بَعْضُ جَوَانِب عِبَادَة إرَاقَة الدَّم [الذَّبَح والنَّحْر] لِسَمَاحَة المُفْتِيّ آل
===============================
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِالحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق خلقه من إنسه وجنه لتحقيق عبادته بصرف جميع أنواع العبودية له وحده لا شريك له ، كما لم يكن له شريك في خلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم ، يقول الله سبحانه : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ سورة الذاريات : 56 -58 ]فحصر سبحانه مراده من خلق الجن والإنس في تحقيق عبادته ، وأداة الحصر هنا (ما ، وإلا) كما هو معلوم ، ونفى سبحانه أي إرادة له في تحصيل رزق من عباده ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه هو الرزاق ، وهو سبحانه ذو القوة المتين فتمحضت إرادة ربنا وخالقنا سبحانه من خلقنا في أمر واحد ألا وهو عبادته وحده لا شريك له ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [ سورة النساء الآية 36 ] لأجل ذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [ سورة النحل الآية 36 ].
والعبادة قد عرفها العلماء بعدة تعاريف كلها راجعة في نهاية الأمر إلى شيء واحد ، ومن أوضح تعاريفها: ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في رسالته (العبودية) حيث قال: والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
ومن هنا يتبين لنا أن العبادة جنس تحته أنواع ، وبعض الأنواع تحتها أفراد ، فجنس العبادة منه الباطن ومنه الظاهر ، والباطن له أنواع كثيرة من محبة ورجاء وخوف وخشية وقصد واعتقاد وتعظيم ونحو ذلك ، والظاهر له أنواع ، فمنه القولي ومنه العملي ، والقولي له أفراد أعلاها قول لا إله إلا الله ، ومن أفراده الصدق وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة والذكر والدعاء .
والعملي له أفراد من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد ، وإراقة الدم ، ونحو ذلك .
والعبادة متنوعة باعتبار آخر ، فمنها فعل الشيء بالجوارح وملازمة فعله كالصلاة خمس مرات في اليوم .
ومنها ما يكون فيه بذل للمال كالزكاة . ومنها ما يكون فيه حبس للنفس عن مشتهياتها كالصيام ، ومنها ما يكون فيه بذل للمال وعمل بالجوارح كالحج ، ومنها ما يكون فيه بذل للنفس والمال كالجهاد في سبيل الله .
ومن أنواع العبادة إراقة الدم تعظيما وتقربا لله عز وجل ، وذلك هو الذبح أو النحر .
ولعل فاتحة هذا العدد المبارك من مجلة البحوث الإسلامية ، تكون حول بعض جوانب هذه العبادة العظيمة التي قرنها الله في كتابه بالصلاة ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [ سورة الكوثر الآية 1-3 ] .
وأصل معنى الذبح في اللغة هو الشق ، وعرفه بعضهم بأنه إزهاق الروح بإصابة الحلق أو النحر ، فيشمل الذبح والنحر .
والذبيحة تسمى أيضا بالنسيكة ومنه قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ سورة الأنعام الآية 162] وفي الجمع بين الصلاة والنحر حكمة عظيمة ، وبيان لعظيم منزلة الذبح والنحر في الإسلام وأنها قربة لا يجوز صرفها إلا لله ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ( أمره - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عونه ، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم ، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ، ولهذا جمع بينهما في قوله : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ﴾ الآية [ سورة الأنعام الآية 162 ]، والنسك : الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، إلى أن قال رحمه الله: وأجل العبادات البدنية الصلاة ، وأجل العبادات المالية النحر ، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها ، كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص في قوة اليقين وحسن الظن ، أمر عجيب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر ) اهـ .
وإزهاق نفس الحيوان البري المأكول اللحم ، شرط لحله إلا الجراد ، فإنه مستثنى على القول بأنه حيوان بري؛ فتحل ميتته بلا ذكاة ، وأما على القول بأنه حيوان بحري فلا إشكال في حل ميتته .
وإزهاق النفس يسمى بالذكاة .
والذكاة في اللغة : تمام الشيء ، وسمي الذبح أو النحر أو العقر ذكاة ؛ لأنه إتمام لزهوق النفس ، ومنه قوله تعالى : ﴿ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾[سورة المائدة الآية 3 ] أي أدركتموه وفيه حياة فأتممتموه ، ثم استعمل في الذبح أو النحر أو العقر ، سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداء .
والذكاة في الاصطلاح : ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري ، بقطع الحلقوم والمريء أو عقر ممتنع .
ومن هنا يتبين لنا أمور:
الأول : أن الذكاة لا تعمل إلا في الحيوان البري مأكول اللحم دون البحري؛ لأن ميتة البحر حلال . يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ [ سورة المائدة الآية 96 ] ذكر المفسرون أن ( صيد البحر ) هو ما أخذ منه حيا ، و( طعامه ) هو ما قذفه البحر ميتا ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عن الجميع ، ومن التابعين عكرمة وابن أبي سلمة عبد الرحمن ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري رحم الله الجميع ، ذكر ذلك عنهم ابن كثير رحمه الله .
وأيضا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) رواه الخمسة والشافعي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم رحمهم الله .
الثاني : أن الذكـاة قسمان: اختيارية ، واضطرارية . فالاختيارية تكون في الحيوان البري المقدور عليه ، وتكون ذكاته بأحد طريقين: إما بالذبح أو بالنحر .
والذبح يكون بقطع الحلقوم والمريء من الحيوان المراد ذكاته ، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة وعليه عامتهم ، وهو أيضا مذهب الشافعية .
وقيل غير ذلك ، فمنهم من قال: يكفي أن يقطع ثلاثة من أربعة ، والأربعة هي الحلقوم والمريء والودجان ، فإذا قطع ثلاثة منها فقد حصلت الذكاة ، وهذا هو مذهب الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول : ( والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح ، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن ، فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم ، وأبلغ في إنهار الدم ) اهـ .
وقد جعله رحمه الله وجها في مذهب الحنابلة كما قاله المرداوي في الإنصاف . وعن الإمام أحمد رواية أنه يحصل بقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية .
أما المالكية فإنهم قالوا : إنه لا يحصل إلا بقطع جميع الحلقوم مع الودجين وإلا لم يحل على الأصح عندهم .
وقد اشترط الإمام أحمد رحمه الله في رواية قطع جميع الأوداج الأربعة لحل الذبيحة .
والصحيـح أن قطـع الحلقوم والمريء مجـزئ ، ومبيـح للذبيحة لأن به يحصل المقصود من إنهار الدم المسفوح وزهوق نفس الذبيحة ، والأفضل قطع ثلاثة من أربعة لأنه أبلغ في إنهار الدم وأسرع في زهوق نفس الذبيحة وإراحتها .
والكمال قطع الأربعة كلها ، لتحقق المعاني السابقة على وجه الكمال .
أما النحر فهو بطعن الحيوان في لبته وهي الوهدة وهي ما بين أسفل العنق والصدر وهي منفذ إلى جوف الحيوان ومقتل له . والذبح يكون غالبا للغنم والبقر ، والنحر للإبل ، ويجوز أن ينحر ما حقه الذبح ، ويذبح ما حقه النحر . هذه هي الذكاة الاختيارية أو ذكاة الحيوان المقدور عليه - كما هي عبارة غالب الفقهاء - .
أما الذكاة الاضطرارية ، أو ذكاة الحيوان الممتنع أو غير المقدور عليه ، فتكون بما عبر عنه هنا بالعقر ، وهذا هو الأمر الثالث الذي تبين لنا من خلال التعريف .
والممتنع هو ما يعجز عن ذبحه أو نحره ، إما لأنه قد ند فلم يقدر عليه ، أو لأنه قد تردى في بئر ، أو نحوهما من الأسباب ، أو كان مما يمتنع عادة وهذا الأخير هو الصيد فإنه متوحش بطبعه .
والحكـم فيما سبق كله هو العقر ، بمعنى جرح الحيوان في أي موضع أمكن جرحه فيه لقتله ، فمتى مات بهذا السبب حل أكله وهذا هو قول أكثر الفقهاء لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال : (( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير ، وكان في القوم خيل يسيرة ، فطلبوه فأعياهم ، فأهوى إليه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها ، فاصنعوا به هكذا )) وفي لفظ : (( فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا )) متفق عليه . وقد جاء عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم آثار في هذا المعنى في مصنف ابن أبي شيبة ، وفي سنن البيهقي ، وغيرها .
هذا ما يتعلق بتعريف الذكاة ، ونحن في هذه الكلمة الموجزة سنعرض بإذن الله للذكاة الاختيارية وهي ما يسميها عامة الفقهاء بذكاة الحيوان المقدور عليه .
(( بَعْضُ جَوَانِب عِبَادَة إرَاقَة الدَّم ))
[الذَّبَح والنَّحْر]
لِسَمَاحَة المُفْتِيّ العَلاَّمَةِ عَبْدِ العَزِيزِ آل الشَّيْخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
- حفظه الله ورعاه -
[الذَّبَح والنَّحْر]
لِسَمَاحَة المُفْتِيّ العَلاَّمَةِ عَبْدِ العَزِيزِ آل الشَّيْخ
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
- حفظه الله ورعاه -
===============================
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق خلقه من إنسه وجنه لتحقيق عبادته بصرف جميع أنواع العبودية له وحده لا شريك له ، كما لم يكن له شريك في خلقهم ورزقهم وإحيائهم وإماتتهم ، يقول الله سبحانه : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ *مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ سورة الذاريات : 56 -58 ]فحصر سبحانه مراده من خلق الجن والإنس في تحقيق عبادته ، وأداة الحصر هنا (ما ، وإلا) كما هو معلوم ، ونفى سبحانه أي إرادة له في تحصيل رزق من عباده ونحو ذلك؛ لأنه سبحانه هو الرزاق ، وهو سبحانه ذو القوة المتين فتمحضت إرادة ربنا وخالقنا سبحانه من خلقنا في أمر واحد ألا وهو عبادته وحده لا شريك له ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [ سورة النساء الآية 36 ] لأجل ذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [ سورة النحل الآية 36 ].
والعبادة قد عرفها العلماء بعدة تعاريف كلها راجعة في نهاية الأمر إلى شيء واحد ، ومن أوضح تعاريفها: ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في رسالته (العبودية) حيث قال: والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة .
ومن هنا يتبين لنا أن العبادة جنس تحته أنواع ، وبعض الأنواع تحتها أفراد ، فجنس العبادة منه الباطن ومنه الظاهر ، والباطن له أنواع كثيرة من محبة ورجاء وخوف وخشية وقصد واعتقاد وتعظيم ونحو ذلك ، والظاهر له أنواع ، فمنه القولي ومنه العملي ، والقولي له أفراد أعلاها قول لا إله إلا الله ، ومن أفراده الصدق وقول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة والذكر والدعاء .
والعملي له أفراد من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد ، وإراقة الدم ، ونحو ذلك .
والعبادة متنوعة باعتبار آخر ، فمنها فعل الشيء بالجوارح وملازمة فعله كالصلاة خمس مرات في اليوم .
ومنها ما يكون فيه بذل للمال كالزكاة . ومنها ما يكون فيه حبس للنفس عن مشتهياتها كالصيام ، ومنها ما يكون فيه بذل للمال وعمل بالجوارح كالحج ، ومنها ما يكون فيه بذل للنفس والمال كالجهاد في سبيل الله .
ومن أنواع العبادة إراقة الدم تعظيما وتقربا لله عز وجل ، وذلك هو الذبح أو النحر .
ولعل فاتحة هذا العدد المبارك من مجلة البحوث الإسلامية ، تكون حول بعض جوانب هذه العبادة العظيمة التي قرنها الله في كتابه بالصلاة ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [ سورة الكوثر الآية 1-3 ] .
وأصل معنى الذبح في اللغة هو الشق ، وعرفه بعضهم بأنه إزهاق الروح بإصابة الحلق أو النحر ، فيشمل الذبح والنحر .
والذبيحة تسمى أيضا بالنسيكة ومنه قوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ سورة الأنعام الآية 162] وفي الجمع بين الصلاة والنحر حكمة عظيمة ، وبيان لعظيم منزلة الذبح والنحر في الإسلام وأنها قربة لا يجوز صرفها إلا لله ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله : ( أمره - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عونه ، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم ، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ، ولهذا جمع بينهما في قوله : ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ﴾ الآية [ سورة الأنعام الآية 162 ]، والنسك : الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله ، إلى أن قال رحمه الله: وأجل العبادات البدنية الصلاة ، وأجل العبادات المالية النحر ، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها ، كما عرفه أرباب القلوب الحية ، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص في قوة اليقين وحسن الظن ، أمر عجيب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر ) اهـ .
وإزهاق نفس الحيوان البري المأكول اللحم ، شرط لحله إلا الجراد ، فإنه مستثنى على القول بأنه حيوان بري؛ فتحل ميتته بلا ذكاة ، وأما على القول بأنه حيوان بحري فلا إشكال في حل ميتته .
وإزهاق النفس يسمى بالذكاة .
والذكاة في اللغة : تمام الشيء ، وسمي الذبح أو النحر أو العقر ذكاة ؛ لأنه إتمام لزهوق النفس ، ومنه قوله تعالى : ﴿ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾[سورة المائدة الآية 3 ] أي أدركتموه وفيه حياة فأتممتموه ، ثم استعمل في الذبح أو النحر أو العقر ، سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداء .
والذكاة في الاصطلاح : ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري ، بقطع الحلقوم والمريء أو عقر ممتنع .
ومن هنا يتبين لنا أمور:
الأول : أن الذكاة لا تعمل إلا في الحيوان البري مأكول اللحم دون البحري؛ لأن ميتة البحر حلال . يقول الله سبحانه وتعالى : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾ [ سورة المائدة الآية 96 ] ذكر المفسرون أن ( صيد البحر ) هو ما أخذ منه حيا ، و( طعامه ) هو ما قذفه البحر ميتا ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عن الجميع ، ومن التابعين عكرمة وابن أبي سلمة عبد الرحمن ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري رحم الله الجميع ، ذكر ذلك عنهم ابن كثير رحمه الله .
وأيضا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) رواه الخمسة والشافعي وصححه البخاري والترمذي وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم رحمهم الله .
الثاني : أن الذكـاة قسمان: اختيارية ، واضطرارية . فالاختيارية تكون في الحيوان البري المقدور عليه ، وتكون ذكاته بأحد طريقين: إما بالذبح أو بالنحر .
والذبح يكون بقطع الحلقوم والمريء من الحيوان المراد ذكاته ، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة وعليه عامتهم ، وهو أيضا مذهب الشافعية .
وقيل غير ذلك ، فمنهم من قال: يكفي أن يقطع ثلاثة من أربعة ، والأربعة هي الحلقوم والمريء والودجان ، فإذا قطع ثلاثة منها فقد حصلت الذكاة ، وهذا هو مذهب الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول : ( والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربعة يبيح ، سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن ، فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم ، وأبلغ في إنهار الدم ) اهـ .
وقد جعله رحمه الله وجها في مذهب الحنابلة كما قاله المرداوي في الإنصاف . وعن الإمام أحمد رواية أنه يحصل بقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ، وهو اختيار أبي يوسف من الحنفية .
أما المالكية فإنهم قالوا : إنه لا يحصل إلا بقطع جميع الحلقوم مع الودجين وإلا لم يحل على الأصح عندهم .
وقد اشترط الإمام أحمد رحمه الله في رواية قطع جميع الأوداج الأربعة لحل الذبيحة .
والصحيـح أن قطـع الحلقوم والمريء مجـزئ ، ومبيـح للذبيحة لأن به يحصل المقصود من إنهار الدم المسفوح وزهوق نفس الذبيحة ، والأفضل قطع ثلاثة من أربعة لأنه أبلغ في إنهار الدم وأسرع في زهوق نفس الذبيحة وإراحتها .
والكمال قطع الأربعة كلها ، لتحقق المعاني السابقة على وجه الكمال .
أما النحر فهو بطعن الحيوان في لبته وهي الوهدة وهي ما بين أسفل العنق والصدر وهي منفذ إلى جوف الحيوان ومقتل له . والذبح يكون غالبا للغنم والبقر ، والنحر للإبل ، ويجوز أن ينحر ما حقه الذبح ، ويذبح ما حقه النحر . هذه هي الذكاة الاختيارية أو ذكاة الحيوان المقدور عليه - كما هي عبارة غالب الفقهاء - .
أما الذكاة الاضطرارية ، أو ذكاة الحيوان الممتنع أو غير المقدور عليه ، فتكون بما عبر عنه هنا بالعقر ، وهذا هو الأمر الثالث الذي تبين لنا من خلال التعريف .
والممتنع هو ما يعجز عن ذبحه أو نحره ، إما لأنه قد ند فلم يقدر عليه ، أو لأنه قد تردى في بئر ، أو نحوهما من الأسباب ، أو كان مما يمتنع عادة وهذا الأخير هو الصيد فإنه متوحش بطبعه .
والحكـم فيما سبق كله هو العقر ، بمعنى جرح الحيوان في أي موضع أمكن جرحه فيه لقتله ، فمتى مات بهذا السبب حل أكله وهذا هو قول أكثر الفقهاء لحديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال : (( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فند بعير ، وكان في القوم خيل يسيرة ، فطلبوه فأعياهم ، فأهوى إليه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها ، فاصنعوا به هكذا )) وفي لفظ : (( فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا )) متفق عليه . وقد جاء عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم آثار في هذا المعنى في مصنف ابن أبي شيبة ، وفي سنن البيهقي ، وغيرها .
هذا ما يتعلق بتعريف الذكاة ، ونحن في هذه الكلمة الموجزة سنعرض بإذن الله للذكاة الاختيارية وهي ما يسميها عامة الفقهاء بذكاة الحيوان المقدور عليه .