تذكير ذوى الفهوم بأقسام الرأى المذموم
الحمد لله الواقى من اتَّقاه مرج الأهواء وهرجها . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً كامنةً في القلبِ واللسانُ ينطق بها والجوارحُ تعمل على منهاجها . آمنةً من اختلال الأذهان وغلبة الأهواء واعوجاجِها . ضامنةً لمن يموتُ عليها حسنَ لقاءِ الأرواح عند عروجِها . وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام التقوى وضياء سراجها . والسراج المنير الفارق بين ضياء الدين وظلمات الشرك واعوجاجها . والآخذ بحجز مصدقيه عن التهافت فى النار وولوجِها . صلى الله عليه أزكى صلاته ما دامت الشمس تجرى لمستقرٍ لها فى أبراجها .
***
فإنَّ أصدقَ وصفٍ لمن (( يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ )) ، ويقدح فى الحق ويَتَّبِع ما تتلو عليه الشياطين ، ما رواه الإمام مسلم فى مقدمة (( صحيحه )) قال : حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَرَاحِيلَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ ، وَلا آبَاؤُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، لا يُضِلُّونَكُمْ ، وَلا يَفْتِنُونَكُمْ )) .
وقد ربى زمانُنا على سائر الأزمان ، فقد كثُر دعاةُ الفتن ورؤوسُ الضلال ؛ وهم دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، قد أجلبوا على أهل الإيمان بكُلِّ قَوْلٍ مُبْتَدَعٍ ، وَرَأْيٍ مُخْتَرَعٍ ، وَهَوىً مُتَّبَعٍ ، أَقْوَالُهُمْ رَدِيئَةٌ فَظِيعَةٌ ، وَمَذَاهِبُهم سَيِّئَةٌ شَنِيعةٌ ، وأصولهم مُبْتَدَعَةٌ وَضِيعَةٌ ، تُخْرِجُ أَهْلَهَا عَنْ اَلدِّينِ ، وَمَنِ اِعْتَقَدَهَا عَنْ جُمْلَةِ اَلْمُؤْمِنِـينَ ، فحقيقتهم كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة العكبرى : (( يَقُولُونَ عَلَى اَللهِ مَا لا يَعْلَمُونَ ، وَيَعِيبُونَ أَهْلَ اَلْحَقِّ فِيمَا يَأْتُونَ ، وَيَتَّهِمُونَ اَلثِّقَاتِ فِي اَلنَّقْلِ ، وَلا يَتَّهِمُونَ آرَاءَهُمْ فِي اَلتَّأْوِيلِ ، قَدْ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ اَلْبِدَعِ ، وَأَقَامُوا سُوقَ اَلْفِتْنَةِ ، وَفَتَحُوا بَابَ اَلْبَلِيَّةِ ، يَفْتَرُونَ عَلَى اَللهِ اَلْبُهْتَانَ ، وَيَتَقَوَّلُونَ فِي كِتَابِهِ بِالْكَذِبِ وَالْعُدْوَانِ ، إِخْوَانُ اَلشَّيَاطِينِ ، وَأَعْدَاءُ اَلْمُؤْمِنِينَ ، وَكَهْفُ اَلْبَاغِينَ ، وَمَلْجَأُ اَلْحَاسِدِينَ .
لَهُمْ كُتُبٌ قَدْ اِنْتَشَرَتْ ، وَمَقَالاتٌ قَدْ ظَهَرَتْ ، لا يَعْرِفُهَا اَلْغُرُّ مِنْ اَلنَّاسِ ، وَلا النَّشْءُ مِنْ اَلأَحْدَاثِ ، تَخْفَى مَعَانِيهَا عَلَى أَكْثَرِ مَنْ يَقْرَؤُهَا ، فَلَعَلَّ اَلْحَدَثَ يَقَعُ إِلَيْهِ اَلْكِتَابُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ اَلْمَقَالاتِ ، قَدْ اِبْتَدَأَ اَلْكِتَابَ بِحَمْدِ اَللهِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَالإطْنَابِ فِي اَلصَّلاةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِدَقِيقِ كُفْرِهِ ، وَخَفِيِّ اِخْتِرَاعِهِ وَشَرِّهِ ، فَيَظُنُّ اَلْحَدَثُ اَلَّذِي لا عِلْمَ لَهُ ، وَالأَعْجَمِيُّ وَالْغُمْرُ مِنْ اَلنَّاسِ ، أَنَّ اَلْوَاضِعَ لِذَلِكَ اَلْكِتَابِ ؛ عَالِمٌ مِنْ اَلْعُلَمَاءِ ، أَوْ فَقِيهٌ مِنْ اَلْفُقَهَاءِ ، وَلَعَلَّهُ يَعْتَقِدُ فِي هَذِهِ اَلأُمَّةِ مَا يَرَاهُ فِيهَا عَبْدَةُ اَلأَوْثَانِ ، وَمَنْ بَارَزَ اَللهَ ، وَوَالَى اَلشَّيْطَانَ )) اهـ .
فهؤلاء أضرُّ على أهل الإسلام والإيمان من الكفار والمشركين ، وهم أصل كل بلاءٍ ووَصَبٍ يصيب المسلمين والمؤمنين ، ولا تخفى حقائقهم على العلماء المتفرسين ، فقد أبانوا أوصافهم ، وفضحوا خفاياهم وأسرارهم ، وزيفوا أديانهم ونحلهم وآرائهم ، وحذَّروا من الوقوع فى حبائلِهم ، وكشفوا ما أضمروا من مكرهم ودفائنهم وخبائثِهم ، وأيقنوا أن ذلك من أفضل الجهاد فى نصرة الدين والرسول ، ألم يقل الله تعالى (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ))(9: سورة التحريم) ، وقال جلَّ ثناؤه فى ذمهم (( وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ))(30: سورة محمد) .
وإن شئت أن تعلم المزيد عن أصول الآراء الباطلة ، وما ذُمَّ منها على لسان أهل البصائر والعرفان ، فاعلم أن الرأى المذموم بنص السنَّة والقرآن ، والمخالف للكتاب والسنة والإجماع ، على خمسة أنواع :
[ النوع الأول ] الكلام في الدين بالأوهام والظنون ، مع عدم الإحاطة بنصوص الكتاب والسنن ، فضلاً عن قلة فهمها ، والجهل باستنباط الأحكام منها . فإنَّ من جهل الحكم ، فتكلَّم برأيه من غير أثارةٍ من علم ، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل المحرَّم ، فيقال لمن هذه حاله (( اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ))(4: سورة الأحقاف) . وقد قال تباركت أسماؤه محذراً من اتِّباعِ من هذا حاله (( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ )) (116: سورة الأنعام) ، وقال جلَّ ذكره (( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ))(36: سورة يونس) ، وقال تعالى شأنه (( وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ))(66: سورة يونس) ، وقال تعالى (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))(33: سورة الأعراف) ، وقال تعالى (( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ))(116: سورة النحل) .
وقال جلَّ ثناؤه عن المقلِّدة من المشركين (( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ))(28: سورة الأعراف) ، وقال عن أخوانهم الدهريين المنكرين للبعث (( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ ))(24: سورة الجاثية) .
[ النوع الثانى ] الراى المخالف لهدى الأنبياء والمرسلين ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وسائر الملل فسادُه وبطلانُه ، ولا تحلُّ الفتيا به ، ولا القضاءُ بموجبه ، وهذا على قسمين : أحدهما ما كان بنوع تأويلٍ ، وثانيهما التقليد بلا برهانٍ ولا دليل .
فأما الأول ، فقد قال أبو داود فى (( سننه ))(4611) : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ الْهَمْدَانِيُّ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ قَالَ : كَانَ لا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ حِينَ يَجْلِسُ إِلا قَالَ : اللهُ حَكَمٌ قِسْطٌ ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَوْمًا : إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا ، يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ ، حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ : مَا لِلنَّاسِ لا يَتَّبِعُونِي ، وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ ، مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلالَةٌ ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ .
والثانى ، كما فى قوله تعالى (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ))(170: سورة البقرة) ، وقال جلَّ ذِكْرُه (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ))(104: سورة المائدة) ، وقال تعالى عن رؤوس المقلِّدة وقدمائهم (( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ))(22-24: سورة الزخرف) ، وقال عن المقلِّدة من قدماء الصابئة (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ . قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ . قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ . أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُـرُّونَ . قَالُوا بَلْ وَجَـدْنَا آبَاءنَـا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ))(74: سورة الشعراء) .
[ النوع الثالث ] ذكره العلامة ذو الفنون الماتعة ابن القيم فقال : (( وهو الرأي المتضمنُ تعطيلَ أسماءِ الربِّ وصفاتِه وأفعالِه بالمقاييس الباطلة ، التي وضعها أهل البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم ، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة ، وآراءهم الباطلة ، وشبههم الداحضة في رد النصوص الصحيحة الصريحة ، فردوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم ، ومعاني النصوص التي لم يجدوا إلى رد ألفاظها سبيلاً ، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب ، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل ، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده ، وأنكروا مباينته للعالم واستواءه على عرش وعلوه على المخلوقات ، وعموم قدرته على كل شيء ، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن الإنس عن تعلق قدرته ومشيئته وتكوينه لها ، ونفوا لأجلها حقائق ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله ، وحرَّفوا لأجلها النصوص عن مواضعها ، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرد ، الذي حقيقته أنه ذبالة الأذهان ، ونخالة الأفكار ، وعفارة الآراء ، ووساوس الصدور ، فملأوا به الأوراق سواداً ، والقلوب شكوكاً ، والعالم فساداً ، وكل من له مِسكةٌ من عقلٍ يعلم أن : فساد العالم وخرابه إنما نشـأ من تقديم الرأي على الوحي ، والهوى على العقل ، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب ، إلا استحكم هلاكه وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد . فلا إله إلا الله ، كم نفي بهذه الآراء من حقٍّ ، وأثبت بها من باطل ، وأميت بها من هدىً ، وأحي بها من ضلالةٍ ، وكم هدم بها من معقل للإيمان ، وعمر بها من دين الشيطان ، وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء ، الذين لا سمع لهم ولا عقل ، بل هم شر من الحمر ، وهم الذين يقولون يوم القيامة (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ))(10: سورة الملك) اهـ .
[ النوع الرابع ] الرأي الذي أحدثت به البدع ، و غُيِّرَتْ به السنن ، وعمَّ به البلاء ، وتربى عليه الصغير ، وهرم فيه الكبير .
قال الإمام الدارمى فى (( سننه ))(187) : أَخْبَرَنَا يَعْلَى ثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود : كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ، وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً ، فَإِذَا غُيِّرَتْ ، قَالُوا غُيِّرَتِ السُّنَّةُ ، قَالُوا : وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ ، قَالَ : إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ .
وقال الإمام أحمد (4/126) : حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْروٍ السُّلَمِيِّ عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَـارِيَةَ قَالَ : صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُـنُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا أَوْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَأَوْصِنَا ، قَالَ : (( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلافاً كَثِيراً ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ )) .
وقال الإمام البخارى فى (( الاعتصام بالكتاب والسنة ))(7277) : حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ ثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللهِ : إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَ (( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ )) .
[ النوع الخامس ] الرأى فى المسائل المسكوت عنها ، والتى لم تنزل ، ولم تقدَّر ، والتى ورد النهى عنها فى قوله جلَّ ذكره (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ . قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ))(101-102: سورة المائدة) .
وقال الإمام البخارى فى (( الاعتصام بالكتاب والسنة ))(7289) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ ثَنَا سَعِيدٌ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ )) .
قال علامة الأندلس أبو عمر بن عبد البر النمرى : (( وهو من القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان ، والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات ، والأغلوطات ، ورد الفروع بعضها على بعض قياسا ، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل ، وفرعت وشققت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن . قال أكثر أهل العلم : وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن ، والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه )) .
وذكر من طريق أبي داود : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ ثَنَا عِيسَى عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الأغُلُوطَاتِ ، وفسره الأوزاعي : يعني صعاب المسائل .
وقال أبو عمر : واحتجوا أيضا بحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا ، وبحديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ . وقال الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة : وَدِدْتُ أَنَّ حَظِّي مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لا أَسْأَلَهُمْ عَنْ شَيءٍ ، وَلا يَسْأَلُونِي يَتَكَاثَرُونَ بِالمَسَائِلِ ، كَمَا يَتَكَاثَرُ أَهْلُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ .
وروى ابن وهب قال حدَّثَنِى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فاجتنبوه )) . وقال سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ : أُحَرِّجُ بِاللهِ عَلَى رَجُلٍ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ بَيَّنَ مَا هُوَ كَائِنٌ .
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى .
****** هامـش ******
*** مقتبس من تحقيقى لكتاب الإمام الحجة ابن بطة العكبرى (( الشرح والإبانة لأصول السنة والديانة ))
وكتبه
أبو محمد الألفى السكندرى
الإسكندرية صباح يوم الثلاثاء 28 شعبان سنة 1425 هـ .
نقلاً عن
لطفـــــــاً .. من هنــــــــــــــــــــا
[/size][/b]