[size=24]التحذير من الغلوّ في الدين / للشيخ صالح حفظه الله
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد
:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، أعوذ بالله أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه المحاضرة بعنوان:التحذير من الغلو في الدين
ومن المعلوم أن الله جل جلاله رحيم بعباده عظيم الرحمة رؤوف بهم، كبير الرأفة عظيمُها، ولهذا جعل هذا الدين يسرى، وما أنزل القرآن ليشقى به العباد، قال جل وعلا ?طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى?[طه:1-2]
قال المفسرون: قوله ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى? يعني لم يكن إنزال القرآن لعلة أن يشقيك ذلك؛ بل لعلة أن يسعدك؛ لأن القرآن يسر ولأن يدعو لليسرى، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى?[الأعلى:8]
قال المفسرون أيضا: يعني نيسرك للطريق والسنة التي هي أيسر وأحب وأبعد عن التكليف، ولهذا يعني التكليف بما لا يطاق، ولهذا قال الله جل وعلا في خواتيم سورة البقرة ?رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ?[البقرة:286]، ولما دعا المؤمنون بهذا قال الله جل وعلا: «قد فعلت». كما رواه مسلم في الصحيح،
فهذا الدين مبني على التيسير كما ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إنّ هذا الدين يُسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه» وهذا يعني أن الدين الذي أنزله الله جل وعلا ورضيه لعباده وقام به المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا وعملا وظهرت سنته فيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنّ هذا الدين الذي كان عليه المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسر وسعادة وراحة وطمأنينة، ولن يشادّه أحد إلا غَلبه.
وهذا من بشائر الخير ومما يجلب غير المسلم للدخول في الدين؛ لأن الديانات فيما قبل بنيت على كثير من التكاليف، ودين الإسلام ولله الحمد والمنة والفضل والرحمة جاء يسيرا وميسرا سهلا، وقد جاء في الحديث «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبث لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» من حديث جابر بن عبد الله وهو حسن بمجموع طرقه.
وإذا تبين هذا وأن ديننا بُني على اليسر وبُني على السماحة يعني السماحة التي كان عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبين لنا كيف جعل الله جل وعلا هذه الأمة عدلا خيارا،
جعلها عدلا في شهادتها على الأقوال
وجعلها خيارا، يعني أنها أحسن الأمم
كما قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?[البقرة:143]،
وجعل الله هذه الأمة أمة وسطا ومعنى كونها وسطا أي أنها عدل خيار؛ لأن الوسط هو العدل وهو الخيار المصطفى؛ لأن العرب كانت تمتدح الشيء بكونه واسطة الشيء وبكونه وسطه؛ لأنه أحسنه وأفضله، فجعل الله هذه الأمة أمة وسطا لم؟ ?لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?
وقد جاء في صحيح أبي عبد الله عند تفسير هذه الآية أن الناس يوم القيامة يأتون فيقيم الله جل وعلا الحجة، فيأتي إلى قوم نوح فيقول لهم: قد جاءتكم الحجة وجاءكم النذير. فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول الله جل وعلا: عليكم شهود هذه أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. فتأتي الأمة فتقول: نعم قد جاءهم نوح بالبينات. أو كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وهذا فيه بيان أن هذه الأمة بعلمائها وفقهائها ومن عَقِلَ الدين عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها شاهدة على الناس، ولا يزال في هذه الأمة طائفة ظاهرة بالحق كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم: ظهور هذه الطائفة:
* إما أن يكون ظهورا بالسيف والسنان.
* وإما أن يكون ظهورا بالحجة البيان.
فلابد أن يكون في هذه الأمة طائفة ظاهرة بالحق إما أن يكون ظهورها على غيرها من الأمم بالسنان وأنها تكون هي القوية وهي الغالبة المنتصرة، وإما أن يكون ظهورها بما هو أعظم بالحجة والبيان؛ لأن ظهور السيف والسنان كان بعد ظهور الحجة والبيان، ألم تر العهد المدني بعد العهد المكي.
إذا تبين ذلك فإن مُقتضى كونه هذه الأمة وسطا أن يكون هناك طرفان طرف يجفو طرف يفرط وطرف آخر يغلو ويسرف.
فلهذا كانت الأقسام أقسام الناس ثلاثة:
وسط وهم الخيار الذين اتبعوا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأهل العلم الراسخين.
وطرف يجفو وهم أهل الجفاء يعني الذين فرّطوا في أوامر الله، فلم يتبعوا أمكر الله وارتكبوا منهياته، ولم يرفعوا رأسا في كل أوامره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وما جاء في القرآن العظيم.
والطرف الآخر هو الذي يغلو وهم الذين غلوا؛ تجاوزا الحد، لأن معنى الغلو مجاوزة الحد في تحقيق الشيء، أو فيما يوصل إليه.
فغلا بمعنى جاوز الحد، تقول مثلا غلا السعر يعني جاوز المعقول وجاوز المعروف، غلا هذا في أمره يعني جاوز الحد الذي أُذن له به، فهؤلاء غلو في الدين يعني جازوا الحد الذي أذن لهم به، فلم يكونوا مع الأمة الوسط العدل الخيار، وإنما زادوا عليهم رغبة في التعبد ورغبة في رضى الله جل وعلا؛ لكن ليس كل من أراد رضى الله جل وعلا يحصل عليه حتى يأتي بالبرهان وهو اتباع المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قليل الأمر وكثيره من جهة تحكيمه على الهوى، وعلى ما تريده النفس قال جل وعلا ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31].
بهذا جاء في القرآن النهي عن الغلو والنهي عن الطغيان فقال جل وعلا مخاطبا أهل الكتاب ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ?[النساء:171] الآية في آخر سورة النساء.
وقال جل وعلا أيضا في سورة المائدة ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ?[المائدة:77]، وقال جل وعلا ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[هود:112] والآيات في هذا المعنى متعددة.
فدلت الآيات على أن الطغيان ومجاوزة الحد والغلو منهي عنه قال جل وعلا لأهل الكتاب ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ?، ومعلوم أن القاعدة المقررة أن النهي لأهل الكتاب في هذا نهي لنا؛ لأن الغلو في الدين أمر مذموم لكل من اتبع رسالة من رسالات أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه.
فدلنا قوله جل وعلا ?لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ? على أنّ الغلو في الدين محرم؛ لأن النهي للتحريم، بل هو من أشدّ المحرمات لأنه يبعث على ارتكاب كثير من المحرمات وهو وسيلة لآثار ومحرمات كثيرة قال جل وعلا ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ? بما غَلاَ أهل الكتاب في دينهم؟ جعلوا عيسى عليه السلام ابنا لله، جعلوا له بعض خصائص الألوهية، كما جاء في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله» يعني لا تجاوزا الحد في مدح كما تجاوز النصارى الحد في مدح عيسى، فبلغ بهم الحد أن عبدوه وألهوه، ولكن قولوا عبد الله ورسله وما أعظمها من مكانة أن يكون رسوا لله جل جلاله.
إذا تبين ذلك فإن هذه الأمة نُهيت عن الغلو وخاف عليها المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون فيهم الغلاة، فلما كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في حجة الوداع أمر من يلقط له الحصى وقال «بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو فإنما أهلكم من كان قبلكم الغلو» حديث صحيح قال (بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو) حتى في حجم الحصاة الجمار الذي يرمى بها قال (إياكم والغلو) يعني لا تضنن أن الخير والتعبد والقربة من الله وكثرة الحسنات يكون في تكبير الحصاة، فإنما بمثل هذه فارمِ وإياك أن تغلو في دين الله لهذا خاف النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على الأمة الغلو والسبب قوله (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
فالغلو سبب من أسباب الافتراق، وسبب من أسباب ضرب الأمة بعضها رقاب بعض، وسبب من أسباب الافتراق الوخيم.
ومن القواعد المقرة ما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الجماعة رحمة والفرقة عذاب، لهذا كان أوائل الغلو في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فكان رجل مرة بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقسم بعض المال فقال له ذاك الرجل: يا رسول الله اعدل يا رسول الله اعدل. يعني في قسم المال قال «ويحك من يعدل إذا لم أعدل يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» يعني أن الغلو كان عند هذا الرجل، وكذا من آثار غلوه أنه سيتّبعه أقوام على غلوه، قال (يخرج من ضئضئ هذا أقوام) يعني جماعة يتبعونه فيما يقول أو فيما يفهم قال (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) الحديث.
كذلك حكاية الثلاثة من الصحابة الذين أرادوا التعبد، فسألوا عن عبادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروا بها أنه كان يتزوج النساء، وأنه كان يقوم بعض الليل وينام بعضه، وأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يأكل اللحم، فقالوا: أين نحن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
قال الراوي: فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها يعني قالوا: نحن ما خلقنا إلا لعبادة الله، هذه عبادة قليلة. فقال أحدهم: أنا لا أتجوز النساء.
وقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر.
وقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام.
فلما أُخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم غضب عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «أنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، وإني أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه، هذا من جهة العبادات.
بعد وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حصلت في الأمة أنواع من الاضطرابات والخلافات خاصة في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه ثم في عهد علي رضي الله عنه حتى بدأت فتنة الخوارج، وكان سبب بدايتها مسألة التحكيم حيث دعا علي رضي الله عنه ومعاوية جميعا أن يختار من يحكم في القضية من ذوي العلم والفهم، فدعا إلى التحكيم، فانفصلت فرقة من جيش علي وسموا بالخوارج قالوا: كيف يحكم الرجال في دين الله، لِم لا يحكم القرآن والله جل وعلا يقول ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ?[المائدة:44]، فخرجوا على علي رضي الله عنه وكفروه وكفروا الصحابة معه لأجل مسألة التحكيم، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وجادلتهم بالتي هي أحسن حتى رجع معه ثلث الجيش، في قصة معروفة.
فكان أول غلو في التكفير في الأمة غلو الخوارج، وقد وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخوارج بقوله «قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله جل وعلا».
فحصل غلو الخوارج في التكفير، كفروا الصحابة، لم؟ قال لأنهم لم يحكموا القرآن وحكموا الرجال، والله جل وعلا يقول ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ?(1) فلا حكم إلا الله جل وعلا.
فهذا مبدأ الغلو وكان من أسباب ظهوره اختلاف الوضع وحصول القتال بين علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
بعد ذلك حصل أيضا غلو آخر، وهذا الغلو جاء في إثبات الصفات، نظر قوم في صفات الله جل وعلا وقالوا القرآن فيه إثبات الصفات والسنة كذلك، فجاوزوا الحد في إثباتها حتى جعلوا صفات الرحمن جل وعلا دالة على التجسيم، فقالوا: إن الله جل وعلا جسم، وله وجه كوجه الإنسان، وله عينان كعيني الإنسان إلى آخره.
فغلو في الإثبات والإثبات مشروع، فزادوا فيه حتى جعلوا الإثبات تجسيما، والإثبات الحق الذي جاء في الكتاب والسنة على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] إثبات بلا تجسيم وتنزيه للمولى جل وعلا عن النقص بلا تعطيل.
قابلهم فرقة أخرى غلت في ذلك فجعلت تنزيه الله جل وعلا شرط، وقالوا لا يصلح أن ننزه إلا بأن ننفي عنه الصفات، كما قاله الجهمية والمعتزلة، فغلوا في التنزيه مقابلة ببدعة المجسمة وغلوهم، فغلوا حتى قالوا إنه لا صفة للرحمن إلا صفة الوجود أو إلا ثلاث صفات إلى آخر ما هنالك.
فكان سبب غلوهم أنهم أرادوا تطبيق القرآن في أنه ينزه الله جل وعما لا يليق بجلاله وعظمته، فغلوا في إثبات ليس كمثله شيء، فجعلوا ذلك دليلا على أنه جل وعلا له صفة تعال الله عن قولهم علوا كبيرا.
أيضا نظرت طائفة في القدر فوجدوا أن القرآن أن القرآن فيه إثبات القدر فذهبوا إلى الجبر وأنّ الإنسان ليس بمخير أصلا وإنما هو كالريشة في مهب الريح؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يخلق الأفعال وهو الذي يقدر الأشياء ومعنى القدر أنه سابق ومعنى أنه سابق -وهذا بحسب قولهم- أن الإنسان مجبور عليه.
والله جل وعلا قدر الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ ليظهر علمه في خليقته وأنه جل وعلا بكل شيء عليم، وأما الإنسان فهو مخير فيما هو مناط في التكليف، وهذا أمر معروف.
فغلو في إثبات القدر حتى جعلوا الإنسان مجبورا لا اختيار له .
أتى طائفة أيضا فأتوا بالغلو في التعبدات، قالوا: لا نصل إلى صفاء القلب وإلى تزكية القلب حتى ننقطع عن الناس بالكلية فخرجوا عن المدن وسكنوا بعض الأديرة وبعض الكهوف واعتزلوا، حتى ظهر بعض فترة لهم طريقة جديدة وهم الذين سُمّوا الصوفية أو ما أشبه ذلك لأجل اختلاطهم بالنصارى، غلوا في طلب التعبد فأتوا بتعبدات جديدة أتوا بألبسة جديدة ليس عليها هدى المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا هدي صحابته، وهم يريدون رفعة الدرجات عند الله جل وعلا، غلو في الانقطاع عن الناس، والرغبة في الخلوة في التعبد بالله جل وعلا، وتسخير القلب لأن يجتمع على ذكر الله وعلى التفكر في ملكوته فتركوا السنة في ذلك وخرجوا عمل أذن به فبلغ الغلو بهم أن أحدثوا طريقة جديدة في العبادات وفي الأذكار وأنواع التعبدات، فصاروا أهل فرق وأهل ضلالات كثيرة توسعت مع الزمن.
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد
:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، أعوذ بالله أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه المحاضرة بعنوان:التحذير من الغلو في الدين
ومن المعلوم أن الله جل جلاله رحيم بعباده عظيم الرحمة رؤوف بهم، كبير الرأفة عظيمُها، ولهذا جعل هذا الدين يسرى، وما أنزل القرآن ليشقى به العباد، قال جل وعلا ?طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى?[طه:1-2]
قال المفسرون: قوله ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى? يعني لم يكن إنزال القرآن لعلة أن يشقيك ذلك؛ بل لعلة أن يسعدك؛ لأن القرآن يسر ولأن يدعو لليسرى، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى?[الأعلى:8]
قال المفسرون أيضا: يعني نيسرك للطريق والسنة التي هي أيسر وأحب وأبعد عن التكليف، ولهذا يعني التكليف بما لا يطاق، ولهذا قال الله جل وعلا في خواتيم سورة البقرة ?رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ?[البقرة:286]، ولما دعا المؤمنون بهذا قال الله جل وعلا: «قد فعلت». كما رواه مسلم في الصحيح،
فهذا الدين مبني على التيسير كما ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إنّ هذا الدين يُسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه» وهذا يعني أن الدين الذي أنزله الله جل وعلا ورضيه لعباده وقام به المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا وعملا وظهرت سنته فيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنّ هذا الدين الذي كان عليه المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسر وسعادة وراحة وطمأنينة، ولن يشادّه أحد إلا غَلبه.
وهذا من بشائر الخير ومما يجلب غير المسلم للدخول في الدين؛ لأن الديانات فيما قبل بنيت على كثير من التكاليف، ودين الإسلام ولله الحمد والمنة والفضل والرحمة جاء يسيرا وميسرا سهلا، وقد جاء في الحديث «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبث لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» من حديث جابر بن عبد الله وهو حسن بمجموع طرقه.
وإذا تبين هذا وأن ديننا بُني على اليسر وبُني على السماحة يعني السماحة التي كان عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبين لنا كيف جعل الله جل وعلا هذه الأمة عدلا خيارا،
جعلها عدلا في شهادتها على الأقوال
وجعلها خيارا، يعني أنها أحسن الأمم
كما قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?[البقرة:143]،
وجعل الله هذه الأمة أمة وسطا ومعنى كونها وسطا أي أنها عدل خيار؛ لأن الوسط هو العدل وهو الخيار المصطفى؛ لأن العرب كانت تمتدح الشيء بكونه واسطة الشيء وبكونه وسطه؛ لأنه أحسنه وأفضله، فجعل الله هذه الأمة أمة وسطا لم؟ ?لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا?
وقد جاء في صحيح أبي عبد الله عند تفسير هذه الآية أن الناس يوم القيامة يأتون فيقيم الله جل وعلا الحجة، فيأتي إلى قوم نوح فيقول لهم: قد جاءتكم الحجة وجاءكم النذير. فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول الله جل وعلا: عليكم شهود هذه أمة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. فتأتي الأمة فتقول: نعم قد جاءهم نوح بالبينات. أو كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وهذا فيه بيان أن هذه الأمة بعلمائها وفقهائها ومن عَقِلَ الدين عن المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها شاهدة على الناس، ولا يزال في هذه الأمة طائفة ظاهرة بالحق كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم: ظهور هذه الطائفة:
* إما أن يكون ظهورا بالسيف والسنان.
* وإما أن يكون ظهورا بالحجة البيان.
فلابد أن يكون في هذه الأمة طائفة ظاهرة بالحق إما أن يكون ظهورها على غيرها من الأمم بالسنان وأنها تكون هي القوية وهي الغالبة المنتصرة، وإما أن يكون ظهورها بما هو أعظم بالحجة والبيان؛ لأن ظهور السيف والسنان كان بعد ظهور الحجة والبيان، ألم تر العهد المدني بعد العهد المكي.
إذا تبين ذلك فإن مُقتضى كونه هذه الأمة وسطا أن يكون هناك طرفان طرف يجفو طرف يفرط وطرف آخر يغلو ويسرف.
فلهذا كانت الأقسام أقسام الناس ثلاثة:
وسط وهم الخيار الذين اتبعوا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأهل العلم الراسخين.
وطرف يجفو وهم أهل الجفاء يعني الذين فرّطوا في أوامر الله، فلم يتبعوا أمكر الله وارتكبوا منهياته، ولم يرفعوا رأسا في كل أوامره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وما جاء في القرآن العظيم.
والطرف الآخر هو الذي يغلو وهم الذين غلوا؛ تجاوزا الحد، لأن معنى الغلو مجاوزة الحد في تحقيق الشيء، أو فيما يوصل إليه.
فغلا بمعنى جاوز الحد، تقول مثلا غلا السعر يعني جاوز المعقول وجاوز المعروف، غلا هذا في أمره يعني جاوز الحد الذي أُذن له به، فهؤلاء غلو في الدين يعني جازوا الحد الذي أذن لهم به، فلم يكونوا مع الأمة الوسط العدل الخيار، وإنما زادوا عليهم رغبة في التعبد ورغبة في رضى الله جل وعلا؛ لكن ليس كل من أراد رضى الله جل وعلا يحصل عليه حتى يأتي بالبرهان وهو اتباع المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قليل الأمر وكثيره من جهة تحكيمه على الهوى، وعلى ما تريده النفس قال جل وعلا ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31].
بهذا جاء في القرآن النهي عن الغلو والنهي عن الطغيان فقال جل وعلا مخاطبا أهل الكتاب ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ?[النساء:171] الآية في آخر سورة النساء.
وقال جل وعلا أيضا في سورة المائدة ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ?[المائدة:77]، وقال جل وعلا ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[هود:112] والآيات في هذا المعنى متعددة.
فدلت الآيات على أن الطغيان ومجاوزة الحد والغلو منهي عنه قال جل وعلا لأهل الكتاب ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ?، ومعلوم أن القاعدة المقررة أن النهي لأهل الكتاب في هذا نهي لنا؛ لأن الغلو في الدين أمر مذموم لكل من اتبع رسالة من رسالات أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه.
فدلنا قوله جل وعلا ?لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ? على أنّ الغلو في الدين محرم؛ لأن النهي للتحريم، بل هو من أشدّ المحرمات لأنه يبعث على ارتكاب كثير من المحرمات وهو وسيلة لآثار ومحرمات كثيرة قال جل وعلا ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ? بما غَلاَ أهل الكتاب في دينهم؟ جعلوا عيسى عليه السلام ابنا لله، جعلوا له بعض خصائص الألوهية، كما جاء في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله» يعني لا تجاوزا الحد في مدح كما تجاوز النصارى الحد في مدح عيسى، فبلغ بهم الحد أن عبدوه وألهوه، ولكن قولوا عبد الله ورسله وما أعظمها من مكانة أن يكون رسوا لله جل جلاله.
إذا تبين ذلك فإن هذه الأمة نُهيت عن الغلو وخاف عليها المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون فيهم الغلاة، فلما كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في حجة الوداع أمر من يلقط له الحصى وقال «بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو فإنما أهلكم من كان قبلكم الغلو» حديث صحيح قال (بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو) حتى في حجم الحصاة الجمار الذي يرمى بها قال (إياكم والغلو) يعني لا تضنن أن الخير والتعبد والقربة من الله وكثرة الحسنات يكون في تكبير الحصاة، فإنما بمثل هذه فارمِ وإياك أن تغلو في دين الله لهذا خاف النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على الأمة الغلو والسبب قوله (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
فالغلو سبب من أسباب الافتراق، وسبب من أسباب ضرب الأمة بعضها رقاب بعض، وسبب من أسباب الافتراق الوخيم.
ومن القواعد المقرة ما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الجماعة رحمة والفرقة عذاب، لهذا كان أوائل الغلو في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فكان رجل مرة بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقسم بعض المال فقال له ذاك الرجل: يا رسول الله اعدل يا رسول الله اعدل. يعني في قسم المال قال «ويحك من يعدل إذا لم أعدل يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» يعني أن الغلو كان عند هذا الرجل، وكذا من آثار غلوه أنه سيتّبعه أقوام على غلوه، قال (يخرج من ضئضئ هذا أقوام) يعني جماعة يتبعونه فيما يقول أو فيما يفهم قال (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) الحديث.
كذلك حكاية الثلاثة من الصحابة الذين أرادوا التعبد، فسألوا عن عبادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروا بها أنه كان يتزوج النساء، وأنه كان يقوم بعض الليل وينام بعضه، وأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يأكل اللحم، فقالوا: أين نحن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
قال الراوي: فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها يعني قالوا: نحن ما خلقنا إلا لعبادة الله، هذه عبادة قليلة. فقال أحدهم: أنا لا أتجوز النساء.
وقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر.
وقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام.
فلما أُخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم غضب عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «أنا أخشاكم لله وأتقاكم لله، وإني أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» متفق عليه، هذا من جهة العبادات.
بعد وفاة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حصلت في الأمة أنواع من الاضطرابات والخلافات خاصة في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه ثم في عهد علي رضي الله عنه حتى بدأت فتنة الخوارج، وكان سبب بدايتها مسألة التحكيم حيث دعا علي رضي الله عنه ومعاوية جميعا أن يختار من يحكم في القضية من ذوي العلم والفهم، فدعا إلى التحكيم، فانفصلت فرقة من جيش علي وسموا بالخوارج قالوا: كيف يحكم الرجال في دين الله، لِم لا يحكم القرآن والله جل وعلا يقول ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ?[المائدة:44]، فخرجوا على علي رضي الله عنه وكفروه وكفروا الصحابة معه لأجل مسألة التحكيم، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وجادلتهم بالتي هي أحسن حتى رجع معه ثلث الجيش، في قصة معروفة.
فكان أول غلو في التكفير في الأمة غلو الخوارج، وقد وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخوارج بقوله «قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله جل وعلا».
فحصل غلو الخوارج في التكفير، كفروا الصحابة، لم؟ قال لأنهم لم يحكموا القرآن وحكموا الرجال، والله جل وعلا يقول ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ?(1) فلا حكم إلا الله جل وعلا.
فهذا مبدأ الغلو وكان من أسباب ظهوره اختلاف الوضع وحصول القتال بين علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
بعد ذلك حصل أيضا غلو آخر، وهذا الغلو جاء في إثبات الصفات، نظر قوم في صفات الله جل وعلا وقالوا القرآن فيه إثبات الصفات والسنة كذلك، فجاوزوا الحد في إثباتها حتى جعلوا صفات الرحمن جل وعلا دالة على التجسيم، فقالوا: إن الله جل وعلا جسم، وله وجه كوجه الإنسان، وله عينان كعيني الإنسان إلى آخره.
فغلو في الإثبات والإثبات مشروع، فزادوا فيه حتى جعلوا الإثبات تجسيما، والإثبات الحق الذي جاء في الكتاب والسنة على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] إثبات بلا تجسيم وتنزيه للمولى جل وعلا عن النقص بلا تعطيل.
قابلهم فرقة أخرى غلت في ذلك فجعلت تنزيه الله جل وعلا شرط، وقالوا لا يصلح أن ننزه إلا بأن ننفي عنه الصفات، كما قاله الجهمية والمعتزلة، فغلوا في التنزيه مقابلة ببدعة المجسمة وغلوهم، فغلوا حتى قالوا إنه لا صفة للرحمن إلا صفة الوجود أو إلا ثلاث صفات إلى آخر ما هنالك.
فكان سبب غلوهم أنهم أرادوا تطبيق القرآن في أنه ينزه الله جل وعما لا يليق بجلاله وعظمته، فغلوا في إثبات ليس كمثله شيء، فجعلوا ذلك دليلا على أنه جل وعلا له صفة تعال الله عن قولهم علوا كبيرا.
أيضا نظرت طائفة في القدر فوجدوا أن القرآن أن القرآن فيه إثبات القدر فذهبوا إلى الجبر وأنّ الإنسان ليس بمخير أصلا وإنما هو كالريشة في مهب الريح؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يخلق الأفعال وهو الذي يقدر الأشياء ومعنى القدر أنه سابق ومعنى أنه سابق -وهذا بحسب قولهم- أن الإنسان مجبور عليه.
والله جل وعلا قدر الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ ليظهر علمه في خليقته وأنه جل وعلا بكل شيء عليم، وأما الإنسان فهو مخير فيما هو مناط في التكليف، وهذا أمر معروف.
فغلو في إثبات القدر حتى جعلوا الإنسان مجبورا لا اختيار له .
أتى طائفة أيضا فأتوا بالغلو في التعبدات، قالوا: لا نصل إلى صفاء القلب وإلى تزكية القلب حتى ننقطع عن الناس بالكلية فخرجوا عن المدن وسكنوا بعض الأديرة وبعض الكهوف واعتزلوا، حتى ظهر بعض فترة لهم طريقة جديدة وهم الذين سُمّوا الصوفية أو ما أشبه ذلك لأجل اختلاطهم بالنصارى، غلوا في طلب التعبد فأتوا بتعبدات جديدة أتوا بألبسة جديدة ليس عليها هدى المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا هدي صحابته، وهم يريدون رفعة الدرجات عند الله جل وعلا، غلو في الانقطاع عن الناس، والرغبة في الخلوة في التعبد بالله جل وعلا، وتسخير القلب لأن يجتمع على ذكر الله وعلى التفكر في ملكوته فتركوا السنة في ذلك وخرجوا عمل أذن به فبلغ الغلو بهم أن أحدثوا طريقة جديدة في العبادات وفي الأذكار وأنواع التعبدات، فصاروا أهل فرق وأهل ضلالات كثيرة توسعت مع الزمن.