هل يحتاج القريب إلى وسيط؟
كتب:
داود عبدالوهاب العسعوسي
لقد صنف العلماء السابقون كتبا كثيرة ونوقشت في العصر الحاضر رسائل علمية عديدة خصصت للحديث عن بلاغة القرآن الكريم وإبراز وجوه إعجازه البياني ذلك الإعجاز الذي اعترف به وسلم له سادات الأدباء وعمالقة البلغاء من الإنس والجن على السواء!
وان الواحد منا والله ليجد متعة كبيرة حين يقرأ تلك المؤلفات ويتأمل فيها لأنه سيقف حقا على درر لغوية وكنوز بلاغية وإعجاز لا حد له يشهد لنا بحق وصدق ان القول ليس بقول بشر ولكنه كلام الرب وتنزيله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
ومن تلك الدرر مثلا انك في احيان كثيرة وانت تقرأ القرآن الكريم تجد ان بعض الآيات تتكلم عن موضوع ما أو تناقش قضية معينة ويكون السياق فيها وتتابع المعاني مترابطا ومتكاملا تماما، ثم تستوقفك آية أو آيتان جاءت في ثنايا تلك الآيات قد يظهر لك من الوهلة الاولى انه لا علاقة واضحة أو ظاهرة بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة لها فتسأل نفسك عن السر في ذلك ووجه الإعجاز فيه؟
في سورة البقرة مثلا تتحدث الآيات من (183) إلى (187) عن عبادة الصيام وتفصيل احكامه، لكننا نجد ان الآية (186) تتحدث عن قرب المولى جل جلاله من عباده حين يتوجهون اليه بالدعاء: (واذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان). فتسأل نفسك: ما علاقة موضوع (الدعاء) بموضوع الصيام واحكامه؟!
تذكر قبل معرفة الجواب على هذا التساؤل ان الله في الآية السابقة لها برقم (185) قد امر الصائمين في ختام شهرهم بتكبيره (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) وتذكر ايضا ان للصائم دعوة لا ترد، وتذكر كذلك فضل ليلة القدر واهمية الدعاء فيها تظهر لك وجه مناسبة مجيء هذه الآية في هذا السياق، انها تذكر الصائم بالدعاء فالوقت وقت اجابة والرب الكبير ليس كملوك الدنيا، يحجزهم كبرياؤهم عمن دونهم، لا بل هو قريب يسمع الدعاء ويجيب عباده فإياكم ان تتوهموا انه بعيد عنكم كعادة المتكبرين من ملوك الارض بل هو مع كبريائه وعلوه قريب منكم. (نظم الدرر للبقاعي (1/347)).
ويقول محمد رشيد رضا في تفسير المنار (2/166): (ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها وإنما هي متصلة بما قبلها من الاحكام، فقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدة الصيام وتكبير الله تعالى وذكر ان ذلك يعدنا لشكره تعالى، والتكبير والشكر يكونان، بالقول نحو: الحمد لله والله اكبر كما يكونان بالعمل وما كان بالقول يأتي فيه السؤال: هل يكون برفع الصوت والمناداة أم بالمخافة والمناجاة؟ فجاءت هذه الآية جوابا عن هذا السؤال الذي يتوقع ان لم يقع، فهي في محلها سواء صح ما رووه في سببها أم لا).
وبعد البحث في اسباب النزول لم اقف على رواية صحيحة معتمدة في ذلك، الا ان المفسرين اجمعوا على معنى واحد في تفسيرها، فقال شيخهم ابن جرير الطبري: (وإذا سألك يا محمد عبادي عني أين أنا؟ فأنا قريب منهم اسمع دعاءهم وأجيب دعوة الداعي منهم). ويتأكد لك هذا (القرب) إذا تأملت الآية جيدا فإن الإجابة على السؤال الوارد فيها لم تأت بلفظ (قل) كباقي السؤالات التي أجاب عنها القرآن مثل (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) و(يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) وعن المستقبل زاد حرف الفاء (ويسألونك عن الجبال فقل) ولكن حذفت في هذه الآية (قل) للاشعار بفرط قربه تعالى من عباده فجاءت الإجابة مباشرة (فإني) دون واسطة (قل) التي توهم البعد، فكان الأنسب للمقام والأقر لعيون العباد والأزجر لأهل العناد تقريب الجواب وحذف الواسطة. (نظم الدرر للبقاعي (1/348)).
نعم ان القريب لا يحتاج إلى وسيط أو شفيع أو ولي يبلغه دعاء الداعين أو يشاركه في اجابتهم وتلبية حاجاتهم، فهو الذي امر بالدعاء ووعد بالإجابة واخبر بقربه منهم ليتوجهوا اليه وحده بطلب الحاجات وكشف الكربات وبعد ذلك كله يأتينا وللأسف متصوف متفلسف متعالم ذاع صيته عبر الفضائيات في (ميزانه) المائل مدعيا ان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو واسطتنا إلى ربنا فيخرق إجماع المفسرين بتأويل شاذ للآية فيقول: (إذا) أداة شرط، فعلها: (سألك) وجوابها (فإني قريب) ولن يتحقق جواب الشرط إلا بتحقيق فعله، وعليه فلن يكون الرب قريبا من عباده ما لم يسألوا رسول الله ويوجهوا الدعاء له مباشرة لأنه الواسطة بينه وبينهم في تبليغ الدعاء! وهكذا انحرف الطلب والدعاء من (الله) إلى (رسول الله) وذهبت بلاغة القرآن وفسد المعنى بسبب جهل هذا المتعالم وتفيقهه!!
إنه تحريف ظاهر لمعاني الآيات وصرف لها عن ظاهرها المراد منها فالسؤال في الآية المذكورة (عن الله) وليس فيها ادنى اشارة إلى ان قربه تعالى من عباده متوقف على سؤالهم (رسول الله)، ولو اخذنا بكلام هذا المتعالم لكان الذي يقول (يا الله) محروما من قربه تعالى وإجابته حتى يقول (يا رسول الله)! ونحن نعلم ان الرب جل جلاله الذي قال في كتابه (اعبدوني) قد قال ايضا (ادعوني استجب لكم)، والذي ثبت في السنة فقط التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو الطلب منه ان يدعو الله ولكن لم يثبت قط ان قرب الرب متوقف على سؤال الرسول أو الطلب منه، وفرق بين المعنيين ولكن الأمر كما قيل قديما: (من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب)!
المصدر :
اضغط هنا[/size]
كتب:
داود عبدالوهاب العسعوسي
لقد صنف العلماء السابقون كتبا كثيرة ونوقشت في العصر الحاضر رسائل علمية عديدة خصصت للحديث عن بلاغة القرآن الكريم وإبراز وجوه إعجازه البياني ذلك الإعجاز الذي اعترف به وسلم له سادات الأدباء وعمالقة البلغاء من الإنس والجن على السواء!
وان الواحد منا والله ليجد متعة كبيرة حين يقرأ تلك المؤلفات ويتأمل فيها لأنه سيقف حقا على درر لغوية وكنوز بلاغية وإعجاز لا حد له يشهد لنا بحق وصدق ان القول ليس بقول بشر ولكنه كلام الرب وتنزيله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
ومن تلك الدرر مثلا انك في احيان كثيرة وانت تقرأ القرآن الكريم تجد ان بعض الآيات تتكلم عن موضوع ما أو تناقش قضية معينة ويكون السياق فيها وتتابع المعاني مترابطا ومتكاملا تماما، ثم تستوقفك آية أو آيتان جاءت في ثنايا تلك الآيات قد يظهر لك من الوهلة الاولى انه لا علاقة واضحة أو ظاهرة بينها وبين الآيات السابقة واللاحقة لها فتسأل نفسك عن السر في ذلك ووجه الإعجاز فيه؟
في سورة البقرة مثلا تتحدث الآيات من (183) إلى (187) عن عبادة الصيام وتفصيل احكامه، لكننا نجد ان الآية (186) تتحدث عن قرب المولى جل جلاله من عباده حين يتوجهون اليه بالدعاء: (واذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعان). فتسأل نفسك: ما علاقة موضوع (الدعاء) بموضوع الصيام واحكامه؟!
تذكر قبل معرفة الجواب على هذا التساؤل ان الله في الآية السابقة لها برقم (185) قد امر الصائمين في ختام شهرهم بتكبيره (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) وتذكر ايضا ان للصائم دعوة لا ترد، وتذكر كذلك فضل ليلة القدر واهمية الدعاء فيها تظهر لك وجه مناسبة مجيء هذه الآية في هذا السياق، انها تذكر الصائم بالدعاء فالوقت وقت اجابة والرب الكبير ليس كملوك الدنيا، يحجزهم كبرياؤهم عمن دونهم، لا بل هو قريب يسمع الدعاء ويجيب عباده فإياكم ان تتوهموا انه بعيد عنكم كعادة المتكبرين من ملوك الارض بل هو مع كبريائه وعلوه قريب منكم. (نظم الدرر للبقاعي (1/347)).
ويقول محمد رشيد رضا في تفسير المنار (2/166): (ولكن الآية جاءت بين آيات الصيام فهي ليست بأجنبية منها وإنما هي متصلة بما قبلها من الاحكام، فقد طالبنا في الآية السابقة بإكمال عدة الصيام وتكبير الله تعالى وذكر ان ذلك يعدنا لشكره تعالى، والتكبير والشكر يكونان، بالقول نحو: الحمد لله والله اكبر كما يكونان بالعمل وما كان بالقول يأتي فيه السؤال: هل يكون برفع الصوت والمناداة أم بالمخافة والمناجاة؟ فجاءت هذه الآية جوابا عن هذا السؤال الذي يتوقع ان لم يقع، فهي في محلها سواء صح ما رووه في سببها أم لا).
وبعد البحث في اسباب النزول لم اقف على رواية صحيحة معتمدة في ذلك، الا ان المفسرين اجمعوا على معنى واحد في تفسيرها، فقال شيخهم ابن جرير الطبري: (وإذا سألك يا محمد عبادي عني أين أنا؟ فأنا قريب منهم اسمع دعاءهم وأجيب دعوة الداعي منهم). ويتأكد لك هذا (القرب) إذا تأملت الآية جيدا فإن الإجابة على السؤال الوارد فيها لم تأت بلفظ (قل) كباقي السؤالات التي أجاب عنها القرآن مثل (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) و(يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) وعن المستقبل زاد حرف الفاء (ويسألونك عن الجبال فقل) ولكن حذفت في هذه الآية (قل) للاشعار بفرط قربه تعالى من عباده فجاءت الإجابة مباشرة (فإني) دون واسطة (قل) التي توهم البعد، فكان الأنسب للمقام والأقر لعيون العباد والأزجر لأهل العناد تقريب الجواب وحذف الواسطة. (نظم الدرر للبقاعي (1/348)).
نعم ان القريب لا يحتاج إلى وسيط أو شفيع أو ولي يبلغه دعاء الداعين أو يشاركه في اجابتهم وتلبية حاجاتهم، فهو الذي امر بالدعاء ووعد بالإجابة واخبر بقربه منهم ليتوجهوا اليه وحده بطلب الحاجات وكشف الكربات وبعد ذلك كله يأتينا وللأسف متصوف متفلسف متعالم ذاع صيته عبر الفضائيات في (ميزانه) المائل مدعيا ان النبي (صلى الله عليه وسلم) هو واسطتنا إلى ربنا فيخرق إجماع المفسرين بتأويل شاذ للآية فيقول: (إذا) أداة شرط، فعلها: (سألك) وجوابها (فإني قريب) ولن يتحقق جواب الشرط إلا بتحقيق فعله، وعليه فلن يكون الرب قريبا من عباده ما لم يسألوا رسول الله ويوجهوا الدعاء له مباشرة لأنه الواسطة بينه وبينهم في تبليغ الدعاء! وهكذا انحرف الطلب والدعاء من (الله) إلى (رسول الله) وذهبت بلاغة القرآن وفسد المعنى بسبب جهل هذا المتعالم وتفيقهه!!
إنه تحريف ظاهر لمعاني الآيات وصرف لها عن ظاهرها المراد منها فالسؤال في الآية المذكورة (عن الله) وليس فيها ادنى اشارة إلى ان قربه تعالى من عباده متوقف على سؤالهم (رسول الله)، ولو اخذنا بكلام هذا المتعالم لكان الذي يقول (يا الله) محروما من قربه تعالى وإجابته حتى يقول (يا رسول الله)! ونحن نعلم ان الرب جل جلاله الذي قال في كتابه (اعبدوني) قد قال ايضا (ادعوني استجب لكم)، والذي ثبت في السنة فقط التوسل بدعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو الطلب منه ان يدعو الله ولكن لم يثبت قط ان قرب الرب متوقف على سؤال الرسول أو الطلب منه، وفرق بين المعنيين ولكن الأمر كما قيل قديما: (من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب)!
المصدر :
اضغط هنا[/size]