رسالة في وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني للشيخ علي النوري (ت 1118 هـ)
قال الشيخ علي بن سالم النوري رحمه الله (1053-1118 هـ) :
" قد بلغ في صحة النقل الغاية، وبلغ في حسن النظر كمال الدراية، جزاه الله خير ما جُزِي به الناصحين، وجمعنا معه في أعلى علِّيين؛ آمين
إلاّ ما مال إليه تبعاً للشيخ العربي الفاسي ( ت 1052 هـ ) من أن اتباع رسم المصحف العثماني مندوب لا واجب
بل الحق والصواب أنه واجب، ويكفيك أنه مذهب الجمهور
بل حكى شيخ شيوخنا أستاذ أهل المغرب في زمانه بلا منازع عبد الرحمن بن القاضي ( ت 1082 هـ ) الإجماع عليه
ولا يوجد في كلام المتقدّمين إلاّ ما يدل عليه، وتأويله تكلّف لا يحتاج إليه .
وما استدل به الشيخ العربي الفاسي رحمه الله كلّه مدخول، ولولا خوف الإطالة لتتبّعت جميع ذلك بكلام نفيس تطأطئ له الرؤوس، ويسلمه كل من أنصف وسلم من رعونات النفوس
انظر إلى قوله : ولقد رأينا مصاحف كثيرة قديمة من مصاحف الأندلس على قراءة نافع ( ت 169 هـ )، ولا يحذفون إلاّ قليلاً، ومصاحف من المشرق على قراءة ابن كثير ( ت 120 هـ ) وقراءة حمزة ( ت 156 هـ )، من غير التزام لهذا الرسم الاصطلاحي .
هذا لا يُسَمّى شبهة فضلاً عن كونه دليلاً لأن هذه المصاحف - وإن كانت قديمة - فالغالب أنها كُتِبَت في القرون المتأخرة لمّا كثر الجهل، وأعرض الناس عن غالب مراشدهم
وعلى تقدير أنها كُتِبَت في القرون الأوَل، فلا يُعرف كاتبها أنه من العلماء الموثوق بهم أم لا، فكيف يُجعَل هذا دليلاً يُعارض به ما فُعِل في حياته وبين يديه، وأبو بكر
إنما حدَث جمعه في مصحف واحد لا كتابته، ولا يُقال إنّ ما فعله أبو بكر بدعة لأنه ممّا اقتضته قواعد الشريعة وأمرت به
وكل ما كان كذلك فليس ببدعة، وإنما لم يُفعَل في زمنه لمَا كان يُتَرقّب من زيادة القرآن بنزول ما لم ينزل منه ونقصه بنسخ ما يُنسخ، ولا تظن أن زيد بن ثابت - الذي كتب المصحف لأبي بكر - خالف هيئة ما كان يكتبه في حياة رسول الله وبين يديه
ثم إن عثمان أرسل إلى حفصة أم المؤمنين فبعثت إليه بالمصحف فنسخه في مصاحفه، ولا تظن أنهم بدّلوا أو غيّروا، ولا سيّما ومعهم زيد بن ثابت الذي كتب لهم المصحف الأوّل، وارتضى كل الصحابة ما فعل عثمان، ولم يعب عليه أحد
حتى قال علي لو ولّيت لفعلتُ في المصاحف ما فعل عثمان
وقال أيضاً : أعظم الناس في المصاحف أبو بكر .
فهذا أمر فعله رسول الله وأجمع عليه الخلفاء الراشدون والصحابة من بعد إجماع قوليّ من بعض، وسكوتيّ من بعض، بل هذا أرفع من السكوتي، لأن السكوتي أن يفتي بعض المجتهدين ويبلغ الباقين فيسكتون من غير تصريح بموافقة ولا إنكار، والناس كلّهم : الصحابة ومن بعدهم، عملوا في مصاحفهم ما عمل عثمان، كما قال مالك : يُكتَب المصحف على الكتابة الأولى، قال الداني ( ت 444 هـ ) : ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة، اهـ .
فهو إجماع بلا شك، وخرق الإجماع حرام إن كان مستنده نصًّا اتفاقاً، وإن كان مستنده الاجتهاد فعلى الصحيح
وقد انتصر للقول بالوجوب شيخ شيوخنا ابن القاضي، وساق عليه أدلة، فانظرها تعرف صحة القول بالوجوب وضعف القول بالاستحباب .
وقد جرى الصحابة رضي الله عنهم في رسم المصاحف العثمانية على ما يقتضيه يسر الدين وسعته في كل شيء، حتى في القرآن نفسه فقد أذن الله لرسوله ولأمته أن يقرأوه على سبعة أحرف، فحذفوا في بعضها ما أثبتوه في آخر، وكان ذلك لحِكَم وأسرار تدل على دقة أنظارهم وكمال فطنتهم
وعلى هذا يُحمَل ما وقع من الخلاف بين العلماء في الإثبات والحذف، فقراءاتهم كلهم على حق وصواب، وكُلٌّ اقتدى بما رأى في المصاحف العثمانية أو مصاحف الأمصار التي كتبها العلماء الموثوق بهم التابعون للمصاحف العثمانية
وعلى هذا فمن قلّد أحد الأعلام في رسمه لكتاب الله فهو مصيب، ولا سيما من قلّد الداني إمام هذا وغيره، والمجمع على فضله وجلالته وإتقانه وقبول تواليفه عند الخاص والعام، وشهادتهم في غاية الحسن والإتقان،
كما قاله الحافظ الذهبي بعد أن نقل عن ابن بشكوال أن أبا عمرو أحد الأعلام في علم القرآن؛ روايته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كلّه تواليفاً حساناً مفيدة، قال : وكان حسن الخط جيد الضبط من أهل الحفظ والذكاء والتفنن ديّناً فاضلاً ورعاً، وكان مجاب الدعوة رضي الله عنه، اهـ .
فإذا كان مقلِّد هذا مخطئاً فمن المصيب ؟!
فإن قلت المصاحف العثمانية نُسِخَت من مصحف الصدّيق، وهو مصحف واحد لا يمكن أن تكون الكلمة الواحدة فيه ثابتة محذوفة، فمن أين جاء هذا الخلاف الذي ذكرته وإنه كلّه حق وصواب ؟
فالجواب
يمكن أن يكون زيد بن ثابت أشار إلى هذا بعلامة يعلمها من وقف على المصحف، وقد كان بلغ الغاية القصوى في فرط الذكاء وكمال العقل، أو أنه كان يثبت كلمة الخلاف في الهامش على غير ما كتبها في أصل المصحف، كما شاهدنا ذلك في مصاحف كثيرة بلغت الغاية في الضبط والإتقان، لا يشك من رآها أنها كتابة عالم متمكّن في هذا الفن، ويزداد المصحف بذلك حسناً وطلاوة، وإنه كان مستحضراً ذلك في ذهنه وفعله ما يمكن من فعله، ولا يُظَن بأصحاب رسول الله في كل أمر إلاّ الخير، ولا سيّما في ما يتعلَّق بأمر الدين وكتاب الله المبين، رضي الله عنهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، آمين .
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً .
قال ذلك وكتبه
عبد الله وأحوج عبيده وأفقرهم لرحمته
علي النوري
عفا الله عنه بمنّه وكرمه،
آمين،
بأواخر شهر الله المدعو عندنا بالمحرّم فاتح سنة 1117 هـ ".
نُقِلَت من
" رسالة في حكم السماع وفي وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني "
للشيخ علي النوري رحمه الله ،
ص 21-25 / ط . 1406 هـ، دار الغرب الإسلامي
[/size]
قال الشيخ علي بن سالم النوري رحمه الله (1053-1118 هـ) :
" قد بلغ في صحة النقل الغاية، وبلغ في حسن النظر كمال الدراية، جزاه الله خير ما جُزِي به الناصحين، وجمعنا معه في أعلى علِّيين؛ آمين
إلاّ ما مال إليه تبعاً للشيخ العربي الفاسي ( ت 1052 هـ ) من أن اتباع رسم المصحف العثماني مندوب لا واجب
بل الحق والصواب أنه واجب، ويكفيك أنه مذهب الجمهور
بل حكى شيخ شيوخنا أستاذ أهل المغرب في زمانه بلا منازع عبد الرحمن بن القاضي ( ت 1082 هـ ) الإجماع عليه
ولا يوجد في كلام المتقدّمين إلاّ ما يدل عليه، وتأويله تكلّف لا يحتاج إليه .
وما استدل به الشيخ العربي الفاسي رحمه الله كلّه مدخول، ولولا خوف الإطالة لتتبّعت جميع ذلك بكلام نفيس تطأطئ له الرؤوس، ويسلمه كل من أنصف وسلم من رعونات النفوس
انظر إلى قوله : ولقد رأينا مصاحف كثيرة قديمة من مصاحف الأندلس على قراءة نافع ( ت 169 هـ )، ولا يحذفون إلاّ قليلاً، ومصاحف من المشرق على قراءة ابن كثير ( ت 120 هـ ) وقراءة حمزة ( ت 156 هـ )، من غير التزام لهذا الرسم الاصطلاحي .
هذا لا يُسَمّى شبهة فضلاً عن كونه دليلاً لأن هذه المصاحف - وإن كانت قديمة - فالغالب أنها كُتِبَت في القرون المتأخرة لمّا كثر الجهل، وأعرض الناس عن غالب مراشدهم
وعلى تقدير أنها كُتِبَت في القرون الأوَل، فلا يُعرف كاتبها أنه من العلماء الموثوق بهم أم لا، فكيف يُجعَل هذا دليلاً يُعارض به ما فُعِل في حياته وبين يديه، وأبو بكر
إنما حدَث جمعه في مصحف واحد لا كتابته، ولا يُقال إنّ ما فعله أبو بكر بدعة لأنه ممّا اقتضته قواعد الشريعة وأمرت به
وكل ما كان كذلك فليس ببدعة، وإنما لم يُفعَل في زمنه لمَا كان يُتَرقّب من زيادة القرآن بنزول ما لم ينزل منه ونقصه بنسخ ما يُنسخ، ولا تظن أن زيد بن ثابت - الذي كتب المصحف لأبي بكر - خالف هيئة ما كان يكتبه في حياة رسول الله وبين يديه
ثم إن عثمان أرسل إلى حفصة أم المؤمنين فبعثت إليه بالمصحف فنسخه في مصاحفه، ولا تظن أنهم بدّلوا أو غيّروا، ولا سيّما ومعهم زيد بن ثابت الذي كتب لهم المصحف الأوّل، وارتضى كل الصحابة ما فعل عثمان، ولم يعب عليه أحد
حتى قال علي لو ولّيت لفعلتُ في المصاحف ما فعل عثمان
وقال أيضاً : أعظم الناس في المصاحف أبو بكر .
فهذا أمر فعله رسول الله وأجمع عليه الخلفاء الراشدون والصحابة من بعد إجماع قوليّ من بعض، وسكوتيّ من بعض، بل هذا أرفع من السكوتي، لأن السكوتي أن يفتي بعض المجتهدين ويبلغ الباقين فيسكتون من غير تصريح بموافقة ولا إنكار، والناس كلّهم : الصحابة ومن بعدهم، عملوا في مصاحفهم ما عمل عثمان، كما قال مالك : يُكتَب المصحف على الكتابة الأولى، قال الداني ( ت 444 هـ ) : ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة، اهـ .
فهو إجماع بلا شك، وخرق الإجماع حرام إن كان مستنده نصًّا اتفاقاً، وإن كان مستنده الاجتهاد فعلى الصحيح
وقد انتصر للقول بالوجوب شيخ شيوخنا ابن القاضي، وساق عليه أدلة، فانظرها تعرف صحة القول بالوجوب وضعف القول بالاستحباب .
وقد جرى الصحابة رضي الله عنهم في رسم المصاحف العثمانية على ما يقتضيه يسر الدين وسعته في كل شيء، حتى في القرآن نفسه فقد أذن الله لرسوله ولأمته أن يقرأوه على سبعة أحرف، فحذفوا في بعضها ما أثبتوه في آخر، وكان ذلك لحِكَم وأسرار تدل على دقة أنظارهم وكمال فطنتهم
وعلى هذا يُحمَل ما وقع من الخلاف بين العلماء في الإثبات والحذف، فقراءاتهم كلهم على حق وصواب، وكُلٌّ اقتدى بما رأى في المصاحف العثمانية أو مصاحف الأمصار التي كتبها العلماء الموثوق بهم التابعون للمصاحف العثمانية
وعلى هذا فمن قلّد أحد الأعلام في رسمه لكتاب الله فهو مصيب، ولا سيما من قلّد الداني إمام هذا وغيره، والمجمع على فضله وجلالته وإتقانه وقبول تواليفه عند الخاص والعام، وشهادتهم في غاية الحسن والإتقان،
كما قاله الحافظ الذهبي بعد أن نقل عن ابن بشكوال أن أبا عمرو أحد الأعلام في علم القرآن؛ روايته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كلّه تواليفاً حساناً مفيدة، قال : وكان حسن الخط جيد الضبط من أهل الحفظ والذكاء والتفنن ديّناً فاضلاً ورعاً، وكان مجاب الدعوة رضي الله عنه، اهـ .
فإذا كان مقلِّد هذا مخطئاً فمن المصيب ؟!
فإن قلت المصاحف العثمانية نُسِخَت من مصحف الصدّيق، وهو مصحف واحد لا يمكن أن تكون الكلمة الواحدة فيه ثابتة محذوفة، فمن أين جاء هذا الخلاف الذي ذكرته وإنه كلّه حق وصواب ؟
فالجواب
يمكن أن يكون زيد بن ثابت أشار إلى هذا بعلامة يعلمها من وقف على المصحف، وقد كان بلغ الغاية القصوى في فرط الذكاء وكمال العقل، أو أنه كان يثبت كلمة الخلاف في الهامش على غير ما كتبها في أصل المصحف، كما شاهدنا ذلك في مصاحف كثيرة بلغت الغاية في الضبط والإتقان، لا يشك من رآها أنها كتابة عالم متمكّن في هذا الفن، ويزداد المصحف بذلك حسناً وطلاوة، وإنه كان مستحضراً ذلك في ذهنه وفعله ما يمكن من فعله، ولا يُظَن بأصحاب رسول الله في كل أمر إلاّ الخير، ولا سيّما في ما يتعلَّق بأمر الدين وكتاب الله المبين، رضي الله عنهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، آمين .
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً .
قال ذلك وكتبه
عبد الله وأحوج عبيده وأفقرهم لرحمته
علي النوري
عفا الله عنه بمنّه وكرمه،
آمين،
بأواخر شهر الله المدعو عندنا بالمحرّم فاتح سنة 1117 هـ ".
نُقِلَت من
" رسالة في حكم السماع وفي وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني "
للشيخ علي النوري رحمه الله ،
ص 21-25 / ط . 1406 هـ، دار الغرب الإسلامي
[/size]