بَحْثٌ عَقَدِيٌّ فِي لَفْظِ (السَّيِّدِ)
د. يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعِيدِ
الأُسْتَاذِ الْمَشَارِكِ فِي جَامِعَةِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ
الأُسْتَاذِ الْمَشَارِكِ فِي جَامِعَةِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد: فهذا بحث جمعت فيه ماوقفت عليه مما يتعلق بلفظ " السيد " من الأحكام الاعتقادية، والذي حملني على الكتابة في هذا الموضوع: أهميته، وهذه الأهمية يمكن إيجاز بيانها في الآتي:
أولا: تعلقه بمبحث أسماء الله ـ تعالى ـ يعني هل هذا اللفظ من أسماء الله ـ تعالى ـ أو ليس من أسمائه، ولا ريب أن البحث في هذا من أشرف البحوث، إذ شرف العلم بشرف المعلوم .
ثانيا: وجود مسائل كثيرة متعلقة به تحتاج إلى بحث، فهناك ـ على سبيل المثال ـ بعض النصوص جاء فيها ما فهم منه بعض العلماء المنع من إطلاق لفظ السيد على المخلوق، بينما جاءت نصوص صريحة تدل على جواز ذلك، وهذه تحتاج إلى نظر .
ثالثا: لما لهذا الموضوع من ارتباط وثيق بألفاظ الناس، فهذا اللفظ يسمع كثيرا في وسائل الإعلام المختلفة، ويوجد في المكاتبات، وفي المخاطبات وغير ذلك، والناس يحتاجون إلى بيان حكم إطلاق هذا اللفظ .
رابعا: استخدام هذا اللفظ في غير محله من كثير من الناس، كإطلاقه على المنافق والكافر والفاسق والمبتدع ونحو ذلك، وإطلاقه على المخلوق ويقصد به ما يقصد به لفظ الرب والإله، وهذا عند كثير من الغلاة .
خامسا: وجود بعض البدع المتعلقة بهذا الموضوع .
ولكوني لم أقف على بحث يلم شتات هذا الموضوع، فقد استعنت بسيدي ومولاي، وهو خير مستعان به على الكتابة في هذا الموضوع، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
• خطة البحث:
جاء البحث بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول وخاتمة:
الفصل الأول: التعريف اللغوي .
الفصل الثاني: حكم إطلاقه على الله ـ تعالى ـ ومعناه في حقه، وآثار هذا الاسم، وحكم الدعاء به، ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: حكم إطلاقه على الله ـ تعالى ـ .
المبحث الثاني: معناه في حق الله ـ جل وعلا ـ .
المبحث الثالث: آثار هذا الاسم .
المبحث الرابع: حكم الدعاء به .
الفصل الثالث: تعلقه بالمخلوقين، ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: حكم إطلاقه على المخلوقين .
المبحث الثاني: سيادة النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: سيادته في الدنيا والآخرة .
المطلب الثاني:في بيان أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يخبر بسيادته على وجه الفخر .
المطلب الثالث:في بيان شمولية سيادته لآدم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبنيه .
المطلب الرابع: في بيان تحريم إطلاق لفظ (سيد ولد آدم) أو (سيد الناس) أو (سيد الكل) ونحوها على أحد غير النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
المبحث الثالث: حكم إطلاقه على المرأة .
المبحث الرابع: حكم إطلاقه على المنافق والكافر .
المبحث الخامس: حكم إطلاقه على المبتدع .
الخاتمة .
الفصل الأول: التعريف اللغوي
السيد: من ساد يسود سيادة وسوددا وسيدودة .
وهذه الكلمة على وزن فيعل من فعل واوي: ساد يسود، وهذا قول أهل البصرة ( 1) ، وإنما جمعوه على (سادة) على وزن (فَعَلَة) التي لا يجمع عليها إلا (فاعل) لأنهم قدروا أنهم جمعوا (سائد) كقائد وقادة، وذائد وذادة، والجمع القياسي لـ (فيعل): (فياعل) ولذلك جمعوا (سيد) على (سيائد) وهو قياس؛ لكنه قليل الاستعمال .
وقيل: وزنه على (فعيل) ولذلك جمع على (سادة) قياسا، كما في (سري) و (سراة) ولا نظير لهما، يدل على ذلك أنه يجمع على سيائدة ـ بالهمز ـ مثل: أفيال وأفائلة، وتبيع وتبائعة ( 2) .
والذين قالوا: إن أصله سَيْود ـ على وزن فَيْعِِل ـ قالوا: إن الواو فيه قلبت إلى ياء؛ لأجل الياء الساكنة قبلها، ثم أدغمت ( 3) .
وسيد صفة مشبهة، وفيه معنى أقوى من اسم الفاعل المجرد " سائد "، فقد نقل صاحب القاموس أن السائد دون السيد ( 4) .
كما أنه يمتاز عن صيغة اسم الفاعل بالتحقق والثبوت .
قال الفراء (ت 207): (( هذا سيد قومه اليوم، فإذا أخبرت أنه عن قليل يكون سيدهم قلت: هو سائد قومه وسيد )) ( 5) .
وقد ذكر اللغويون معاني عدة لهذا اللفظ، فقد جاء عن عكرمة أنه قال: (( السيد: الذي لا يغلبه غضبه )) ( 6) .
وقال قتادة (ت 117 أو 118): (( هو العابد، الورع، الحليم )) ( 7) .
وقال أبو خيرة نهشل بن زيد ـ رحمه الله تعالى ـ : (( سمي سيدا؛ لأنه يسود سواد الناس، أي: معظمهم )) ( 8) .
وقال الأصمعي (ت 212) ـ رحمه الله تعالى ـ : العرب تقول: السيد: (( كل مقهور مغمور بحلمه )) ( 9) .
وقال النضر بن شميل (ت203) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد: الذي فاق غيره، ذو العقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه، المعين بنفسه، فذلك السيد )) ( 10) .
وقال الـراغب (ت502) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( والسيد: المتولي للسواد، أي: الجماعة الكثيرة، وينسب إلى ذلك، فيقال: سيـد القوم، ولا يقال: سيد الثوب وسيد الفرس، ويقال: سـاد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد، وعلى ذلك قوله: â وَسَيِّداً وَحَصُوراً ? ( 11) ، وقوله: â وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَاب ? ( 12) فسمى الزوج سيدا لسياسة زوجته، وقوله: â رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ? ( 13) أي: ولاتنا وسائسينا )) ( 14) .
وقال الفراء (ت 207) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد: الملك، والسيد: الرئيس، والسيد: الحليم، والسيد: السخي، وسيد العبد: مولاه، والأنثى من كل ذلك بالهاء، وسيد المرأة: زوجها، وسيد كل شيء أشرفه وأرفعه )) ( 15) .
وقال ابن الأثير (ت 606) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( والسيد يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، ومتحمل أذى قومه، والزوج، والرئيس، والمقدم )) ( ( 16) .
والسودد والسؤدد: الشرف .
والمسوَّد ـ بضم الميم، وفتح السين، وفتح الواو المشددة ـ : السيد .
والمسود ـ بفتح الميم، وضم السين ـ : من ساده غيره .
واستاد القوم بني فلان: قتلوا سيدهم، أو أسروه، أو خطبوا إليه ( 17) .
وتسود الرجل: إذا ساد، وسود: إذا جعله غيره سيدا .
قال عمر ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : (( تفقهوا قبل أن تسودوا )) ( 18) .
قال شمر: معناه: تعلموا العلم قبل أن تزوجوا، فتصيروا أرباب بيوت، فتشغلوا بالزواج عن العلم، من قولهم: استاد الرجل ( 19) .
وقال أبو عبيد: (( يقول: تعلموا العلم ما دمتم صغارا قبل أن تصيروا سادة رؤساء منظورا إليهم )) ( 20) .
وبناء على ما تقدم ظهر أن ثمة معاني لهذا اللفظ، وهذه المعاني لها أثر كبير في توجيه النصوص الواردة، فإنزال النصوص على شيء من هذه المعاني يرفع الإشكال، والله أعلم .
الفصل الثاني:
المبحث الأول: إطلاق السيد على الله ـ تعالى
إن اسم (السيد) من أسماء الله ـ جل وعلا ـ الثابتة، ولم يأت لفظه في القرآن الكريم ( 21) ، وهذا الاسم الكريم من الأسماء الدالة على صفات عديدة .
والدليل على أنه من أسماء الله ـ تعالى ـ حديث عبد الله بن الشخير ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حيث قال: (( انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقلنا: أنت سيدنا، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( السيد الله )) قلنا: فأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان )) ( 22) .
وقد أثبت هذا الاسم جماعة من العلماء منهم: الحافظ ابن مندة ( 23) (310 - 395)، والحليمي ( 24) (338- 403)، وأبو بكر البيهقي ( 25) (384- 458 )، وقوام السنة أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني ( 26) (457- 535) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ ، وذلك لأنهم يرون ضعف الحديث الوارد في هذا الاسم ( 27) ، ولكونه لم يأت في الكتاب ولا في حديث متواتر ( 28) .
قيل للإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : (( يقولون: السيد هو الله، قال: أين هو في كتاب الله ـ تعالى؟ )) ( 29) .
ولكن المحققين من أهل الحديث قالوا بثبوته، وممن قال به: الحافظ ابن مفلح (ت 763)، والحافظ ابن حجر (ت 852)، والعظيم آبادي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم من المثبتين لهذا الاسم الكريم .
ومن ضعفه فإنه لم يذكر سبب تضعيفه، إلا أن يكون قد وقف على طريق ضعيفة، فإن كان كذلك فإن الروايات الثابتة التي ذكرت في تخريج هذا الحديث كافية عن تلك الطريق؛ لأن أسانيدها صحيحة .
أما كونه لم يأت في الكتاب، فإن عدم مجيئه في الكتاب لا يعني أنه ليس اسما، لأن هناك أسماء ثبتت بالسنة وليست في الكتاب .
والمنهج الحق هو عدم التفرقة بين ما ورد به الكتاب وبين ما جاءت به السنة .
أما كونه ليس في حديث متواتر، فإن أحاديث الآحاد متى ما صحت كانت حجة، والتفريق بينها وبين المتواترة في باب الاعتقاد من جراب أهل الكلام المذموم .
فهذا الاسم الكريم ثابت لله ـ تعالى .