ومما سبق يتبين لنا أن التأويل عند أهل السنة لا يخرج عن هذه الأمور الثلاث :
1- التفسير والبيان، وهو ما درجوا على استعماله في تفاسيرهم، وهو المفهوم من أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم وأقوال الصحابة والتابعين .
2- إدراك الحقيقة الواقعية، وهذا مما استأثر الله بعلمه، وهم لا يخوضون في القضايا الغيبية على طريقة المتكلمين والفلاسفة والروافض وغلاة الصوفية، بل يوجهون كل جهودهم إلى معرفة هذه الحقائق وتمييز بعضها عن بعض، ففي الصفات مثلا لا يحاولون إدراك معنى الصفة على ما هي عليه حقيقة، بل يحاولون التعرف على معنى الصفة كما وردت في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف، بحيث يفهمون من صفة القدرة غير ما يفهمونه من صفة الكلام والعلم وهكذا(1).
3- والمعنى الثالث للتأويل استنبطوه من الحديث الذي روته السيدة عائشة : (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي بتأول القرآن )(1) تعني قوله تعالى : {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }(2).
والتأويل هنا معناه تنفيذ الأمر الرباني، أمرا كان أم نهيا.
ثانيا : الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها :
للتفريق بين تأويل الآية وفهم معناها، ناقش علماء أهل السنة ما إذا كان في القرآن شيء لا يدرك معناه، ومن ثم يحرم الخوض فيه.
ومن خلال مراجعتنا لآراء كل من ابن عطية والطبري، والزركشي، وابن تيمية في هذا الموضوع، تبين لنا أنهم يعترفون بأن في القرآن أشياء استأثر الله تعالى بعلمها، وهي من قبيل الغيبيات كأسماء الله وصفاته، والجنة والنار، ونحو ذلك من الأمور الغيبية المستقبلية كخروج الدابة، والنفخ في الصور، وعدد النفخات، ومن ذلك قول الإمام الطبري : " وأن نمه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسى بن مريم ، وما أشبه ذلك، فإن تلك أوقات لا يعلم أحد حدودها ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها لاستئثار الله بعلم ذلك على خلقه "(1).
وعلى هذا المعنى الذي أورده الإمام الطبري حملوا الاحاديث الواردة في النهي عن التفسير القرآني الكريم، يقول الزركشي في " البرهان " : " ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم }(2) وقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }(3) . وقوله تعالى: { لتبين للناس ما نزل إليهم }(4) . فأضاف البيان إليهم، وعليه حملوا قوله صلى الله عليه و سلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار )(5). رواه البيهقي من طرق، من حديث ابن عباس. وقوله صلى الله عليه و سلم : (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)(6). أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال غريب من حديث ابن جندب .
وقــال البيـهـقي في "شعـب الإيـمان" هـذا إن صح، فإنـما أراد ـ والله أعلم ـ الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل ، وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق : " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي"(1).
وهذا الأمر نفسه دفع القرطبي (ت671هـ) في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن"(2) والإمام ابن عطيـة (ت 546هـ) في تفسيره "الجامع المحرر الوجيز" إلى مناقشة الحديث الذي روته السيدة عائشة والذي بينت فيه أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن يفسر من القرآن إلا بضع آيات وبوحي من الله عز وجل، يقول ابن عطية : " روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفسر من كتاب الله إلا آيات بعدد علمه إياهن جبريل)(3).
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ : " ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به كوقت قيام الساعة ونحوه، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه كعدد النفخات في الصور، وكرتبة خلق السموات والأرض"(1) .
ولا يفهم من كلام هؤلاء العلماء أن في القرآن ما لا يفهم معناه، بحيث يكون بالنسبة لذي العلم باللسان العربي، بمثابة الكلام الأعجمي الذي لا يفقه منه شيئا، بل يستفاد من أقوالهم أن هناك أمورا أخبر بها القرآن، كصفات الله وأسمائه مثلا. فهذه فعلا يستحيل على الإنسان فهمها على ما هي عليه في واقع أمرها. وبتعبير آخر لا يدرك الإنسان حقيقتها الخارجية، ولكنه يدرك حقيقتها العلمية بحيث يفهم من كل صفة غير ما يفهمه من الصفات الاخرى. وفي ذلك يقول ابن تيمـية ـ مبطلا قول من جعل أسماء وصفات الله سبحانه من المتشابه الذي لا يفهم معناه ـ : " أما الدليل على بطلان ذلك فإني لا أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية(2)، ونفى أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا أحاديث الصفات تمر كما جاءت، وينهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه"(1).
وانطلاقا من هذه النقطة بدأ ابن تيمية يبين الفرق بين تأويل الآية وفهم معناها . وذلك عبر مرحلتين :
المرحلة الأولى:
ناقش فيها من يدعون أن القرآن يتضمن ما لا يفهم معناه، ومن ثم يتعين عدم الخوض فيه، وذلك حيث يقول : " قال : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله )(2). أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله : فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به، وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به، فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن، ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله .
ونكتة ذلك أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا، ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم، واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني، ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة، فالتأويل هو الحقيقة الخارجة، وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية، وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم، ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه، محكمه ومتشابهه، وإن لم يعلم تأويله "(1).
وهكذا يبين ابن تيمية أن تأويل الآية هو غير فهم معناها، وبذلك يفند رأي من قالوا بعدم الخوض في آيات الصفات لأنها مما استأثر الله بعلمه، وأنها بمثابة قول أعجمي لا يفقه له معنى ، وهم إنما يفعلون ذلك لأحد أمرين .
1- إنتصارا للهوى والمذهب، كالمعطلة وغيرهم من الفرق الضالة التي أحدثث في الإسلام أقوالا، وأفعالا غريبة عن طبيعته، وشاذة عن هديه وصراطه المستقيم: " وأما أولئك -كنفاة الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، وكالفلاسفة -فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء وإن كان صريحا قد يعلم معناه بالضرورة، ويجعلونه من المتشابه، ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع "(2).
2- أو خوفا من أن تتسرب بعض المفاهيم البعيدة عن الإسلام إليه إذا فتح باب التأويل على مصراعيه، وذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة (3) .
وافحاما لهؤلاء جميعا، وإقامة للحجة عليهم يبين ابن تيمية أن دعواهم -بأن أسماء الله وصفاته من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله- لا أساس لها من الصحة ولا سند لها، ومن ثم فهي محض افتراء، وادعاء باطل وقول مبتدع، وحادث في الملة : "وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله ... من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، فنقول : أما الدليل على بطلان ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة لا أحمد ابن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه، ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد، والفضائل، وغــير ذلك "(1).
المرحلة الثانية :
أما المرحلة الثانية فيرد فيها على من يزعمون أن كل ما تضمنه القرآن يمكن تأويله، معتمدين في ذلك على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدعو فيه لابن عباس أن يعلمه الله تأويل الكتاب . ون هؤلاء غلاة الشيعة والصوفية والملاحدة وغيرهم من الفرق الباطنية .
يقول ابن تيمية : "وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله فإن قيل : فقد قال لابن عباس : ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )(1) قيل أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه، واللام هنا للتأويل المعهود، لم يقل : تأويل كل القرآن فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلى الله.
والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله، وهذا كقوله : { هل ينظرون إلى تأويله يوم يأتي تأويله }(2) . وقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتـهم تأويله }(3). فإن المراد تأويل الخبر الذي أخبر فيه عن المستقبل، فإنه هو الذي " ينتظر " و " يأتى " و " لما يأتهم "، وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر . والله سبحانه أعلم "(4) .
وأهل السنة يعترفون أن التفسير يعتمد النقل بالأساس، والتأويل يعتمد الإستدلال والإستنباط أساسا، ومن ثم راحوا يوضحون منهجهم في التأويل حتى لا يلتبس بمفهوم التأويل عند الفرق الضالة التي تلتجىء إليه انتصارا للرأي والمذهب والهوى .
يقول الزركشي في كتابه "البرهان" : "وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الإجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه، وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان :
أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه .
الثاني : أن يكونا جليين والإستعمال فيهما حقيقة . وهذا على ضربين :
أحدهما حقيقة لغوية ، وفي الآخر حقيقة حقيقة شرعية . فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك ســكن لهم }(1). وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم "(2) .
وهذا النص الهام يبين لنا عنصرين هامين من عناصر المنهج السني :
أولهما :
أن أهل السنة لا يتنكرون لحقيقة قائمة كما هو الشأن بالنسبة للتأويل، فرغم أنهم يعلمون خطورته البالغة على عقيدة المسلم، وعلى كيان الدولة المسلمة ككل - إذ هو المدخل الذي تنفذ منه كل الدعاوي الباطلة والمذاهب الهدامة- رغم كل ذلك نجدهم يقررون أهميته، ويعترفون به لا كأمر واقع فحسب، بل كأداة منهجية يستدعى استخدامها النص القرآني، إذ هناك كثير من المواقف التي تتطلب من المفسر أن يستعمل فيها الإستدلال والإستنباط للوقوف على المعنى الحقيقي للآية أو السورة التي يروم تفسيرها.
الثاني:
إن قبولهم التأويل واعترافهم به لا يعني التسليم بكل تأويل، بل وضعوا المنهج القويم للتأويل المرتضى، وأسسوه على قاعدة منهجية وعلمية وموضوعية، بحيث يكون النص هو الذي يفرض الأداة المنهجية التي ينبغي أن نتعامل معه بها، وألا نسقط عليه أدوات منهجية غريبة عنه تفضي بنـا ـ في النهاية ـ إلى مفارقات صارخة، وإلى نتائج غريبة عن طبيعة الإسلام العقدية والشرعية .
فما ينبغي أن يعرف من موقف أهل السنة في قضية التأويل إجمالا أنهم لم يرفضوه بالكلية، وإنما رفضوا المعنى الأخير، الذي قال به متأخروا المتكلمين والفلاسفة والأصوليين وغيرهم، حيث يصرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وقد رفضوه لأنه استحدث في الأمة لأغراض غير نزيهة وغير علمية، ذلك أنه المدخل الذي تلج منه البدع والضلالات بعد أن تلبس ثوب الشريعة الإسلامية، وتصبغ بصبغتها في الظاهر، لتجنب نفسها المعارضة الشعبية التي كانت ستواجهها حتما إن هي أسفرت عن باطلها وضلالها.
في الوقت نفسه نجد علماء أهل السنة يقررون المعنى القرآني للتأويل، وهو رد الشيء المخبر به إلى حقيقته وآماله، وينصون على أن ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، ومن ثم لم يجوزوا الخوض فيه موضحين أن المنهج السليم هو إثبات المعنى الذي جاء به القرآن الكريم، والقول به من غير زيادة أو نقصان.
كما أنهم قالوا بمعنى التأويل الذي ورد عن السلف وهو ما يفيد التفسير والبيان من جهة، وتنفيذ الأمر الرباني - أمرا كان أو نهيا - من جهة أخرى، وهذا مما أفاضوا الكلام فيه .
__________________
أحمد بزوي الضاوي
أستاذ التعليم العالي
جامعة شعيب الدكالي
والنقل
لطفـــــــاً .. من هنــــــــــــــــــا