من أحكام مس القرآن الكريم - دراسة فقهية مقارنة- للشيخ عمر السبيل رحمه الله
المقدمـة :
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد سبق وأن كتبت بحثًا بعنوان (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم) وقد توصلت من خلاله إلى أن الراجح من قولي العلماء تحريم مس المصحف على البالغ([1]) المحدث حدثًا أصغر
إذ
هو المنقول عن الصحابة وجل التابعين
و
به قال جمهور الأئمة المجتهدين
و
هو مذهب الأئمة الأربعة
و
هو الذي عليه العمل والفتـوى في مختلف العـصور والأمصـار
كما قال ابن عبد البر:
( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر)([2])
ثم
رأيت إتمامًا للفائدة بحث بقية ما يتعلق بمس القرآن الكريم من أحكام ومسائل
لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل في ذلك
فتم إعداد هذا البحث بعنوان
( من أحكام مس القرآن الكريم دراسة فقهية مقارنة )
وقد انتظم في مقدمة وثمانية مطالب وخاتمة .
وقد سلكت فيه المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا ، بذكر آراء العلماء في كل مسألة من مسائله وأدلتها
مع بيان الراجح من تلك الآراء ، مبينًا وجه الترجيح .
فأسأل الله عز وجل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
المطلب الأول : في بيان ما يشمله اسم المصحف
أولاً:
نص فقهاء المذاهب الأربعة على أن اسم المصحف يشمل المكتوب منه ، وما بين سطوره ، وحواشيه ، وغلافه المتصل به ؛ لأنه يتبعه في البيع .
وعلى هذا فقد صرحوا: بأنه
لا يجوز للمحدث أن يمس شيئًا من ذلك كله في الصحيح من مذاهبهم
وأن حكم البعض من المصحف ، والجزء منه كحكمه كله في تحريم مس شيء منه على البالغ ([3])
ودونك أقوالهم المصرحة بذلك :
قال في الهداية شرح البداية:
( وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه ... وغلافه ما يكون متجافيًا عنه ، دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح)([4]).
وقال في البحر الرائق:
( لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره ) ([5]).
وقال في الذخيرة :
( ومس المصحف، أو جلده، أو حواشيه، أو بقضيب، لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفًا للاتصال) ([6]) .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير :
( عن ابن حبيب سواء كان مصحفًا جامعًا أو جزءً،أو ورقة فيها بعض سورة،أو لوحًا،أو كتفًا مكتوبة اهـ ولجلد المصحف قبل انفصاله منه حكمه،
وأحرى طرف المكتوب، وما بين الأسطر ) ([7]) .
وقال في المجموع :
( وسواء مس نفس الأسطر ، أو ما بينها ، أو الحواشي، أو الجلد ، فكل ذلك حرام ، وفي مس الجلد وجه ضعيف : أنه يجوز
وحكى الدارمي وجهًا شاذًا بعيدًا : أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ، ولا ما بين الأسطر ، ولا يحرم إلا نفس المكتوب .
والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع ) ([8]) .
وقال في معونة أولي النهى :
( ويحرم بالحدث أيضًا مس مصحف أو بعضـه... والحكم شامل لما يسمى مصحفًا من الكتاب ، والجلد ، والحواشي ، والورق الأبيض
فلهذا قلت : ( حتى جلده وحواشيه ، بدليل : البيع ) ([9]) .
وذهب بعض الحنفية([10])، وبعض الشافعية([11])، وبعض الحنابلة([12]):
إلى أن المحرم إنمـا هو مس المكتوب منه فقط ، فلا يدخل في التحريم مس مواضع البياض منه معللين لذلك : بأن الماس له لم يمس القرآن .
قال بعض الحنفية :
وهذا مقتضى القياس ، وإن كان القول بالتحريم أقرب إلى إجلال القرآن وتعظيمه([13]) .
قال في بدائع الصنائـع :
( وقال بعض مشايخنا : إنما يكره([14]) له مس الموضع المكتوب دون الحواشي؛ لأنه لم يمس القرآن حقيقة،
والصحيح أنه يكره مس كله؛ لأن الحواشي تابعة للمكتوب ، فكان مسها مسًا للمكتوب ) ([15]) .
وقال ابن مفلح في الفروع :
( وقيل- يعني إنما يحرم – كتابته ، واختاره في الفنون – يعني ابن عقيل – لشمول اسم المصحف له فقط ، لجواز جلوسه على بساط على حواشيه كتابة ) ([16]) .
ورجحان القول الأول
وهو تحريم المس لكل ما يشمله اسم المصحف أمر ظاهر لقوة دليله ، ووجاهة تعليله .
==============
ثانيًا :
واختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس غلاف المصحف المنفصل عنه كالخريطة والعلاقة التي يحفظ بها المصحف سواء كانت من ثوب أو جلد
وكذا الصندوق الخاص بحفظ المصحف فيه
هل يحرم مس شيء من ذلك في حالة كون المصحف فيها أم لا يحرم ؟
في ذلك قولان مشهوران للفقهاء :
القول الأول :
أنه لا يحرم مس شيء من ذلك .
وبه قال الحنفية([17])، والشافعية في قول([18])، والحنابلة في الصحيح من المذهب([19]) .
وروي القول به عن الحسن البصري ، وعطاء ، وطاووس ، والشعبي ، والقاسم بن محمد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان وغيرهم([20])
مستدلين لذلك بما يأتي :
1 -
أن الماس لغلاف المصحف المنفصل ونحوه لم يباشر مس المصحف والنهي إنما يتناول مس المصحف مباشرة من غير حائل([21]) .
2 -
أن انفصال الغلاف ونحوه عن المصحف ، وعدم اتصاله به دليل على عدم شمول اسم المصحف له فلا يأخذ حكمه في تحريم المس ، بدليل : أنه لا يأخذ حكمه في البيع ، فلا يتبع المصحف في البيع إلا بشرط([22]) .
القول الثاني :
أنه يحرم مس شيء من ذلك .
وبه قال المالكية([23])، والشافعية في أصح الوجهين([24])، والحنابلة في قول([25])، وبه قال الأوزاعي([26]) .
وعللوا لذلك :
بأن الغلاف ونحوه متخذ للمصحف ، ومقصود له ، فيكون كجلد المصحف المتصـل به في التحـريم([27])، تكرمة للقـرآن وتعظيمًا له([28]).
والذي يظهر لي أن الراجح من هذين القولين : هو القول بعدم التحريم
لقوة ما استدل به أصحابه ، ووجاهة ما عللوا به ، وللفرق الظاهر بين الغلاف المنفصل والمتصل ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ترجيحه لهذا القول : ( والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه إنما تراد لتعليقه وهو مقصود زائد على مقصود المصحف، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه)([29]).
===============
المطلب الثاني : في بيان المراد بالمس المحرم
أولاً :
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم على أن مس المصحف للمحدث حدثًا أكـبر أو أصغر باليد ، أو بغيرها ، من أعضاء الوضوء، أو سائر أجزاء البدن ، كتقبيله أو مسه بصدر أو ظهر ونحوها مباشرة من غير حائل يعتبر محرمًا
وذلك لصدق اسم المس عليه، فيدخل في عموم النهي عن مس القرآن على غير طهارة ؛ لأن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه([30])؛ ولأن من اللائق بتعظيم المصحف وتكريمه تحريم المس في أعضاء البدن وأجزائه كلها([31]).
وذهب
الحكم بن عتبة ، وحماد بن أبي سليمان إلى جواز مس القرآن بظاهر الكف وسائر أجزاء البدن ، وأنه لا يحرم إلا المس بباطن اليد فقط .
معللين لذلك :
بأن آلة المس هي باطن الكف ، فينصرف إليها النهي دون غيرها من أعضاء البدن وأجزائه .
وقد ضعف ابن قدامة هذا القول ، ورده بقوله : ( وقولهم إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح ، فإن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه )([32]) .
وذهب
الحنفية والحنابلة في قول في كلا المذهبين : إلى أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف بغير أعضاء الوضوء ؛ لأن الحدث لا يحل فيها ، وإلى جواز مس المصحف بما غسل من أعضاء الوضوء ، قبل إكماله ، لارتفاع الحدث عنها([33]) .
ولا شك في رجحان القول الأول
وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم لقوة ما استدلوا به ، ووجاهة ما عللوا به ، ودونك أقوالهم المصرحة بذلك :
قال في حاشية البحر الرائق :
( قال العلامة الزيلعي : ولا يجوز له مس المصحف بالثياب التي يلبسها ؛ لأنها بمنزلة البدن ... وهذا يفيد : أنه لا يجوز حمله في جيبه ، ولا وضعه على رأسه مثلاً بدون غلاف متجاف ، وهذا مما يغفل عنه كثير ، فتنبه ) ([34]) .
وقال الدردير في الشرح الكبير:
( ومَنَعَ حدثٌ أصغر ، وكذا أكبر ... صلاة، وطوافًا ، ومس مصحف كتب بالعربي ، لا بالعجمى إن مسه بعضو ، بل وإن مسه بقضيب أي عود ) ([35]) .
وقال في مغني المحتاج :
( ويحرم بالحدث ... وحملُ المصحف ، ومسُّ ورقه المكتوب فيه ، وغيره بأعضاء الوضوء ، أو بغيرها ، ولو كان فاقدًا للطهورين ، أو مسه من وراء حائل ، كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه ) ([36]) .
وقال في مطالب أولي النهى :
( ويحرم أيضًا مس مصحف وبعضه ... بيد وغيرها كصدر ، إذ كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه ، ويتجه : أنه يحرم مسه حتى بظفر، وشعر، وسن قبل انفصالها عن محلها، تعظيمًا له واحترامًا، وهو متجه)([37]).
ثانيًا :
اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس أو حمل المحدث للمصحف من وراء حائل ، وكذا تقليب أوراقه بعود ونحوه ، أو حمله ضمن أمتعة، وبيان أقوال كل مذهب في هذه المسائل بالتفصيل على النحو التالي :
مذهب الحنفية :
ذهب الحنفية في الصحيح من المذهب إلى أنه يكره كراهة تحريم أن يمس المصحف بكم أو غيره من ثيابه المتصلة ببدنه، دون ما انفصل عنه، معللين لذلك: بأن الكم تابع ليد الماس ، فكما يحرم المس باليد ، يحرم بالكم بحكم التبعية ، وكذا سائر الثوب المتصل به .
والقول الآخر في المذهب : أن ذلك لا يكره ، لعدم مباشرة اليد ونحوها للمس ؛ لأن التحريم خاص بالمس مباشرة من غير حائل
وبهذا قال محمد بن الحسن واختاره صاحب الكافي ، وغيره([38])
قال في البناية شرح الهداية :
( ويكره مسه بالكم أي مس المصحف بكم الماس هو الصحيح ؛ لأنه تابع له أي كون مسه بالكم مكروهًا هو الصحيح ، وفي المحيط : لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد ؛ لأن المحرم هو المس ، وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ...
وفي الذخيرة عن محمد : أنه لا بأس بالمس بالكم ، وقيل عنه روايتان)([39]) .
ويجوز للمحدث عندهم تقليب أوراق المصحف بقلم، أو عود، أو سـكين ، ونحوها لعدم صدق المس عليه([40]) .
مذهب المالكية :
نص المالكية على أنه لا يجوز للمحدث حمل المصحف الكامل من وراء حائل، كثوب ، أو وسادة ، أو حمله بخريطة ، أو علاقة ، أو بصندوق مقصود لحفظ المصحف به تعظيمًا للمصحف وتكريمًا
لكن لا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره كأن يحمله ضمن أمتعة قصدت بالحمل ، فإن قصد حمل المصحف والأمتعة معًا ، فإنه يحرم
وكذا يحرم حمل المصحف في الكرسي الخاص به ، لكن لا يُمنع المحدث من مس الكرسي فقط ، حالة كون المصحف عليه ، لكن من غير حمل له ، لانفصال الكرسي عن المصحف .
كما يحرم عندهم مس المصحف بعود ، أو قضيب ، ونحوه ، معللين لذلك: بأنه بمنزلة اللمس باليد عرفًا ، لاتصال العود ونحوه باليد فيأخذ حكم اليد ذاتها([41]) .
واشتد نكير المالكية على تقليب أوراق المصحف الكامل، أو بعضه بأطراف الأصابع المبللة بالريق والبصاق
حتى قال ابن العربي عن ذلك :
( إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر )([42]) .
والذي يظهر لي أن هذا محل نظر ؛ لأن المقلب لأوراق المصحف بشيء من ريقه إنما قصد الاستعانة بالريق على سهولة التقليب لا إهانة المصحف بتلطيخه بالبصاق والريق ، فإن قصد ذلك فهو محل التحريم الذي قد يبلغ بصاحبه الكفر عياذًا بالله .
ولذا نص فقهاء الحنفية والشافعية على جواز محو كتاب القرآن من المصحف أو اللوح بالريق إن لم يقصد الإهانة . فقال في الدر المختار : ( ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز )([43]) .
وقال القليوبي : (ويجوز ما لا يشعر بالإهانة كالبصاق على اللوح لمحوه ؛ لأنه إعانة )([44]) .
مذهب الشافعية :
ذهب الشافعية إلى أنه يحرم تقليب أوراق المصحف بعود ، أو خشبة ونحوها على الأصح معللين بأنه نقل للورقة فهو كحملها .
والقول الآخر : أنه يصح . وبه قطع العراقيون ، ورجحه النووي في الروضة وذلك لأنه غير مباشر للمس ، ولا حامل للمصحف([45]) .
قال في المهذب :
( ويجوز أن يتركه بين يديه ، ويتصفح أوراقه بخشبة ؛ لأنه غير مباشر له ، ولا حامل له ) ([46]) .
قال الأذرعي :
والقياس أنه إن كانت الورقة قائمة فصفحها بعود جاز ، وإن احتاج في صفحها إلى رفعها حرم ، لأنه حامل لها([47]) .
كما ذهب الشافعية إلى أنه يحرم مس المصحف ، وتقليب أوراقه من وراء حائل ككم يده ، ونحوه ، وذلك لأن الكم متصل به ، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه ، ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم ، بخلاف تقليب الأوراق بالعود على القول بجوازه .
لكن لو قلب أوراق المصحف بكمه فقط ، دون يده ، كأن يفتل الكم ويقلب به الورق ، فهو كالعود في الحكم([48]) .
وقال في المهذب : (
ويحرم عليه حمله في كمه ؛ لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله – وهو في الهتك أبلغ - أولى ) ([49]) .
وأما حمل المصحف ضمن متاع ، ففيه وجهان : أصحهما ، وبه قطع صاحب المهذب ، وهو قول جمهور فقهاء المذهب ، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي : أنه يجوز ؛ لأنه غير مقصود بالحمل لذاته ، فعفي عما فيه من القرآن ، كما لو كتب كتابًا إلى كافر ، وفيه آيات من القرآن .
والثاني : أنه يحرم ؛ لأنه حامل للمصحف حقيقة ، ولا أثر لكون غيره معه، فهو كما لو حمل متاعًا فيه نجاسة ، فإن صلاته تبطل .
قال الماوردي : وصورة المسألة : أن يكون المتاع مقصودًا بالحمل ، فإن كان غير مقصود بالحمل لم يجز([50]) .
مذهب الحنابلة :
ذهب الحنابلة في الصحيح من المذهب : إلى أنه لا يحرم على المحدث حمل المصحف ضمن أمتعة ، أو في كيس ، أو حمله بعلاقته ، أو غلافه ، أو في كمه .
معللين : بأن النهي عن مس المصحف إنما يتناول المس ، والحمل ليس بمس فيبقى الحكم على أصل الإباحة .
كما لا يحرم في الصحيح من المذهب تصفح أوراق المصحف بكمه ، أو تقليب أوراقه بعود ، أو خشبة ، أو خرقة ، وذلك لأن النهي إنما يتناول المس من غير حائل ، ومع وجود الحائل يكون المس للحائل
فلا يحرم لعدم مباشرة المس باليد ، بدليل : عدم انتقاض الوضوء بالمس من وراء حائل ، بخلاف مباشرة المس، فإنه ينقض الوضوء .
والقول الآخر في المذهب : وهو رواية عن الإمام أحمد ، أن ذلك كله يحرم على المحدث ، تعظيمًا للقرآن ، وتكرمة له .
وقيل : إنما يحرم ما تقدم على غير ورَّاق ، لحاجته المتكررة للمس . فيباح له ذلك دفعًا للحرج والمشقة([51]) .
قال في الإنصاف :
( وعنه – أي الإمام أحمد- المنع من تصفحه بكمه ، وخرجه القاضي ، والمجد ، وغيرهما إلى بقية الحوائل .
وأبى ذلك طائفة من الأصحاب منهم المصنف في المغني ، وفرق بأن كمه وعباءته متصل به ، أشبهت أعضاءه ، وأطلق الروايتين في حمله بعلاقته ، أو في غلافه ، وتصفحه بكمه ، أو عود ونحوه ، في المستوعب ، والمحرر ، وابن تميم ، والرعايتين ، والحاويين ، ومجمع البحرين ، والفائق ) ([52]) .
===============
[/b]
من أحكام مس القرآن الكريم
دراسة فقهية مقارنة
د . عمر بن محمد السبيل (رحمه الله)*
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى
============
ملخص البحث
دراسة فقهية مقارنة
د . عمر بن محمد السبيل (رحمه الله)*
الأستاذ المساعد بقسم الشريعة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة أم القرى
============
ملخص البحث
هذا البحث استكمال لبحث سابق أوضحت فيه حكم الطهارة لمس القرآن الكريم
و
في هذا البحث أوضحت بقية الأحكام المتعلقة بالمس ، ببيان ما يصدق عليه اسم المصحف فيحرم مسُّه على غير طهارة ، وما لا يدخل في مسمى المصحف فيجوز مسُّه
ثم
أوضح البحث أن المس المحرم للمصحف على المحدث إنما هو المس المباشر من غير حائل سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسم
ثم
يبين البحث حكم مس ما كتب فيه قرآن من كتب العلم، وغيرها كالدراهم ونحوها ، وحكم مس ما نسخت تلاوته من آيات القرآن ونحوها كالأحاديث القدسية
و
حكم مس الكتب السماوية الأخرى غير القرآن
و
حكم مس الأشرطة التي سجل فيها قرآن
ثم
بيان حكم كتابة القرآن بغير اللغة العربية
و
حكم كتابته للمحدث والكافر
ثم
بيان جواز مس القرآن الكريم على المحدث عند الضرورة
و
انتهى البحث ببيان أهم النتائج المستخلصة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
_______________
(*) توفي –رحمه الله – يوم الجمعة غرة شهر الله الحرام من عام 1423هـ، وصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر من يوم السبت، وقد تبع جنازته خلق من طلاب العلم ومحبي الشيخ –رحمه الله – وقد كان معروفاً بالتواضع، ولين الجانب، وحسن الخلق، وأمّ المصلين في المسجد الحرام لسنواتٍ.
===============
و
في هذا البحث أوضحت بقية الأحكام المتعلقة بالمس ، ببيان ما يصدق عليه اسم المصحف فيحرم مسُّه على غير طهارة ، وما لا يدخل في مسمى المصحف فيجوز مسُّه
ثم
أوضح البحث أن المس المحرم للمصحف على المحدث إنما هو المس المباشر من غير حائل سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسم
ثم
يبين البحث حكم مس ما كتب فيه قرآن من كتب العلم، وغيرها كالدراهم ونحوها ، وحكم مس ما نسخت تلاوته من آيات القرآن ونحوها كالأحاديث القدسية
و
حكم مس الكتب السماوية الأخرى غير القرآن
و
حكم مس الأشرطة التي سجل فيها قرآن
ثم
بيان حكم كتابة القرآن بغير اللغة العربية
و
حكم كتابته للمحدث والكافر
ثم
بيان جواز مس القرآن الكريم على المحدث عند الضرورة
و
انتهى البحث ببيان أهم النتائج المستخلصة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
_______________
(*) توفي –رحمه الله – يوم الجمعة غرة شهر الله الحرام من عام 1423هـ، وصلى عليه في المسجد الحرام بعد صلاة العصر من يوم السبت، وقد تبع جنازته خلق من طلاب العلم ومحبي الشيخ –رحمه الله – وقد كان معروفاً بالتواضع، ولين الجانب، وحسن الخلق، وأمّ المصلين في المسجد الحرام لسنواتٍ.
===============
المقدمـة :
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فقد سبق وأن كتبت بحثًا بعنوان (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم) وقد توصلت من خلاله إلى أن الراجح من قولي العلماء تحريم مس المصحف على البالغ([1]) المحدث حدثًا أصغر
إذ
هو المنقول عن الصحابة وجل التابعين
و
به قال جمهور الأئمة المجتهدين
و
هو مذهب الأئمة الأربعة
و
هو الذي عليه العمل والفتـوى في مختلف العـصور والأمصـار
كما قال ابن عبد البر:
( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر)([2])
ثم
رأيت إتمامًا للفائدة بحث بقية ما يتعلق بمس القرآن الكريم من أحكام ومسائل
لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل في ذلك
فتم إعداد هذا البحث بعنوان
( من أحكام مس القرآن الكريم دراسة فقهية مقارنة )
وقد انتظم في مقدمة وثمانية مطالب وخاتمة .
وقد سلكت فيه المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا ، بذكر آراء العلماء في كل مسألة من مسائله وأدلتها
مع بيان الراجح من تلك الآراء ، مبينًا وجه الترجيح .
فأسأل الله عز وجل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
المطلب الأول : في بيان ما يشمله اسم المصحف
أولاً:
نص فقهاء المذاهب الأربعة على أن اسم المصحف يشمل المكتوب منه ، وما بين سطوره ، وحواشيه ، وغلافه المتصل به ؛ لأنه يتبعه في البيع .
وعلى هذا فقد صرحوا: بأنه
لا يجوز للمحدث أن يمس شيئًا من ذلك كله في الصحيح من مذاهبهم
وأن حكم البعض من المصحف ، والجزء منه كحكمه كله في تحريم مس شيء منه على البالغ ([3])
ودونك أقوالهم المصرحة بذلك :
قال في الهداية شرح البداية:
( وكذا المحدث لا يمس المصحف إلا بغلافه ... وغلافه ما يكون متجافيًا عنه ، دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح)([4]).
وقال في البحر الرائق:
( لا يجوز مس المصحف كله المكتوب وغيره ) ([5]).
وقال في الذخيرة :
( ومس المصحف، أو جلده، أو حواشيه، أو بقضيب، لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفًا للاتصال) ([6]) .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير :
( عن ابن حبيب سواء كان مصحفًا جامعًا أو جزءً،أو ورقة فيها بعض سورة،أو لوحًا،أو كتفًا مكتوبة اهـ ولجلد المصحف قبل انفصاله منه حكمه،
وأحرى طرف المكتوب، وما بين الأسطر ) ([7]) .
وقال في المجموع :
( وسواء مس نفس الأسطر ، أو ما بينها ، أو الحواشي، أو الجلد ، فكل ذلك حرام ، وفي مس الجلد وجه ضعيف : أنه يجوز
وحكى الدارمي وجهًا شاذًا بعيدًا : أنه لا يحرم مس الجلد ولا الحواشي ، ولا ما بين الأسطر ، ولا يحرم إلا نفس المكتوب .
والصحيح الذي قطع به الجمهور تحريم الجميع ) ([8]) .
وقال في معونة أولي النهى :
( ويحرم بالحدث أيضًا مس مصحف أو بعضـه... والحكم شامل لما يسمى مصحفًا من الكتاب ، والجلد ، والحواشي ، والورق الأبيض
فلهذا قلت : ( حتى جلده وحواشيه ، بدليل : البيع ) ([9]) .
وذهب بعض الحنفية([10])، وبعض الشافعية([11])، وبعض الحنابلة([12]):
إلى أن المحرم إنمـا هو مس المكتوب منه فقط ، فلا يدخل في التحريم مس مواضع البياض منه معللين لذلك : بأن الماس له لم يمس القرآن .
قال بعض الحنفية :
وهذا مقتضى القياس ، وإن كان القول بالتحريم أقرب إلى إجلال القرآن وتعظيمه([13]) .
قال في بدائع الصنائـع :
( وقال بعض مشايخنا : إنما يكره([14]) له مس الموضع المكتوب دون الحواشي؛ لأنه لم يمس القرآن حقيقة،
والصحيح أنه يكره مس كله؛ لأن الحواشي تابعة للمكتوب ، فكان مسها مسًا للمكتوب ) ([15]) .
وقال ابن مفلح في الفروع :
( وقيل- يعني إنما يحرم – كتابته ، واختاره في الفنون – يعني ابن عقيل – لشمول اسم المصحف له فقط ، لجواز جلوسه على بساط على حواشيه كتابة ) ([16]) .
ورجحان القول الأول
وهو تحريم المس لكل ما يشمله اسم المصحف أمر ظاهر لقوة دليله ، ووجاهة تعليله .
==============
ثانيًا :
واختلف فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس غلاف المصحف المنفصل عنه كالخريطة والعلاقة التي يحفظ بها المصحف سواء كانت من ثوب أو جلد
وكذا الصندوق الخاص بحفظ المصحف فيه
هل يحرم مس شيء من ذلك في حالة كون المصحف فيها أم لا يحرم ؟
في ذلك قولان مشهوران للفقهاء :
القول الأول :
أنه لا يحرم مس شيء من ذلك .
وبه قال الحنفية([17])، والشافعية في قول([18])، والحنابلة في الصحيح من المذهب([19]) .
وروي القول به عن الحسن البصري ، وعطاء ، وطاووس ، والشعبي ، والقاسم بن محمد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان وغيرهم([20])
مستدلين لذلك بما يأتي :
1 -
أن الماس لغلاف المصحف المنفصل ونحوه لم يباشر مس المصحف والنهي إنما يتناول مس المصحف مباشرة من غير حائل([21]) .
2 -
أن انفصال الغلاف ونحوه عن المصحف ، وعدم اتصاله به دليل على عدم شمول اسم المصحف له فلا يأخذ حكمه في تحريم المس ، بدليل : أنه لا يأخذ حكمه في البيع ، فلا يتبع المصحف في البيع إلا بشرط([22]) .
القول الثاني :
أنه يحرم مس شيء من ذلك .
وبه قال المالكية([23])، والشافعية في أصح الوجهين([24])، والحنابلة في قول([25])، وبه قال الأوزاعي([26]) .
وعللوا لذلك :
بأن الغلاف ونحوه متخذ للمصحف ، ومقصود له ، فيكون كجلد المصحف المتصـل به في التحـريم([27])، تكرمة للقـرآن وتعظيمًا له([28]).
والذي يظهر لي أن الراجح من هذين القولين : هو القول بعدم التحريم
لقوة ما استدل به أصحابه ، ووجاهة ما عللوا به ، وللفرق الظاهر بين الغلاف المنفصل والمتصل ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض ترجيحه لهذا القول : ( والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه إنما تراد لتعليقه وهو مقصود زائد على مقصود المصحف، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه)([29]).
===============
المطلب الثاني : في بيان المراد بالمس المحرم
أولاً :
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم على أن مس المصحف للمحدث حدثًا أكـبر أو أصغر باليد ، أو بغيرها ، من أعضاء الوضوء، أو سائر أجزاء البدن ، كتقبيله أو مسه بصدر أو ظهر ونحوها مباشرة من غير حائل يعتبر محرمًا
وذلك لصدق اسم المس عليه، فيدخل في عموم النهي عن مس القرآن على غير طهارة ؛ لأن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه([30])؛ ولأن من اللائق بتعظيم المصحف وتكريمه تحريم المس في أعضاء البدن وأجزائه كلها([31]).
وذهب
الحكم بن عتبة ، وحماد بن أبي سليمان إلى جواز مس القرآن بظاهر الكف وسائر أجزاء البدن ، وأنه لا يحرم إلا المس بباطن اليد فقط .
معللين لذلك :
بأن آلة المس هي باطن الكف ، فينصرف إليها النهي دون غيرها من أعضاء البدن وأجزائه .
وقد ضعف ابن قدامة هذا القول ، ورده بقوله : ( وقولهم إن المس إنما يختص بباطن اليد ليس بصحيح ، فإن كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه )([32]) .
وذهب
الحنفية والحنابلة في قول في كلا المذهبين : إلى أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف بغير أعضاء الوضوء ؛ لأن الحدث لا يحل فيها ، وإلى جواز مس المصحف بما غسل من أعضاء الوضوء ، قبل إكماله ، لارتفاع الحدث عنها([33]) .
ولا شك في رجحان القول الأول
وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب الأربعة في الصحيح من مذاهبهم لقوة ما استدلوا به ، ووجاهة ما عللوا به ، ودونك أقوالهم المصرحة بذلك :
قال في حاشية البحر الرائق :
( قال العلامة الزيلعي : ولا يجوز له مس المصحف بالثياب التي يلبسها ؛ لأنها بمنزلة البدن ... وهذا يفيد : أنه لا يجوز حمله في جيبه ، ولا وضعه على رأسه مثلاً بدون غلاف متجاف ، وهذا مما يغفل عنه كثير ، فتنبه ) ([34]) .
وقال الدردير في الشرح الكبير:
( ومَنَعَ حدثٌ أصغر ، وكذا أكبر ... صلاة، وطوافًا ، ومس مصحف كتب بالعربي ، لا بالعجمى إن مسه بعضو ، بل وإن مسه بقضيب أي عود ) ([35]) .
وقال في مغني المحتاج :
( ويحرم بالحدث ... وحملُ المصحف ، ومسُّ ورقه المكتوب فيه ، وغيره بأعضاء الوضوء ، أو بغيرها ، ولو كان فاقدًا للطهورين ، أو مسه من وراء حائل ، كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه ) ([36]) .
وقال في مطالب أولي النهى :
( ويحرم أيضًا مس مصحف وبعضه ... بيد وغيرها كصدر ، إذ كل شيء لاقى شيئًا فقد مسه ، ويتجه : أنه يحرم مسه حتى بظفر، وشعر، وسن قبل انفصالها عن محلها، تعظيمًا له واحترامًا، وهو متجه)([37]).
ثانيًا :
اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الأربعة في حكم مس أو حمل المحدث للمصحف من وراء حائل ، وكذا تقليب أوراقه بعود ونحوه ، أو حمله ضمن أمتعة، وبيان أقوال كل مذهب في هذه المسائل بالتفصيل على النحو التالي :
مذهب الحنفية :
ذهب الحنفية في الصحيح من المذهب إلى أنه يكره كراهة تحريم أن يمس المصحف بكم أو غيره من ثيابه المتصلة ببدنه، دون ما انفصل عنه، معللين لذلك: بأن الكم تابع ليد الماس ، فكما يحرم المس باليد ، يحرم بالكم بحكم التبعية ، وكذا سائر الثوب المتصل به .
والقول الآخر في المذهب : أن ذلك لا يكره ، لعدم مباشرة اليد ونحوها للمس ؛ لأن التحريم خاص بالمس مباشرة من غير حائل
وبهذا قال محمد بن الحسن واختاره صاحب الكافي ، وغيره([38])
قال في البناية شرح الهداية :
( ويكره مسه بالكم أي مس المصحف بكم الماس هو الصحيح ؛ لأنه تابع له أي كون مسه بالكم مكروهًا هو الصحيح ، وفي المحيط : لا يكره مسه بالكم عند عامة المشايخ لعدم المس باليد ؛ لأن المحرم هو المس ، وهو اسم للمباشرة باليد بلا حائل ...
وفي الذخيرة عن محمد : أنه لا بأس بالمس بالكم ، وقيل عنه روايتان)([39]) .
ويجوز للمحدث عندهم تقليب أوراق المصحف بقلم، أو عود، أو سـكين ، ونحوها لعدم صدق المس عليه([40]) .
مذهب المالكية :
نص المالكية على أنه لا يجوز للمحدث حمل المصحف الكامل من وراء حائل، كثوب ، أو وسادة ، أو حمله بخريطة ، أو علاقة ، أو بصندوق مقصود لحفظ المصحف به تعظيمًا للمصحف وتكريمًا
لكن لا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره كأن يحمله ضمن أمتعة قصدت بالحمل ، فإن قصد حمل المصحف والأمتعة معًا ، فإنه يحرم
وكذا يحرم حمل المصحف في الكرسي الخاص به ، لكن لا يُمنع المحدث من مس الكرسي فقط ، حالة كون المصحف عليه ، لكن من غير حمل له ، لانفصال الكرسي عن المصحف .
كما يحرم عندهم مس المصحف بعود ، أو قضيب ، ونحوه ، معللين لذلك: بأنه بمنزلة اللمس باليد عرفًا ، لاتصال العود ونحوه باليد فيأخذ حكم اليد ذاتها([41]) .
واشتد نكير المالكية على تقليب أوراق المصحف الكامل، أو بعضه بأطراف الأصابع المبللة بالريق والبصاق
حتى قال ابن العربي عن ذلك :
( إنا لله على غلبة الجهل المؤدي إلى الكفر )([42]) .
والذي يظهر لي أن هذا محل نظر ؛ لأن المقلب لأوراق المصحف بشيء من ريقه إنما قصد الاستعانة بالريق على سهولة التقليب لا إهانة المصحف بتلطيخه بالبصاق والريق ، فإن قصد ذلك فهو محل التحريم الذي قد يبلغ بصاحبه الكفر عياذًا بالله .
ولذا نص فقهاء الحنفية والشافعية على جواز محو كتاب القرآن من المصحف أو اللوح بالريق إن لم يقصد الإهانة . فقال في الدر المختار : ( ومحو بعض الكتابة بالريق يجوز )([43]) .
وقال القليوبي : (ويجوز ما لا يشعر بالإهانة كالبصاق على اللوح لمحوه ؛ لأنه إعانة )([44]) .
مذهب الشافعية :
ذهب الشافعية إلى أنه يحرم تقليب أوراق المصحف بعود ، أو خشبة ونحوها على الأصح معللين بأنه نقل للورقة فهو كحملها .
والقول الآخر : أنه يصح . وبه قطع العراقيون ، ورجحه النووي في الروضة وذلك لأنه غير مباشر للمس ، ولا حامل للمصحف([45]) .
قال في المهذب :
( ويجوز أن يتركه بين يديه ، ويتصفح أوراقه بخشبة ؛ لأنه غير مباشر له ، ولا حامل له ) ([46]) .
قال الأذرعي :
والقياس أنه إن كانت الورقة قائمة فصفحها بعود جاز ، وإن احتاج في صفحها إلى رفعها حرم ، لأنه حامل لها([47]) .
كما ذهب الشافعية إلى أنه يحرم مس المصحف ، وتقليب أوراقه من وراء حائل ككم يده ، ونحوه ، وذلك لأن الكم متصل به ، وله حكم أجزائه في منع السجود عليه ، ولأن التقليب يقع باليد لا بالكم ، بخلاف تقليب الأوراق بالعود على القول بجوازه .
لكن لو قلب أوراق المصحف بكمه فقط ، دون يده ، كأن يفتل الكم ويقلب به الورق ، فهو كالعود في الحكم([48]) .
وقال في المهذب : (
ويحرم عليه حمله في كمه ؛ لأنه إذا حرم مسه فلأن يحرم حمله – وهو في الهتك أبلغ - أولى ) ([49]) .
وأما حمل المصحف ضمن متاع ، ففيه وجهان : أصحهما ، وبه قطع صاحب المهذب ، وهو قول جمهور فقهاء المذهب ، ونقله الماوردي والبغوي عن نص الشافعي : أنه يجوز ؛ لأنه غير مقصود بالحمل لذاته ، فعفي عما فيه من القرآن ، كما لو كتب كتابًا إلى كافر ، وفيه آيات من القرآن .
والثاني : أنه يحرم ؛ لأنه حامل للمصحف حقيقة ، ولا أثر لكون غيره معه، فهو كما لو حمل متاعًا فيه نجاسة ، فإن صلاته تبطل .
قال الماوردي : وصورة المسألة : أن يكون المتاع مقصودًا بالحمل ، فإن كان غير مقصود بالحمل لم يجز([50]) .
مذهب الحنابلة :
ذهب الحنابلة في الصحيح من المذهب : إلى أنه لا يحرم على المحدث حمل المصحف ضمن أمتعة ، أو في كيس ، أو حمله بعلاقته ، أو غلافه ، أو في كمه .
معللين : بأن النهي عن مس المصحف إنما يتناول المس ، والحمل ليس بمس فيبقى الحكم على أصل الإباحة .
كما لا يحرم في الصحيح من المذهب تصفح أوراق المصحف بكمه ، أو تقليب أوراقه بعود ، أو خشبة ، أو خرقة ، وذلك لأن النهي إنما يتناول المس من غير حائل ، ومع وجود الحائل يكون المس للحائل
فلا يحرم لعدم مباشرة المس باليد ، بدليل : عدم انتقاض الوضوء بالمس من وراء حائل ، بخلاف مباشرة المس، فإنه ينقض الوضوء .
والقول الآخر في المذهب : وهو رواية عن الإمام أحمد ، أن ذلك كله يحرم على المحدث ، تعظيمًا للقرآن ، وتكرمة له .
وقيل : إنما يحرم ما تقدم على غير ورَّاق ، لحاجته المتكررة للمس . فيباح له ذلك دفعًا للحرج والمشقة([51]) .
قال في الإنصاف :
( وعنه – أي الإمام أحمد- المنع من تصفحه بكمه ، وخرجه القاضي ، والمجد ، وغيرهما إلى بقية الحوائل .
وأبى ذلك طائفة من الأصحاب منهم المصنف في المغني ، وفرق بأن كمه وعباءته متصل به ، أشبهت أعضاءه ، وأطلق الروايتين في حمله بعلاقته ، أو في غلافه ، وتصفحه بكمه ، أو عود ونحوه ، في المستوعب ، والمحرر ، وابن تميم ، والرعايتين ، والحاويين ، ومجمع البحرين ، والفائق ) ([52]) .
===============
[/b]