الغسل ولكنه بسبب ماأصابه من جراحات كثيرة في بدنه رأى أنه لابد من أن يسأل أهل العلم لعلهم يجدون له رخصة في ألا يغتسل خشية أن يصيبه ضرر أو هلاك، فسأل من حوله فقالوا له لابد لك من الإغتسال ولأن نفوس أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام و كانت نفوساً مؤمنة مطمئنة لا يتبعون الهوى ولو كان في إطاعتهم للحكم الشرعي ما قد يعرضهم للهلاك أو للموت ولذلك فما كان من هذا الجريح المصاب في سبيل الله إلا أن ائتمر بأمر من أفتاه بأنه لابد له من الإغتسال فاغتسل فكان عاقبة أمره أن مات !!.. ذلك لأنكم تعلمون أن من كان في بدنه جراحات وأصابه الماء البارد وهم في العراء ليس بالدار في البيت وليس هناك وسائل بتسخين الماء فصب الماء على بدنه فكان فيه موته، فلما وصل خبره الى رسول صلى الله عليه وسلم هاله الأمر!!.. وغضب غضباً شديداً على أولئك الذين أفتوه بأنه لا بد له من الغسل فدعا على أولئك الذين أفتوا بغير علم قائلاً (قتلوه قاتلهم الله..قتلوه قاتلهم الله، ألا سألوا حين جهلوا فإنما شفاء العي السؤال) ألا سألوا هذا هو الشاهد من هذا الحديث الصحيح وهنا لنا عوده لهذه الجمله ألا سألوا بعد قليل.
ثم قال عليه الصلاة والسلام (كان يكفيه أن يضرب ضربة في الأرض ثم يمسح بها كفيه ووجهه فإذا هو طاهر. ففي هذا الحديث مما يتعلق بهذه المقدمة القصيرة إن شاء الله وجوب التحري في الإفتاء للناس وأنه لايجوز أن يفتي أحد بفتوى إلابعد أن يكون على بينة من فتواه وإلا كان إثم فتواه على من أفتاه يعود إلى الذي أفتاه.
ومن هنا نعيد التنبيه الى أن الخروج كما يقال في العصر الحاضر للتبليغ تبليغ الدعوة إنما هو خاص بأهل العلم وليس للجهلة ولا بالذين هم في الخط الأول في طلب العلم وإنما يكون الخروج لمن كان عالماً في الكتاب والسنة لكي يتمكن من أن يفتيَ فتوى صادقه وصحيحة مطابقة للكتاب والسنة في ما إذا سأل مسألة تعرض لبعض من حوله وليست تلك المسألة من المسائل المعتاد وقوع الناس فيها والتي يشترك في معرفتها عادة كل طلاب العلم.
فها أنتم ترون في هذا الحديث أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جرح في سبيل الله واحتلم فوجب عليه الغسل فسأل من حوله هل يجدون له رخصة في أن لا يغتسل قالوا له: لابد لك من أن تغتسل فأطاعهم وهو مأجور في طاعته لأنه قام بالواجب الذي تُرُتِبَ عليه شرعاً ألا هو..فاسألو أهل الذكر.. ولكن الذين سئلوا لم يكونوا من أهل الذكر وأنتم تعلمون أن الذكر في هذه الآيه كمثل قوله تعالى {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم} أي هو القرآن فحينما قال عزوجل في الآية الأولى {فاسألوا أهل الذكر} إنما يعني أهل القرآن العارفين بمعاني القرآن وبخاصة ما كان منها من الآيات المتعلقه بالأحكام، ما يجوز وما لا يجوز، مايجب وما لايجب، ونحو ذلك.
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 15.07.08 11:56 عدل 1 مرات