جواب على منتقد فتوى الشيخ أبي عبد المعز محمّد علي فركوس -حفظه الله تعالى-الموسومة بعنوان:
في تحقيق تأويل ابن عباس رضي الله عنهما لصفة «الساق» في الآية: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾
في تحقيق تأويل ابن عباس رضي الله عنهما لصفة «الساق» في الآية: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾
لقد اطلعت إدارة موقع الشيخ فركوس -حفظه الله- على ما نشر في أحد المنتديات، استشكال أحد المشاركين فيه عن فتوى الشيخ المذكورة أعلاه، ووجهه أنّ القرطبي: «بيَّن في تفسيره للآية الكريمة أنَّه لا يقصد إثبات الأعضاء لله تعالى»، فأجابه أحدهم بنص الانتقاد الآتي:
«هذا الوهابي المدَّعي بالمشيخة لا حياء له بحيث يتهم سيدنا عبد الله بن عباس بالاعتزال لقوله: «كانت الآية في هذه الحالة من جملة آيات الصفات التي يجب إثباتها من غير تأويلها بشدَّة الهول وعظم الأمر خلافًا للمعطِّلة الذين حَمَلوا الآية على شدَّة الأمر».
والشخص الذي طرح له السؤال أحرجه بنقله تأويل ابن عباس لهذه الآية ويطلب منه رأيه، هذا الوهابي على عادته يفر بقوله: هذا معنى لغوي، وإنما المعنى الصحيح أنّ لله ساقًا نثبته.
نسأل الله أن يعافينا من هؤلاء الوهابيين الذين ينسبون أعضاءً لله.
هؤلاء الناس لا يتراجعون أمام أي شيء لبث سمومهم حتى أمام كلمة عالم كابن حجر أو النووي أو البيهقي أو السيوطي، حتى أمام كلام صحابي كما هو الحال هنا لابن عباس.
حسبنا الله ونعم الوكيل».
جواب الإدارة:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقد اعترض نكرةٌ على فتوى شيخِنا أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله تعالى- في تحقيق ما نُسب إلى ابن عباسٍ رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: 42]، بأنه شدة الأمر والهول، وقرَّر المعترض نفي هذه الصفة عن الله تعالى، ووصف المثبِتَ لها بالانحراف، وأنَّ الشيخ الوهابي ليست له الأهلية لتقويم سيِّدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كعادة الوهابيِّين الذين يقولون: إنَّ لله حقيقة ساقًا، ثمَّ دعا الله تعالى أن يحفظه من الوهابيِّين الذين ينشرون سمومهم.
هذا، ومِن مُنطلَق العدلِ المأمورِ به في كلِّ أحدٍ صديقًا أو عدوًّا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8]، ومن مبدأ وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله الذي يشهد له قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 49-50]، لذلك كان للإدارة جواب يظهر فحواه في المقامات التالية:
المقام الأول:
ينبغي على من ينتقد غيرَه أن يسلك سبيلَ الأدب، وأن يقدّم على جدله تقوى الله عزّ وجلّ ليَزْكُوَ نظره، وأن يجتنب التهويل الذي ليس وراءَه تحصيلٌ، فإنَّ الحقَّ لا يُنصرُ بالسِّباب والشتم، ولا بالنَّبْزِ واللَّمْزِ، وإنما بالحُجج والبراهين، كما قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ: «…فأمَّا الدعاوي فلا تتعذّر على أحد..» [«جامع البيان»: (6/17)]، وقال السخاوي: «وقد روينا عن المُزني قال: سمعني الشافعي يومًا وأنا أقول: «فلان كذاب»، فقال لي: يا إبراهيم أكسُ ألفاظَك أحسنها، لا تقل: كذَّاب، ولكن قل: حديثُه ليس بشيء». [«الإعلان بالتوبيخ» للسخاوي: (69)]، وأن يصلح منطقه ويهذّبه، فيجتنب الفحش في الخطاب، والتقعير في الكلام، والوحشي من الألفاظ، فإنه لا يضيف إلى الحجّة قوة ولا إلى الكلام حلاوة، بل يورث البلادة، ويقطع مادة الفهم والخاطر، وقد تنازع الأصمعي والمفضَّل يومًا في بيتٍ من الشعر، فرفع المفضَّل صوتَه، فقال له الأصمعي: «لو نفخت في الشّبور -أي: البوق- لم ينفعك، تكلَّم كلام النمل وأصب». [«الروض الأنف» للسهيلي: (1/240)]، وقال أبو الوليد الباجي: «ويجتنب إظهار العجب من كلام خصمه، والتشنيع عليه في جداله، فإنّ ذلك يفعله الضعفاء، ومن لا إنصاف عنده». [«المنهاج في ترتيب الحجاج»: (10)]، وقال أبو محمّد ابن حزم: «ولا تحقر أحدًا حتى تعرف ما عنده، فربما فاجأك منه ما لم تحتسب، وليس ذلك إلاّ من فِعل أهل النُّوك(١) الذين لا يحصِّلون». [«التقريب لحد المنطق»: (196)].
وبعد هذا، فرمي المعترض مَن يُثبت الصفاتِ لله تعالى على الوجه اللائق به بالوهابية «شِنْشِنَةٌ أعرفها مِن أَخْزَمَ»(٢)، فإنَّ شيخ الإسلام محمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لم يأت بشيءٍ جديدٍ، وإنَّما جدَّد للناس ما اندثر من معالم الدِّين، كما قال العلاَّمة مبارك الميلي عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأمَّا ابن تيمية فلم يبتدع ضلالةً، وإنما أحيا السُّنَّة، ودعا إلى الهُدى، واجتهد في النُّصح، وليست الدعوة إلى التوحيد بمذهبٍ خاصٍّ، ولكنّه دين الله العام». [«الشرك ومظاهره»: (97)].
فما قرَّره الشيخ محمَّد بن عبد الوهاب في مسائل التوحيد هو الإسلام الصحيح الذي بعث به محمَّد بن عبد الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يبتدع للأمَّة دينًا جديدًا حتى تخصَّص دعوته باسمٍ خاصٍّ. [انظر: «فتاوى محمَّد بن إبراهيم»: (1/7)]، قال أبو عبد المعز محمَّد علي فركوس –حفظه الله تعالى-: «أمَّا لفظة «الوهابية» فهي من إطلاق خصوم دعوة الحقّ من أهل الأهواء والبدع يريدون بذلك نبزَ الشيخِ محمّد بن عبد الوهاب -رحمه الله- والتنقّص من دعوته الإصلاحية إلى تجريد التوحيد من الشركيات، ونبذ جميع السبل إلاّ سبيل محمّد صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وما دعوته -رحمه الله- إلاّ امتداد لدعوة المتبعين لمحمّد صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من السلف الصالح ومن سار على نهجهم من أهل السنّة والجماعة، التي لا تخرج عن أصولهم ولا على مسلكهم في الدعوة إلى الله بالحجّة والبرهان قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]، وقد كانت دعوتُه ودعوةُ أئمّةِ الهدى والدِّين قائمةً على محاربة البدعِ والتعصّبِ المذهبيِّ والتفرّقِ، وعلى منع وقوعِ الفتن بين المذاهب والانتصار لها بالأحاديث الضعيفة والآراء الفاسدة، وترك ما صحّ عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من السُّنن والآثار، كما حاربت دعوته تَنْزيل الإمام المتبوع في أتباعه مَنْزلة النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في أُمَّته، والإعراض عن الوحي والاستغناء عنه بأقوال الرجال، فمثل هذا الالتزام بمذهب واحد اتخِذَ سبيلاً لجعل المذهب دعوة يُدعى إليها يوالى ويعادى عليها، الأمر الذي أدّى إلى الخروج عن جماعة المسلمين، وتفريق صفّهم، وتشتيتِ وحدتهم، وقد حصل بسبب ذلك تسليط الأعداء عليهم واستحلال بيضتهم، فأهل السُّنَّة والجماعة إنما يدعون إلى التمسّك بوصية رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم المتمثّلة في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتفقت عليه الأُمَّة، فهذه أصول معصومة دون ما سواها، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا، كِتَابَ اللهِ، وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»(٣)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(٤).
إنّ استصغار أهلِ السُّنَّة والجماعة والتنقصَ من قدرهم بنبزهم «بالوهابية» تارة، و«بعلماء البَلاط» تارة، و«بالحشوية» تارة، و«بأصحاب حواشٍ وفروع» تارة، وﺑ «علماء الحيض والنفاس» تارة، وﺑ «جهلة فقه الواقع» تارة، وﺑ «تَلَفِيُّون أتباع ذنب بغلة السلطان»تارة، وﺑ «العُملاء» تارة، وﺑ «علماء السلاطين»، ما هي إلاّ سُنَّة المبطلين الطاعنين في أهل السُّنَّة السلفيين، ولا تزال سلسلة الفساد متصلة لا تنقطع يجترُّها المرضى بفساد الاعتقاد، يطلقون عباراتهم الفَجَّة في حقّ أهل السُّنَّة والجماعة، ويلصقون التهم الكاذبة بأهل الهدى والبصيرة، لإبعاد الناس عن دعوتهم، وتنفيرهم عنها وصدِّهم عمّا دعوا إليه، والنظر إليهم بعين الاحتقار والسخط والاستصغار، وهذا ليس بغريب ولا بعيد على أهل الباطل في التجاسر على العلماء وما يحملونه من علم ودين باللمز والغمز والتنقّص، فقد طُعن في النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بألقاب كاذبة ووصف بأوصاف خاطئة، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الذاريات: 53]، وقد جاء هذا الخُلُق الذميم على لسان رجلٍ من الخوارج في قوله للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اعْدِلْ»(٥)، وقال آخر منهم لعثمان رضي الله عنه عندما دخل عليه ليقتله: «نعثل»(٦). قال: الشاطبي: «ورُوِي أنَّ زعيمًا من زعماء أهلِ البدعِ كان يريد تفضيلَ الكلام على الفِقه، فكان يقول: إنَّ عِلم الشافعيِّ وأبي حنيفةَ جُملته لا يخرج من سراويل امرأة» فعلّق عليه قائلاً: «هذا كلامُ هؤلاء الزائغين، قاتلهم الله»(٧). والطعن في ورثة الأنبياء بريد المروق من الدِّين، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ومتى وُجدت أُمّةٌ ترمي علماءَها وصفوتَهَا بالجهل والتنقّص فاعلم أنهم على بابِ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأيّ سعادة تدخل على أعداء الإسلام بمثل هذا الأذى والبهتان». [«الإصلاح النفسي للفرد»: (49-56)].