كتاب الإحياء ( رؤية نقدية ووقفة موضوعية )
كتاب الغزالي (الإحياء) في الميزان
... أبو حامد الغزالي توفي سنة 505هجرية رحمه الله كان واسع الصيت، عظيم السمعة، لم يأت أحد من بعده إلا عرفه، أو سمع عنه، أو قرأ له.
صنف فأكثر، وكتب فحبر، وكان له من الوعظ والتدريس الحظ الأوفر...
ولن أقدم ههنا بترجمة هذا العلم - كما جرت العادة بذلك - فشهرته تغني عن ذلك، وقد حفلت كتب التراجم والطبقات والتأريخ والحوادث ببسط سيرته، فمن طلبها فعليه بها.
إلا أنني أحب أن أشير إلى أن ثم غلواً وقع فيه بعض من ترجم له، وتجاوزاً للحد ينبغي أن تصان تراجم العلماء عنه! فمن ذلك :
ما قاله الإسنائي الشافعي:
"وهو قطب الوجود، والبركة الشاملة لكل موجود! وروح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن! يتقرب به إلى الله كل صديق، ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق"(1). ونقله عنه جماعة من مترجمي الشافعية! وكان الظن بهم التثريب عليه، وأقله تجاهله واطّراحه، ولكن يغلب على ظني أن لهم أغراضاً، لعل أبرزها الدفع بالصدر لكل من يحاول نقد أبي حامد الغزالي رحمه الله، والله المستعان.
لكنني في هذا المقام أحاول أن أقف مع كتابه الشهير: (إحياء علوم الدين) وأسلط الضوء على ما فيه، مستعرضاً كلام الأئمة حوله، ومستبيناً حاله عندهم، راجياً من الله عز وجل ثواب النصح للأمة.لماذا الإحياء؟!
قد يتساءل المرء عن سبب اختيار كتاب: (إحياء علوم الدين) للحديث عنه من بين سائر كتبه..
فالجواب:
أن كتاب الإحياء قد حاز من الشهرة والانتشار ما لا يقاربه أي كتاب من كتبه الأخرى، ولأجل ذلك ترى نسخه المخطوطة مبثوثة في مكتبات العالم حتى ليكاد الباحث يجزم أن فهارس المخطوطات للخزائن العامة والخاصة لا تخلو من نسخة منه، وهذا لا نظير له في كتبه الأخرى..
ثم إن كتاب الإحياء قد دارت حوله قضايا ووقائع على مستوى العالم الإسلامي كما سيأتي ذكر شيء من ذلك إن شاء الله..
ولقد استوقفتني تلك الهالة الإعلامية الضخمة التي تروج للإحياء، خاصة من قبل المتصوفة إذ:
منهم من حفظه عن ظهر قلب!
ومنهم من قرأه خمساً وعشرين مرة.
ومنهم من نسخه أربعين مرة.
ومن عباراتهم السيارة:
"من لم يقرأ الإحياء فهو بلا حياء"!!
و
قالوا: " فضائل الإحياء لا تحصى ".
و
غلا بعضهم - عياذاً بالله - فقال : " كاد الإحياء أن يكون قرآنا"!!!
و
قالوا: "إنه أجل كتب الإسلام في معرفة الحلال والحرام، جمع فيه من بين ظواهر الأحكام، ونزع إلى سرائر دقت عن الأفهام"..
و
أسمع إلى الشيخ أبي محمد الكازروني إذ يقول: " لو محيت كل العلوم لاستخرجت من الإحياء"!
و
طلب جماعة من ابن برهان الأصولي - أحمد بن علي بن محمد (518ه) - أن يشرح لهم الإحياء، فاعتذر بضيق الوقت، فذكروا له وقتاً في منتصف الليل فوافق!!(2).
و
ألف عبدالقادر العيدروس (1038ه) كتاباً سماه: (تعريف الأحياء بفضائل الإحياء) غلا في مدحه إلى حد الشطط..
فهذا المديح والإطناب - وأمثاله كثير تركته خشية الإطالة - يسترعي انتباه القارئ، خاصة أن كتب السنة لم تحظ بمثله من قبل هؤلاء.
شخصية أبي حامد الغزالي العلمية والسلوكية :
================
غالب من ألّف إنما استجمع همته، وحمل نفسه على التأليف لهم كان يراوده، ويداعب أفكاره، فيبعث ذلك كله في مزبور يحوي ما أراد نفثه من ذلك اللهم.
وهذا الهاجس الذي يستحوذ على فكر المرء إنما هو نتاج خلفيات تراكمت عبر زمن الطلب والتحصيل، فمعرفة مكتسبات الإنسان وتحصيله العلمي والسلوكي له بصمته الواضحة على كتبه ومؤلفاته.
ومن المعلوم أن الغزالي - وغيره من أرباب المتكلمين - قد مر في حياته العلمية بتقلبات، وفي رياضته السلوكية بأطوار، الأمر الذي بدا أثره واضحاً في تلون كتاباته، وتفاوت مؤلفاته(3).
وقد ذكر عن نفسه - في كتابه (المنقذ من الضلال) - أنه كان في حيرة من أمره وعقيدته، وأنه تنقل من الشك في المحسوسات إلى الشك في العقليات، ثم استقرت قدمه على أن إدراك الحق لا يعدو أربع طوائف: المتكلمين، والباطنية، والفلاسفة، والصوفية!!
وذكر عن نفسه أنه غاص في بحار الفئات الأربع حتى سبر علومها، وأطلع على مكنونها، وتضلع منها إلى الغاية، ثم أخذ يبهرج الزائف ويزيل المتهالك، حتى خلص له طريق (التصوف)..!
وحتى هذه الطريق التي سلكها، ونافح عنها، وألف في رسومها لم يجد بغيته فيها آخر حياته، فمال إلى طريقة أهل الحديث كما هو معروف، ومات وصحيح البخاري على صدره - يرحمه الله - .
ولأجل هذا التأرجح بين طرائق المتشرعين وجد العلماء في كتب الغزالي ما لايجوز اعتقاده، ولا يحل السكوت عنه، فتكلموا فيه وفي كتبه وحذروا منها، وانتشر هذا بين الناس؛ بَلْهَ العلماء، ومنهم بعض تلامذته ومعاصريه، "واشتد نكير علماء الإسلام لهذا الكلام، وتكلموا في أبي حامد وأمثاله بكلام معروف، كما تكلم فيه أصحاب أبي المعالي ك: أبي الحسن المرغيناني، وأبو الحسن بن سكر، وأبو عمرو بن الصلاح، وأبو زكريا..
وكما تكلم فيه أبو بكر الطرطوشي، وأبو عبدالله المازري، وابن حمدين القرطبي - وصنف في ذلك - وأبو بكر بن العربي تلميذه حتى قال :
"شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر".
وتكلم فيه أبو الوفاء بن عقيل، وأبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي وغيرهم.
وكما تكلم فيه الكردري وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
ومن أعظم ما تكلم أئمة المحققين لأجله ما وافق فيه الصابئة المتفلسفين، مع أنه بعد ذلك قد رد على الفلاسفة، وبين تهافتهم وكفرهم، وبين أن طريقتهم لا توصل إلى الحق، بل ورد - أيضاً - على المتكلمين، ورجح طريق الرياضة والتصوف، ثم لما لم يحصل له مطلوبه من هذه الطرق بقي من أهل الوقف، ومال إلى طريقة أهل الحديث، فمات وهو يشتغل بالبخاري ومسلم(4).
وكانت لأبي حامد الغزالي - رحمه الله - اليد الطولى في إدراج المنطق بعلوم المسلمين، وبقيت فيه عُلُقَه من علوم الأوائل لم يستطع أن يبرأ منها، بل ظلت مؤثرة عليه، وموجهة له، حتى أنها كانت تسوس تصوفه في آخر أطواره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (728ه) رحمه الله:
"وما زال نظَّار المسلمين يصنفون في الرد عليهم - أي الفلاسفة - في المنطق، ويبينون خطاهم، ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقهم، بل الأشعرية، والمعتزلة، والكرامية، والشيعة، وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبونها، ويبينون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين: أبو حامدالغزالي، وتكلم فيه العلماء بما يطول ذكره"(5).
ومع أن الغزالي قال بوجوب تكفير المتفلسفة الإسلاميين ك: ابن سينا، والفارابي، وأمثالهما(6)، إلا أنه هو نفسه رضع من كلام ابن سينا حتى قيل: "أمرضه الشفاء".
وأمر تأثره بالفلاسفة، وديمومة ذلك معه أمرٌ لا ينكره إلا مكابر، وقد أثبته له جماعات من العلماء، منهم: الطرطوشي، والمازري، وابن العربي، وابن الجوزي، وابن الصلاح، وشيخ الإسلام، والذهبي، وابن كثير... وغيرهم خلائق.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وكلامه برزخ بين المسلمين وبين الفلاسفة، ففيه فلسفةٌ مشوبةٌ بإسلامٍ، وإسلامٌ مشوبٌ بفلسفةٍ، وكان يعظم الزهد جداً، ويعتني به أعظم من اعتنائه بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، ولقد ذاكرني مرةً شيخٌ جليلٌ له معرفة وسلوك وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء..
والذين سلكوا خلف أبي حامد أو ضاهوه في السلوك كأبن سبعين وابن عربي، صرحوا بحقيقة ما وصلوا إليه، وهو أن الوجود واحد، وعلموا أن أبا حامد لا يوافقهم على هذا، فاستضعفوه ونسبوه إلى أنه مقيدٌ بالشرع والعقل.
وأبو حامد بين علماء المسلمين وبين علماء الفلاسفة.. علماء المسلمين يذمونه على ما شارك فيه الفلاسفة مما يخالف دين الإسلام، والفلاسفة يعيبونه على ما بقي معه من الإسلام، وعلى كونه لم ينسلخ منه بالكلية إلى قول الفلاسفة.
ولهذا كان الحفيد ابن رشد ينشد فيه:
يوماً يمانٍ إذا ما جئت ذا يمن *** وإن لقيت معدياًّ فعدناني!
وأبو نصر القشيري وغيره ذموه على الفسلفة، وأنشدوا فيه أبياتاً معروفة يقولون فيها:
برئنا إلى الله من معشر *** بهم مرض من كتاب(الشفا)
وكم قلت: يا قوم أنتم على *** شفا حفرة مالها من شفا
فلما استهانوا بتعريفنا *** رجعنا إلى الله حتى كفا
فماتوا على دين رسطالس *** وعشنا على سنة المصطفى(7)
وشغفه بكتاب (الشفا) دخل عليه من سلوكه طريق الفلاسفة لما أراد اختباره وتمحيصه كما ذكر هو عن نفسه، وقل مثل ذلك في (رسائل إخوان الصفا) وهو من كتب الباطنية، وخوض مفاوز السوء مع قلة بصر بالآثار وضعف إدراك بالمعايب مخاطرة لا تؤمن عاقبتها، والله الهادي.
قال الذهبي (748ه) رحمه الله: "قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظناً منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر إلى كتاب (رسائل إخوان الصفا) وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف"(8).