[size=24][b]مفهوم الضبط ،وما يتعلق به .
مفهوم الضبط عند الرواة : وفيه :
ــ تعريف الضبط، ومشروعيته،وعلة اعتباره .
ــ أقسام الضبط .
ــ معرفة ضبط الرواة .
ــ فروع اختلال الضبط .
ــ خاتمة الفصل .
تعريف الضبط ،ومشروعيته،وعلة اعتباره .
الضبط لغة :
تدل كلمة الضبط في اللغة على عدة معان،فتأتي بمعنى لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء
،فيقال: ضبط الشيء يضبطه من باب ضرب ؛أي لزمه لزوماً لزوماً شديداً ،لذا يقال:هو أضبط من الأعمى ،وأضبط من نملة(1). والمعنى واضح الدلالة على شدة الملازمة وعدم المفارقة .
وتأتي بمعنى آخر ،فيقال:ضبط الشيء إذا حفظه بالحزم ؛أي حفظه حفظاً بليغاً ،ومنه قيل: ضبطت البلاد وغيرها إذا قمت بأمرها قياماً ليس فيه نقص(2) .
ومن المجاز:هو ضابط للأمور، وفلان لا يضبط عمله:لا يقوم بما فوض إليه، ولا يضبط قراءته:لا يحسنها(3) . مما يدل على عدم الحفظ بالحزم والقوة .
وفي اصطلاح المحدثين : ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه من غير زيادة ولا نقصان. وأول من بينه خير بيان الإمام الشافعي(4)رحمه الله تعالى فقال: ((أن يكون الراوي حافظاً إن حدث من حفظه ،حافظاً لكتابه إن حدث منه ،
ــــــــــــــــ
(1)- لسان العرب(محمد بن منظور المصري،دار صادر بيروت،ط1)مادة ضبط،7(/ 340 ). وأساس البلاغة(محمود بن عمر الزمخشري،ط/1979،دار صادر بيروت)،( ص:370 ) .
(2)– مختار الصحاح(محمد بن أبي بكر الرازي،تح:محمود خاطر،مكتبة لبنان ناشرون،ط/1995 (1/403).والقاموس المحيط(محمد بن يعقوب الشيرازي،مؤسسة الرسالة بيروت،ط3/1993)،(ص:782).والمصباح المنير(أحمد بن علي الفيومي،المكتبة العلمية بيروت)،(2/357) .
(3) – أساس البلاغة (ص:370) .
(4) – محمد بن إدريس بن العباس المطلبي،أبو عبدالله، نزيل مصر،المجدد على رأس المائتين،من كتبه:الأم،والرسالة وغيرهما،توفي سنة أربع ومائتين،خت4. تقريب التهذيب(أحمد بن حجر العسقلاني، تح:محمد عوامة، دار الرشيد سوريا،ط1/1986)،(1/467) . طبقات الحفاظ(جلال الدين السيوطي،دار الكتب العلمية بيروت،ط/1403هـ) ،(ص:157) .
عالماً بما يحيل معاني الحديث إن حدث على المعنى(1) ،إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم))(2) .وذكر ابن الأثير(3) في مقدمة الجامع أن الضبط عبارة عن احتياط في باب العلم ،وله طرفان :العلم عند السماع ،والحفظ بعد العلم عند التكلم ،فلو سمع ولم يعلم،أولم يفهم لم يكن ضابطا ،وكذا إذا شك في الحفظ بعد العلم أوالسماع(4) .
إذاً:فليس المقصود بالضبط والإتقان -عند المحدثين- سعة الحفظ وكثرة المحفوظات ،وإنما المقصود به التثبت ،وأن لا يروي الراوي إلا ما حفظه ،وأن يؤديه كما سمعه ،وأهل الضبط بهذا المعنى يتفاوتون .
ــــــــــــــــــ
(1) – اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالمعنى،والأكثر على أن ذلك جائز بشروط :أن يكون الراوي عالماً عارفاً بالألفاظ ومقاصدها،بصيراً بمقدارالتفاوت بينها،عارفاً بالفقه واختلاف الأحكام،مميزاً لما يحيل المعنى وما لا يحيله،وأن يكون المعنى ظاهراً معلوماً ،وأما إذا كان غامضاً محتملاً فإنه لا يجوز رواية الحديث على المعنى ويلزم إيراد اللفظ بعينه وسياقه على وجهه.
انظر:علوم الحديث(لأبي عمرو عثمان الشهرزوري، تح: د.نور الدين عتر،دار الفكر دمشق، إعادة ط3/1998م )،(ص:213) .توجيه النظر إلى أصول الأثر(طاهر الجزائري الدمشقي،تح:عبد الفتاح أبو غدة ،مكتب المطبوعات الإسلامية حلب ،ط1/1416هـ)،(1/671) .الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تح: د .محمود الطحان،مكتبة المعارف الرياض،ط/1403هـ)،(2/34) .
(2)- الرسالة(محمد بن إدريس الشافعي،تح:أحمد شاكر،القاهرة،ط/1939)،(ص:370).وانظرشرح علل الترمذي(ابن رجب الحنبلي،تح:د. نورالدين عتر،دارالملاح،ط1/1978)،(1/351) .
وتدريب الراوي( لجلال الدين السيوطي،تح:عبد الوهاب عبد اللطيف،دار الكتب الحديثة،القاهرة،ط/1966)،(1/201).وفتح المغيث(محمد بن عبد الرحمن السخاوي،دار الكتب العلمية لبنان،ط1/1403هـ)،(1/289) .
(3)- المبارك بن محمد الجزري ،مجد الدين،ابن الأثير،محدث كبير،ولغوي بارع،وأصولي،توفي606هـ له جامع الأصول،والنهاية في غريب الحديث،وغيرهما .سير أعلام النبلاء(محمد بن أحمد الذهبي،إشراف شعيب الأرناؤوط ،مؤسسة الرسالة بيروت،ط2/1985)(21/488) .
(4)- جامع الأصول(ابن الأثير الجزري ،تح:محمد حامد فقي،دار إحياء التراث العربي بيروت،ط3/1983)،(1/35) .
والأدلة على اشتراط صفة الضبط في الراوي كثيرة ،منها قول الله تعالى:﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء :36] أي:لا تقل رأيتُ ولم ترَ ،وسمعتُ ولم تسمعْ وعلمتُ ولم تعلم(1).فالتحقق والضبط أولاً ثم الأداء .
وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر :"نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه"(2).
قلت:أي أدى الخبر كما سمعه،وهذا لا يتحقق إلا بكون الراوي واعياً ضابطاً لما يسمع حتى يؤدي ما تحمله بدقة وأمانة .
وكل دليل يوجب اشتراط العدالة يوجب اشتراط الضبط(3) .قلت:لأن العلة بينهما واحدة وهي تحقيق الأداء السليم بعد التحمل .
أما عن اشتراط الضبط إلى جانب العدالة ،وعدم الاكتفاء بالعدالة وحدها لقبول رواية الراوي ،أقول: من المصطلحات الدارجة ،والكثيرة الاستعمال في علم مصطلح الحديث مصطلح الثقة ،حيث نجد المحدثين يعبرون عن أحكامهم على بعض الرواة بأنهم ثقات أو بأن فلاناً ثقة .
ومن أشهر معاني هذا المصطلح ،أن الراوي الذي منحه المحدثون هذا الوصف أي؛ قالوا فيه :ثقة ،يكون موصوفاً بوصفين:
ــــــــــــــــــ
(1)- تفسير الطبري(لمحمد بن جرير الطبري ،دار الفكر بيروت،ط/1405هـ)،(15/81) .
(2)- رواه أبو داوود(سليمان بن الأشعث السجستاني) في سننه،تح:محيي الدين عبد الحميد،دار الفكر (باب فضل نشر العلم:2/346) . والترمذي(محمد بن عيسى) في السنن،تح:أحمد شاكر وآخرون،دار إحياء التراث بيروت . (باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع:5/34) .وابن ماجه(محمد بن يزيد القزويني)في سننه،تح:محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر بيروت .(باب من بلغ علماً:1/84) . والحديث متواتر،ورد بألفاظ متعددة مما يدل على أنه قد روي بالمعنى.وما ذكرته أحد ألفاظه،وفي رواية أخرى:"فحفظه حتى يبلغه" .والحفظ يشمل الحفظين معاً:حفظ الصدور والسطور .
(3)- أصول الجرح والتعديل(د.نور الدين عتر،دار الفرفور دمشق،ط/1420هـ)،(ص:51) .
الوصف الأول : العدالة،الوصف
الثاني : الضبط والإتقان(1)؛لأن الرواية تحتاج إلى الأمرين معاً ،فلا يقبل الخبر إلا ممن كان ديِّنَاً تقياً لا يتعمد الكذب ولا الإخبار بخلاف الواقع ،مع التثبت في النقل للأخبار.فقد يكون غير متعمد للكذب ولكنه ليس ممن يحفظ الحديث على وجهه فيخطئ عن غير قصد حال الأداء ؛لهذا اشترط المحدثون- رحمهم الله - لقبول الحديث من الراوي أن يكون موصوفاً بهذين الوصفين .
وقال أبو الزناد(2):أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون،ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال:ليس من أهله(3) .وقال مالك بن أنس(4):(( لقد أدركت في هذا البلد _ يعني المدينة _ مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة،يحدثون،ما سمعت من أحد منهم حديثاً قط ))، قيل له ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : (( لم يكونوا يعرفون ما يحدثون ))(5).
ولا يثبت الخبر إلا بضبط رواته له ، والضبط غالباً عليه مدار التصحيح والتعليل ، والجرح والتعديل ، وذلك لأن صحة الحديث لا تحصل إلا بالعناية به من حين سماعه وحتى أدائه ،وهذا هو الضبط .
فالعدالة ليست هي العامل الوحيد لقبول الرواية ،وإنما يجب أن تشفع بالحفظ والضبط والإتقان،وهذا أمر يختلف باختلاف المواهب والقدرات الشخصية للراوي .
ـــــــــــــــــــ
(1)- قلت:ذكر ابن الصلاح- رحمه الله- أنه يشترط فيمن يحتج بحديثه:أن يكون عدلاً،ضابطاً لما يرويه. علوم الحديث(ص:104) .
(2)- عبدالله بن ذكوان القرشي،أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد،ثقة فقيه،مات سنة ثلاثين ومائة،وقيل :بعدها.ع. تقريب التهذيب(أحمد بن حجر العسقلاني،تح:محمد فؤاد عبد الباقي ،دار الرشيد سوريا،ط1/1986)،(ص:302) .
(3)- صحيح مسلم(مسلم بن الحجاج القشيري،تح:محمد فؤاد عبد الباقي،دار إحياء التراث العربي بيروت)،( بيان أن الإسناد من الدين:1/12) .
(4)- مالك بن أنس بن مالك،أبوعبدالله المدني،إمام دار الهجرة،رأس المتقنين وكبير المتثبتين،مات سنة (179هـ)،قال الواقدي:بلغ تسعين سنة.ع. تقريب التهذيب(ص:516).
(5)- الكفاية في علم الرواية (الخطيب البغدادي،تح:أبو عبدالله السورقي،وإبراهيم حمدي المدني،المكتبة العلمية المدينة المنورة)،(1/116) .
أنواع الضبط .
قسم المحدثون النقاد -وهم أهل هذا الفن ومهرته- الضبط إلى قسمين هما:
ضبط صدر،وضبط كتاب .
يقول ابن حجر(1)-رحمه الله – مبيناً ذلك :((والضبط ضبط صدر(2) وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء ،وضبط كتاب وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه))(3) .
فضبط الصدر:هو الحفظ .بأن يثبت الراوي ما سمعه في صدره ،بحيث يبعد زواله عن القوة الحافظة ،مع القدرة على استحضار المحفوظ إن حدث حفظاً. وشرطه:أن يكون الراوي حازم الفؤاد ،يقظاً ،غير مغفل لا يميز الصواب من الخطأ كالنائم ،أو الساهي ،إذ الموصوف بذلك لا يحصل الركون إليه ،ولا تميل النفس إلى الاعتماد عليه(4) .
وأكثر الرواة كانوا يعتمدون على هذا النوع في أداء الحديث،ولم يكونوا يكتبون. وقد صدرت منهم خوارق في ذلك قد يشك فيها ويستغربها من لم يجربها ولم يشاهد أصحابها ،ورويت عنهم أخبار في قوة الحفظ يستغربها الإنسان في هذا العصر الذي انصرفت فيه النفوس عن الحفظ والاستحضار ،واعتمد فيه على الكتب والأسفار .
ـــــــــــــــ
(1)- أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المصري الشافعي،أبو الفضل،شهاب الدين، أميرالمؤمنين في الحديث،ولد بمصر سنة(773هـ)،درس ونبغ وبرع في التصنيف والتأليف،من أشهر كتبه:فتح الباري بشرح صحيح البخاري،توفي سنة852هـ) .
انظر ترجمته في:الضوء اللامع في تراجم أهل القرن التاسع(شمس الدين السخاوي،منشورات دار مكتبة الحياة بيروت)،(2/36ـ40)،وشذرات الذهب في أخبار من ذهب(ابن العماد الحنبلي،منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت) ،(3/270ـ273) .
(2)- يمكن أن نقول ضبط حفظ،أو ثبت حفظ .يقول يحيى بن معين:( هما ثبت حفظ وثبت كتاب).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(2/38) .
(3)- نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر(ابن حجر العسقلاني،تح: د .نور الدين عتر،دار الخير دمشق،ط2/1993)،(ص:55) .
(4)- فتح المغيث (1/289) .
والحق أن تلك الروايات المتعلقة بالحفاظ وقدرتهم على الحفظ إنما هي وقائع وليست ضروباً من الظنون(1) .
ومن أعجب ما روي في ذلك:قصة الإمام البخاري(2) عندما قدم بغداد ،فسمع به أصحاب الحديث ،فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه.....والقصة مشهورة .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذه الحكاية :(( قلت: هنا يخضع للبخاري!فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب ؛فإنه كان حافظا ،بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة ))(3) .
وهذا الإمام الجهبذ يحيى بن معين(4) يقول عن وكيع بن الجراح(5): "ما رأيت أحفظ من وكيع"(6) .
قلت:مَرَدُّ شيوع ظاهرة الحفظ وذيوعها إلى قوة الحافظة ،وسيلان الأذهان ،واتقاد الذواكر ،وكثرة المذاكرة ،ويضاف إلى ذلك تقارب الإسناد(7) إذ يؤمن فيه من الخطأ والوهم والنسيان.
ــــــــــــــ
(1)- ضوابط الرواية عند المحدثين(بشير نصر،بحث ماجستير،منشورات كلية الدعوة الإسلامية،الجماهيرية العظمى،ط1/1401هـ)،(ص:124) .
(2)-محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي،أبو عبدالله البخاري،جبل الحفظ،وإمام الدنيا في فقه الحديث،مات سنة ست وخمسين ومائتين وله اثنتان وستون سنة.ت س.التقريب(ص:468).
(3)- هدي الساري مقدمة فتح الباري(ابن حجر العسقلاني،مراجعة:مصطفى الهواري مكتبة القاهرة،ط:1978)،(2/240) .
(4)- يحيى بن معين بن عون الغطفاني،مولاهم،أبو زكريا البغدادي،ثقة حافظ مشهور إمام الجرح والتعديل،مات سنة(233) في المدينة المنورة،وله بضع وسبعون سنة.ع. التقريب(ص:597) .
(5)- وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ،أبو سفيان الكوفي ،ثقة حافظ عابد ،من كبار التاسعة ،مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين ومائة وله سبعون سنة.ع.التقريب(ص:581) .
(6)- شرح علل الترمذي (1/201) .
(7)- قلت:لم يكن الإسناد طويلاً ،وكذلك لم يكن قد مات الرواة وصعب التأكد منهم،وإنما كان يمكن للسامع أن يتأكد من الرواة مباشرة .
وأذكى هذه الحافظة ما ورد عن النبي-عليه الصلاة والسلام- من أحاديث تنهى عن الكتابة(1).كحديث:(( لا تكتبوا عني،ومن كتب عني غير القرآن فليمحه))(2).
أما ضبط الكتاب:فهو صون كتابه عن تطرق الخلل والتزوير والتغيير إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي منه(3) ،مع مقابلته بأصل موثوق به كنسخة شيخه ،وأن لا يعيره إلا لمن أمن أنه لا يغير أو يبدل فيه شيئاً(4) ،فإن لم يقابل كتابه ،أو تهاون في المحافظة عليه ،وروى من نسخ مستعارة أومشتراة ،فقد عرض نفسه للطعن وعُدَّ في طبقات المجروحين(5) .
قلت: كان المحدثون مع سعة حفظهم ،وشدة تحريهم وتثبتهم يكتبون ،فالحفظ خوّان ،والإنسان عُرْضَةٌ للخطأ والوهم ،لا سيما مع بعد عهد النبوة ،وطول الأسانيد وتعددها ،وكثرة متون الأحاديث وما يتبعها ،كان لا بد أن يعمد المتأخرون إلى الكتابة ،حفظاً للحديث ،وصيانة للسنة أن يُدَسّ فيها ما هو دخيل عليها .
قيل ليحيى بن معين:أيهما أحب إليك ثبت حفظ أوثبت كتاب؟ قال:ثبت كتاب(6) .
وقال علي بن المديني(7): ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب،ولنا فيه أسوة(8) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- دراسات في منهج النقد(د.محمد علي العمري،دار النفائس الأردن،ط1/2000)،(ص:314).
(2)- أخرجه مسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري،باب:التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم،رقم(3004)،(4/2289).والنهي عن الكتابة،إنما كان لمن يوثق بحفظه،أو خشية الاختلاط بالقرآن .
(3)- فتح المغيث (1/289) .
(4)- انظر:علوم الحديث لابن الصلاح(ص:210) .
(5)- انظر:المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل(أبو عبدالله الحاكم النيسابوري،تح:معتز الخطيب،دار الفيحاء دمشق،ط1/2001)،(ص:109ـ110) . علوم الحديث(ص:209) .
(6)- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/38) .
(7)- علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح السعدي،مولاهم،بصري ثقة ثبت إمام،أعلم أهل عصره بالحديث وعلله،قال البخاري:ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني،من العاشرة،مات سنة أربع وثلاثين على الصحيح.خ ت س فق . التقريب(ص:403) .
(8)- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(2/12) .
قال الإمام أحمد(1) : حدثنا قوم من حفظهم ،وقوم من كتبهم ،فكان الذين حدّثونا من كتبهم أتقن(2) .
قلت:من الحفاظ من كان يجمع بين ضبطي الصدر والكتاب ،فإذا أتقن حفظ المكتوب،بيّض ما كتب .أي:محاه بعد أن جعله في خزانة صدره .
يقول الخطيب البغدادي(3):((وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه،فإذا أتقنه محا الكتاب خوفاً من أن يتكل القلب عليه ،فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ ،وترك العناية بالمحفوظ))(4) .
والنوع الأول من الضبط يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ؛لتعلقه بالمواهب والكفاءات الشخصية ،والظروف والأحوال ،أما النوع الثاني فلا يتصور فيه تفاوت ولا اختلاف ،وشروط ضبط الكتاب(5) التي اشترطها المحدثون كافية في منع التفاوت ،ومن هنا كان ضبط الكتاب أتقن _كما أسلفنا_ عن الإمام أحمد رحمه الله .
ـــــــــــــــــــــ
(1)- أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني،أبو عبدالله،الإمام الفقيه الحافظ الحجة،ولد في بغداد ثم طاف البلاد،روى عنه كبار الأئمة،صنف المسند وغيره،توفي سنة(241هـ).ع.التقريب(ص:84).
(2)- تقييد العلم(الخطيب البغدادي،تح:يوسف العش،دار إحياء السنة النبوية،ط2/1974)(ص:115) (3)- أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الحافظ الكبير،الإمام،محدث الشام والعراق،صاحب التصانيف،رحل إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع،وتقدم في عامة فنون الحديث.قال ابن ماكولا:كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظاً وإتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتفنناً في علله وأسانيده.....من مصنفاته: التاريخ،والجامع،والكفاية وغيرها كثير،مات سنة(463هـ).
انظر:تذكرة الحفاظ(محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي،دار إحياء التراث العربي بيروت)،(3/1135ـ1145) .وسير أعلام النبلاء(أبو عبدالله الذهبي،تح:شعيب الأرناؤوط،ونعيم العرقوسي،مؤسسة الرسالة بيروت،ط9/1413هـ)،(17/270) .
(4)- تقييد العلم (ص:58). وقد ذكر الخطيب عدداً من الحفاظ الذين كانوا يفعلون ذلك:كمسروق بن الأجدع،وابن شهاب الزهري،وخالد الحذاء،وغيرهم .
(5)- انظر هذه الشروط في علوم الحديث في النوع :الخامس والعشرون (كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده)،(ص: 181وما بعدها) .
يقول الشيخ ملاّ علي القاري(1):((وأما ضبط الكتاب فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه نقصان،ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره،وإن كان يختلف ضبط الكتاب باختلاف الكُتَّاب))(2) .
مفهوم الضبط عند الرواة : وفيه :
ــ تعريف الضبط، ومشروعيته،وعلة اعتباره .
ــ أقسام الضبط .
ــ معرفة ضبط الرواة .
ــ فروع اختلال الضبط .
ــ خاتمة الفصل .
تعريف الضبط ،ومشروعيته،وعلة اعتباره .
الضبط لغة :
تدل كلمة الضبط في اللغة على عدة معان،فتأتي بمعنى لزوم شيء لا يفارقه في كل شيء
،فيقال: ضبط الشيء يضبطه من باب ضرب ؛أي لزمه لزوماً لزوماً شديداً ،لذا يقال:هو أضبط من الأعمى ،وأضبط من نملة(1). والمعنى واضح الدلالة على شدة الملازمة وعدم المفارقة .
وتأتي بمعنى آخر ،فيقال:ضبط الشيء إذا حفظه بالحزم ؛أي حفظه حفظاً بليغاً ،ومنه قيل: ضبطت البلاد وغيرها إذا قمت بأمرها قياماً ليس فيه نقص(2) .
ومن المجاز:هو ضابط للأمور، وفلان لا يضبط عمله:لا يقوم بما فوض إليه، ولا يضبط قراءته:لا يحسنها(3) . مما يدل على عدم الحفظ بالحزم والقوة .
وفي اصطلاح المحدثين : ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه من غير زيادة ولا نقصان. وأول من بينه خير بيان الإمام الشافعي(4)رحمه الله تعالى فقال: ((أن يكون الراوي حافظاً إن حدث من حفظه ،حافظاً لكتابه إن حدث منه ،
ــــــــــــــــ
(1)- لسان العرب(محمد بن منظور المصري،دار صادر بيروت،ط1)مادة ضبط،7(/ 340 ). وأساس البلاغة(محمود بن عمر الزمخشري،ط/1979،دار صادر بيروت)،( ص:370 ) .
(2)– مختار الصحاح(محمد بن أبي بكر الرازي،تح:محمود خاطر،مكتبة لبنان ناشرون،ط/1995 (1/403).والقاموس المحيط(محمد بن يعقوب الشيرازي،مؤسسة الرسالة بيروت،ط3/1993)،(ص:782).والمصباح المنير(أحمد بن علي الفيومي،المكتبة العلمية بيروت)،(2/357) .
(3) – أساس البلاغة (ص:370) .
(4) – محمد بن إدريس بن العباس المطلبي،أبو عبدالله، نزيل مصر،المجدد على رأس المائتين،من كتبه:الأم،والرسالة وغيرهما،توفي سنة أربع ومائتين،خت4. تقريب التهذيب(أحمد بن حجر العسقلاني، تح:محمد عوامة، دار الرشيد سوريا،ط1/1986)،(1/467) . طبقات الحفاظ(جلال الدين السيوطي،دار الكتب العلمية بيروت،ط/1403هـ) ،(ص:157) .
عالماً بما يحيل معاني الحديث إن حدث على المعنى(1) ،إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم))(2) .وذكر ابن الأثير(3) في مقدمة الجامع أن الضبط عبارة عن احتياط في باب العلم ،وله طرفان :العلم عند السماع ،والحفظ بعد العلم عند التكلم ،فلو سمع ولم يعلم،أولم يفهم لم يكن ضابطا ،وكذا إذا شك في الحفظ بعد العلم أوالسماع(4) .
إذاً:فليس المقصود بالضبط والإتقان -عند المحدثين- سعة الحفظ وكثرة المحفوظات ،وإنما المقصود به التثبت ،وأن لا يروي الراوي إلا ما حفظه ،وأن يؤديه كما سمعه ،وأهل الضبط بهذا المعنى يتفاوتون .
ــــــــــــــــــ
(1) – اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالمعنى،والأكثر على أن ذلك جائز بشروط :أن يكون الراوي عالماً عارفاً بالألفاظ ومقاصدها،بصيراً بمقدارالتفاوت بينها،عارفاً بالفقه واختلاف الأحكام،مميزاً لما يحيل المعنى وما لا يحيله،وأن يكون المعنى ظاهراً معلوماً ،وأما إذا كان غامضاً محتملاً فإنه لا يجوز رواية الحديث على المعنى ويلزم إيراد اللفظ بعينه وسياقه على وجهه.
انظر:علوم الحديث(لأبي عمرو عثمان الشهرزوري، تح: د.نور الدين عتر،دار الفكر دمشق، إعادة ط3/1998م )،(ص:213) .توجيه النظر إلى أصول الأثر(طاهر الجزائري الدمشقي،تح:عبد الفتاح أبو غدة ،مكتب المطبوعات الإسلامية حلب ،ط1/1416هـ)،(1/671) .الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تح: د .محمود الطحان،مكتبة المعارف الرياض،ط/1403هـ)،(2/34) .
(2)- الرسالة(محمد بن إدريس الشافعي،تح:أحمد شاكر،القاهرة،ط/1939)،(ص:370).وانظرشرح علل الترمذي(ابن رجب الحنبلي،تح:د. نورالدين عتر،دارالملاح،ط1/1978)،(1/351) .
وتدريب الراوي( لجلال الدين السيوطي،تح:عبد الوهاب عبد اللطيف،دار الكتب الحديثة،القاهرة،ط/1966)،(1/201).وفتح المغيث(محمد بن عبد الرحمن السخاوي،دار الكتب العلمية لبنان،ط1/1403هـ)،(1/289) .
(3)- المبارك بن محمد الجزري ،مجد الدين،ابن الأثير،محدث كبير،ولغوي بارع،وأصولي،توفي606هـ له جامع الأصول،والنهاية في غريب الحديث،وغيرهما .سير أعلام النبلاء(محمد بن أحمد الذهبي،إشراف شعيب الأرناؤوط ،مؤسسة الرسالة بيروت،ط2/1985)(21/488) .
(4)- جامع الأصول(ابن الأثير الجزري ،تح:محمد حامد فقي،دار إحياء التراث العربي بيروت،ط3/1983)،(1/35) .
والأدلة على اشتراط صفة الضبط في الراوي كثيرة ،منها قول الله تعالى:﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء :36] أي:لا تقل رأيتُ ولم ترَ ،وسمعتُ ولم تسمعْ وعلمتُ ولم تعلم(1).فالتحقق والضبط أولاً ثم الأداء .
وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر :"نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه"(2).
قلت:أي أدى الخبر كما سمعه،وهذا لا يتحقق إلا بكون الراوي واعياً ضابطاً لما يسمع حتى يؤدي ما تحمله بدقة وأمانة .
وكل دليل يوجب اشتراط العدالة يوجب اشتراط الضبط(3) .قلت:لأن العلة بينهما واحدة وهي تحقيق الأداء السليم بعد التحمل .
أما عن اشتراط الضبط إلى جانب العدالة ،وعدم الاكتفاء بالعدالة وحدها لقبول رواية الراوي ،أقول: من المصطلحات الدارجة ،والكثيرة الاستعمال في علم مصطلح الحديث مصطلح الثقة ،حيث نجد المحدثين يعبرون عن أحكامهم على بعض الرواة بأنهم ثقات أو بأن فلاناً ثقة .
ومن أشهر معاني هذا المصطلح ،أن الراوي الذي منحه المحدثون هذا الوصف أي؛ قالوا فيه :ثقة ،يكون موصوفاً بوصفين:
ــــــــــــــــــ
(1)- تفسير الطبري(لمحمد بن جرير الطبري ،دار الفكر بيروت،ط/1405هـ)،(15/81) .
(2)- رواه أبو داوود(سليمان بن الأشعث السجستاني) في سننه،تح:محيي الدين عبد الحميد،دار الفكر (باب فضل نشر العلم:2/346) . والترمذي(محمد بن عيسى) في السنن،تح:أحمد شاكر وآخرون،دار إحياء التراث بيروت . (باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع:5/34) .وابن ماجه(محمد بن يزيد القزويني)في سننه،تح:محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر بيروت .(باب من بلغ علماً:1/84) . والحديث متواتر،ورد بألفاظ متعددة مما يدل على أنه قد روي بالمعنى.وما ذكرته أحد ألفاظه،وفي رواية أخرى:"فحفظه حتى يبلغه" .والحفظ يشمل الحفظين معاً:حفظ الصدور والسطور .
(3)- أصول الجرح والتعديل(د.نور الدين عتر،دار الفرفور دمشق،ط/1420هـ)،(ص:51) .
الوصف الأول : العدالة،الوصف
الثاني : الضبط والإتقان(1)؛لأن الرواية تحتاج إلى الأمرين معاً ،فلا يقبل الخبر إلا ممن كان ديِّنَاً تقياً لا يتعمد الكذب ولا الإخبار بخلاف الواقع ،مع التثبت في النقل للأخبار.فقد يكون غير متعمد للكذب ولكنه ليس ممن يحفظ الحديث على وجهه فيخطئ عن غير قصد حال الأداء ؛لهذا اشترط المحدثون- رحمهم الله - لقبول الحديث من الراوي أن يكون موصوفاً بهذين الوصفين .
وقال أبو الزناد(2):أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون،ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال:ليس من أهله(3) .وقال مالك بن أنس(4):(( لقد أدركت في هذا البلد _ يعني المدينة _ مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة،يحدثون،ما سمعت من أحد منهم حديثاً قط ))، قيل له ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : (( لم يكونوا يعرفون ما يحدثون ))(5).
ولا يثبت الخبر إلا بضبط رواته له ، والضبط غالباً عليه مدار التصحيح والتعليل ، والجرح والتعديل ، وذلك لأن صحة الحديث لا تحصل إلا بالعناية به من حين سماعه وحتى أدائه ،وهذا هو الضبط .
فالعدالة ليست هي العامل الوحيد لقبول الرواية ،وإنما يجب أن تشفع بالحفظ والضبط والإتقان،وهذا أمر يختلف باختلاف المواهب والقدرات الشخصية للراوي .
ـــــــــــــــــــ
(1)- قلت:ذكر ابن الصلاح- رحمه الله- أنه يشترط فيمن يحتج بحديثه:أن يكون عدلاً،ضابطاً لما يرويه. علوم الحديث(ص:104) .
(2)- عبدالله بن ذكوان القرشي،أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد،ثقة فقيه،مات سنة ثلاثين ومائة،وقيل :بعدها.ع. تقريب التهذيب(أحمد بن حجر العسقلاني،تح:محمد فؤاد عبد الباقي ،دار الرشيد سوريا،ط1/1986)،(ص:302) .
(3)- صحيح مسلم(مسلم بن الحجاج القشيري،تح:محمد فؤاد عبد الباقي،دار إحياء التراث العربي بيروت)،( بيان أن الإسناد من الدين:1/12) .
(4)- مالك بن أنس بن مالك،أبوعبدالله المدني،إمام دار الهجرة،رأس المتقنين وكبير المتثبتين،مات سنة (179هـ)،قال الواقدي:بلغ تسعين سنة.ع. تقريب التهذيب(ص:516).
(5)- الكفاية في علم الرواية (الخطيب البغدادي،تح:أبو عبدالله السورقي،وإبراهيم حمدي المدني،المكتبة العلمية المدينة المنورة)،(1/116) .
أنواع الضبط .
قسم المحدثون النقاد -وهم أهل هذا الفن ومهرته- الضبط إلى قسمين هما:
ضبط صدر،وضبط كتاب .
يقول ابن حجر(1)-رحمه الله – مبيناً ذلك :((والضبط ضبط صدر(2) وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء ،وضبط كتاب وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه))(3) .
فضبط الصدر:هو الحفظ .بأن يثبت الراوي ما سمعه في صدره ،بحيث يبعد زواله عن القوة الحافظة ،مع القدرة على استحضار المحفوظ إن حدث حفظاً. وشرطه:أن يكون الراوي حازم الفؤاد ،يقظاً ،غير مغفل لا يميز الصواب من الخطأ كالنائم ،أو الساهي ،إذ الموصوف بذلك لا يحصل الركون إليه ،ولا تميل النفس إلى الاعتماد عليه(4) .
وأكثر الرواة كانوا يعتمدون على هذا النوع في أداء الحديث،ولم يكونوا يكتبون. وقد صدرت منهم خوارق في ذلك قد يشك فيها ويستغربها من لم يجربها ولم يشاهد أصحابها ،ورويت عنهم أخبار في قوة الحفظ يستغربها الإنسان في هذا العصر الذي انصرفت فيه النفوس عن الحفظ والاستحضار ،واعتمد فيه على الكتب والأسفار .
ـــــــــــــــ
(1)- أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني المصري الشافعي،أبو الفضل،شهاب الدين، أميرالمؤمنين في الحديث،ولد بمصر سنة(773هـ)،درس ونبغ وبرع في التصنيف والتأليف،من أشهر كتبه:فتح الباري بشرح صحيح البخاري،توفي سنة852هـ) .
انظر ترجمته في:الضوء اللامع في تراجم أهل القرن التاسع(شمس الدين السخاوي،منشورات دار مكتبة الحياة بيروت)،(2/36ـ40)،وشذرات الذهب في أخبار من ذهب(ابن العماد الحنبلي،منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت) ،(3/270ـ273) .
(2)- يمكن أن نقول ضبط حفظ،أو ثبت حفظ .يقول يحيى بن معين:( هما ثبت حفظ وثبت كتاب).
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(2/38) .
(3)- نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر(ابن حجر العسقلاني،تح: د .نور الدين عتر،دار الخير دمشق،ط2/1993)،(ص:55) .
(4)- فتح المغيث (1/289) .
والحق أن تلك الروايات المتعلقة بالحفاظ وقدرتهم على الحفظ إنما هي وقائع وليست ضروباً من الظنون(1) .
ومن أعجب ما روي في ذلك:قصة الإمام البخاري(2) عندما قدم بغداد ،فسمع به أصحاب الحديث ،فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه.....والقصة مشهورة .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذه الحكاية :(( قلت: هنا يخضع للبخاري!فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب ؛فإنه كان حافظا ،بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة ))(3) .
وهذا الإمام الجهبذ يحيى بن معين(4) يقول عن وكيع بن الجراح(5): "ما رأيت أحفظ من وكيع"(6) .
قلت:مَرَدُّ شيوع ظاهرة الحفظ وذيوعها إلى قوة الحافظة ،وسيلان الأذهان ،واتقاد الذواكر ،وكثرة المذاكرة ،ويضاف إلى ذلك تقارب الإسناد(7) إذ يؤمن فيه من الخطأ والوهم والنسيان.
ــــــــــــــ
(1)- ضوابط الرواية عند المحدثين(بشير نصر،بحث ماجستير،منشورات كلية الدعوة الإسلامية،الجماهيرية العظمى،ط1/1401هـ)،(ص:124) .
(2)-محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي،أبو عبدالله البخاري،جبل الحفظ،وإمام الدنيا في فقه الحديث،مات سنة ست وخمسين ومائتين وله اثنتان وستون سنة.ت س.التقريب(ص:468).
(3)- هدي الساري مقدمة فتح الباري(ابن حجر العسقلاني،مراجعة:مصطفى الهواري مكتبة القاهرة،ط:1978)،(2/240) .
(4)- يحيى بن معين بن عون الغطفاني،مولاهم،أبو زكريا البغدادي،ثقة حافظ مشهور إمام الجرح والتعديل،مات سنة(233) في المدينة المنورة،وله بضع وسبعون سنة.ع. التقريب(ص:597) .
(5)- وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ،أبو سفيان الكوفي ،ثقة حافظ عابد ،من كبار التاسعة ،مات في آخر سنة ست وأول سنة سبع وتسعين ومائة وله سبعون سنة.ع.التقريب(ص:581) .
(6)- شرح علل الترمذي (1/201) .
(7)- قلت:لم يكن الإسناد طويلاً ،وكذلك لم يكن قد مات الرواة وصعب التأكد منهم،وإنما كان يمكن للسامع أن يتأكد من الرواة مباشرة .
وأذكى هذه الحافظة ما ورد عن النبي-عليه الصلاة والسلام- من أحاديث تنهى عن الكتابة(1).كحديث:(( لا تكتبوا عني،ومن كتب عني غير القرآن فليمحه))(2).
أما ضبط الكتاب:فهو صون كتابه عن تطرق الخلل والتزوير والتغيير إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي منه(3) ،مع مقابلته بأصل موثوق به كنسخة شيخه ،وأن لا يعيره إلا لمن أمن أنه لا يغير أو يبدل فيه شيئاً(4) ،فإن لم يقابل كتابه ،أو تهاون في المحافظة عليه ،وروى من نسخ مستعارة أومشتراة ،فقد عرض نفسه للطعن وعُدَّ في طبقات المجروحين(5) .
قلت: كان المحدثون مع سعة حفظهم ،وشدة تحريهم وتثبتهم يكتبون ،فالحفظ خوّان ،والإنسان عُرْضَةٌ للخطأ والوهم ،لا سيما مع بعد عهد النبوة ،وطول الأسانيد وتعددها ،وكثرة متون الأحاديث وما يتبعها ،كان لا بد أن يعمد المتأخرون إلى الكتابة ،حفظاً للحديث ،وصيانة للسنة أن يُدَسّ فيها ما هو دخيل عليها .
قيل ليحيى بن معين:أيهما أحب إليك ثبت حفظ أوثبت كتاب؟ قال:ثبت كتاب(6) .
وقال علي بن المديني(7): ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب،ولنا فيه أسوة(8) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- دراسات في منهج النقد(د.محمد علي العمري،دار النفائس الأردن،ط1/2000)،(ص:314).
(2)- أخرجه مسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري،باب:التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم،رقم(3004)،(4/2289).والنهي عن الكتابة،إنما كان لمن يوثق بحفظه،أو خشية الاختلاط بالقرآن .
(3)- فتح المغيث (1/289) .
(4)- انظر:علوم الحديث لابن الصلاح(ص:210) .
(5)- انظر:المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل(أبو عبدالله الحاكم النيسابوري،تح:معتز الخطيب،دار الفيحاء دمشق،ط1/2001)،(ص:109ـ110) . علوم الحديث(ص:209) .
(6)- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2/38) .
(7)- علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح السعدي،مولاهم،بصري ثقة ثبت إمام،أعلم أهل عصره بالحديث وعلله،قال البخاري:ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني،من العاشرة،مات سنة أربع وثلاثين على الصحيح.خ ت س فق . التقريب(ص:403) .
(8)- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع(2/12) .
قال الإمام أحمد(1) : حدثنا قوم من حفظهم ،وقوم من كتبهم ،فكان الذين حدّثونا من كتبهم أتقن(2) .
قلت:من الحفاظ من كان يجمع بين ضبطي الصدر والكتاب ،فإذا أتقن حفظ المكتوب،بيّض ما كتب .أي:محاه بعد أن جعله في خزانة صدره .
يقول الخطيب البغدادي(3):((وكان غير واحد من السلف يستعين على حفظ الحديث بأن يكتبه ويدرسه من كتابه،فإذا أتقنه محا الكتاب خوفاً من أن يتكل القلب عليه ،فيؤدي ذلك إلى نقصان الحفظ ،وترك العناية بالمحفوظ))(4) .
والنوع الأول من الضبط يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ؛لتعلقه بالمواهب والكفاءات الشخصية ،والظروف والأحوال ،أما النوع الثاني فلا يتصور فيه تفاوت ولا اختلاف ،وشروط ضبط الكتاب(5) التي اشترطها المحدثون كافية في منع التفاوت ،ومن هنا كان ضبط الكتاب أتقن _كما أسلفنا_ عن الإمام أحمد رحمه الله .
ـــــــــــــــــــــ
(1)- أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني،أبو عبدالله،الإمام الفقيه الحافظ الحجة،ولد في بغداد ثم طاف البلاد،روى عنه كبار الأئمة،صنف المسند وغيره،توفي سنة(241هـ).ع.التقريب(ص:84).
(2)- تقييد العلم(الخطيب البغدادي،تح:يوسف العش،دار إحياء السنة النبوية،ط2/1974)(ص:115) (3)- أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الحافظ الكبير،الإمام،محدث الشام والعراق،صاحب التصانيف،رحل إلى الأقاليم وبرع وصنف وجمع،وتقدم في عامة فنون الحديث.قال ابن ماكولا:كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظاً وإتقاناً وضبطاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتفنناً في علله وأسانيده.....من مصنفاته: التاريخ،والجامع،والكفاية وغيرها كثير،مات سنة(463هـ).
انظر:تذكرة الحفاظ(محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي،دار إحياء التراث العربي بيروت)،(3/1135ـ1145) .وسير أعلام النبلاء(أبو عبدالله الذهبي،تح:شعيب الأرناؤوط،ونعيم العرقوسي،مؤسسة الرسالة بيروت،ط9/1413هـ)،(17/270) .
(4)- تقييد العلم (ص:58). وقد ذكر الخطيب عدداً من الحفاظ الذين كانوا يفعلون ذلك:كمسروق بن الأجدع،وابن شهاب الزهري،وخالد الحذاء،وغيرهم .
(5)- انظر هذه الشروط في علوم الحديث في النوع :الخامس والعشرون (كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده)،(ص: 181وما بعدها) .
يقول الشيخ ملاّ علي القاري(1):((وأما ضبط الكتاب فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه نقصان،ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره،وإن كان يختلف ضبط الكتاب باختلاف الكُتَّاب))(2) .