[b]الإجهاز على العقل المستقل الموكول إلى نفسه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وبعد:
فقد بلغني أن واحدا من علماء الطبيعة في الغرب - ولعله هولاندي-أسلم، فلما سئل عن سبب إسلامه أجاب بكلمة واحدة : الله !
ولعمري لقد أجاب فأحسن الجواب ، بل ليس هناك عند التحقيق جواب مقبول غير هذا...
لا يجدي هذا العالم أن يقول، مثلا، بـ " دلائل " ما عقلية أو غيرها – مهما كانت قاطعة - لأن هذه" القواطع " لا تصبح كذلك إلا بالله!
فيجب إذن إحداث قلب في الأسباب والنتائج...
لعله من المناسب الاستزادة في البيان فنقول:
اعلم أنه لا يمكن قبول دلائل العقل إلا بعد الثقة فيه والاعتراف به.
هذه هي المعضلة التي أعيت العقلانيين!
فأنى نجد شاهدا للعقل ؟
فإن جاء الشاهد من الخارج بطلت أصالة العقل لأن هذا دليل على الافتقار إلى غيره ولا يهمنا من هو هذا المفتقر إليه..
وإن جاء الشاهد من الداخل حصلت المصادرة على المطلوب!
فلا يجوز قانونيا ومنطقيا أن يكون الشيء قاضيا ومتهما في وقت واحد.
فإن قيل :
هذه حجة سفسطية قديمة أثارها شكاك الإغريق من قبل
قلنا :
وما في ذلك ؟ فأرونا جوابكم عليها...
الحقيقة
إنهم ما وجدوا جوابا - ولن يجدوه أبدا .
إن أمثل جواب تواصوا به هو الإعراض عن السفسطي أو لطمه فإن ردّ اللطمة فذاك دليل على أن قوله يناقض فعله ...
هذا هروب من السؤال فسواء أرد السفسطي اللطمة أم لم يردها فالمعضلة باقية إلى الأبد ...
ما الدليل القطعي على العقل؟
وإذا ما جادلونا في كلامنا نفسه فقالوا مثلا أهو من العقل أم من غيره وأرادوا أن يلزمونا التهافت التزمناه وسقطنا جميعا في جحيم الشك والفوضى..
فليس غرضنا هنا الدفاع عن السفسطي بل حسبنا إلزام الجميع الشك والدوران .
نتذكر في هذا السياق التجربة الروحية للشيخ أبي حامد الغزالي - عفا الله الله- فانتهى إلى إقالة العقل فاعترف أن الحقيقة نور يقذفه الله في القلب قال:
"فلما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال.
حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة".انتهى سرده من منقذه من الضلال.
نعود مرة أخرى إلى المعضلة :أليس من حل لها ؟
هل قدر على البشرية الحيرة والدوران ؟
إن الله رحيم بعباده فقد جعل" الفطرة" الملجأ للناس ... الفطرة لا الكشف الذي ادعاه الغزالي لأن هذا الكشف إن منع السفسطة فهو فتح مبين للخرافة ،
فلا يرد وحش السفسطة إلا كهف الفطرة!!
فنحن نثق بالعقل لا لأنه دليل في نفسه بل لأن الفطرة استكانت إليه..
ونحن نمتعض من السفسطة ليس لدليل عندنا على سفاهتها، بل لأن الفطرة تنفر منها..
وقد صدق الإمام ابن القيم - رحمه الله - عندما تأمل في حال السفسطة فرأى أن السفسطة لم يجعلها الله مذهبا للناس وإلا لخربت الدنيا والدين .. بل هي حالة عابرة تنتاب ابن آدم من حين إلى آخر ثم يعود إلى فطرته ...
ومع ذلك فإن شبح السفسطة مفيد من جهة أنه يحث الناس على التقليل من درجة تقديس العقل وعبادته والتشديق ببعض عباراتهم مثل :
" لقد دلت القواطع العقلية على استحالة الاستواء"
أو
"دلت القواطع العقلية على استحالة الرؤية"
من يقطع للعقل يا هؤلاء الناس!
هل تريدون أن تعيدوا جحيم السفسطة جذعا!
وانظر الآن في القرآن لتجد ما تقر به عينك في المقام:
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ{14} لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ{15}
هؤلاء لم ينتفعوا بالدلائل الحسية لأن الله تعالى لم يرد بهم خيرا...فمضوا يفترضون الفروض...
ويقال للمتكلم المجتهد في اختراع الأدلة العقلية على رؤية الله مثلا :لا تتعب نفسك فإن مخاطبك لو تجلى الله له ورآه بعينيه-وليس بعد هذا دليل ، وليس الخبر مثل العيان-فهل انتهت المشكلة؟
كلا!
فلولا سمعت خصمك يقول لصاحبه يقص عليه الحدث الجليل:
"هل تدري لقد خيل إلي أنني رأيت الله تعالى"
أو يقول:
-اعتراني مس أمس فرأيت كأن الله تعالى أمامي-
أو يقول
- خدعني شيطاني فأوهمني أنني رأيت رب العالمين..
أو ما شئت من الوساوس التي لا ينفك عنها ابن آدم...
لا ينفع من هذا كله إلا الاستعاذة والتضرع إلا الله العظيم أن يثبتنا على الحق وأن يبقي لنا الفطرة سليمة...
فمن عذاب الله لبعض المدققين في العقليات والمتكلين على القواطع العقلية أن يسلبهم الله الارتكان إلى الفطرة فهذا بكاؤهم يملأ مساحات التاريخ فمن قارع سن الندم ومن طالب دين العجائز ...ومن غريق في بحر السفسطة..
هذا ونشير في خاتمة حديثنا إلى رفع سوء فهم قد يحصل لبعض القراء.. نحن لا نهدرمطلق العقل أو نسفهه وإنما كلامنا على العقل المستقل الموكول إلى نفسه
أما العقل المستوي على سوق الفطرة والمستنير بالوحي فهو بغيتنا ورفيقنا ..
النقل
لطفـــــاً .. من هنــــــــــــا