التوحيد عند الصوفية
أكرم مبارك عصبان
Osban_akm@hotmail.com
إننا نريد أن نجيل الفكرة في هذا المبحث عن أهم قضية في التصوف، ونطيل النظرة في مفهوم التوحيد من زاوية التصوف الذي ينصرف إليه الاسم عند الإطلاق، وهذه القضية تعد الصفة الكاشفة لبقية المفاهيم لأنها تقود إليها، وقبل أن نشرع في الإبانة فإنه يحسن بنا أن نرسي قواعد من خلال هذه الإطلالة تعيننا على فهم المقصود ثم ننطلق في غمار البحث:
أولاً: لا شك أن المنتسبين للتصوف ليسوا سواء في الاعتقاد، وعليه يبنى التفصيل في الحكم، فإن منهم أمة باقية عند الاسم دون المسمى، لا زالت تعيش أيام النشأة المرتبطة بتزكية النفس وتجريد القلب عما سوى الله، والوقوف مع الآداب الشرعية قبل أن يغادر التصوف أسوار هذه المدرسة التي تعني بالزهد إلى بيداء مضيعة، وصحراء مهلكة لا تمت للنشأة بقرابة، ولو بقي التصوف على النشأة لم نهجر إلا اسمه، ونحن لا يضيرنا القول بوجود منافع في بعض فروع التصوف المقتبسة من مشكاة الحق حتى لا نضيع الوقت في جدل عقيم لا يفيد شيئا، ولكن ذلك لا يفي عند الشراء منه بما تضمنه من مضار علقت به، فلا يخدعنا المبطلون في التذرع بذلك لتسويق حقيقة التصوف عند من لا نظر له، فمن الناحية العملية لا تكاد اليوم تلمح فرقة لا يحوي قاموسها الحديث عن القطب الغوث الذي يتزعم الأولياء ممن تنضح تراجمهم بخوارق عظيمة لا تثبت بنقل ولا يدل عليها عقل، وأين الفرقة التي لا يؤم قبور أوليائها فئام الناس المعتقدين فيهم؟ وما هي الطريقة التي لا تعنى بالفناء بأغلظ صوره، ويمهد له بذكر المجاهدات التي تنوء بها الطبيعة البشرية.
ثانياً: إن مناط الحديث إذا هو عن مدرسة انتقلت إلى مسجدِ ضرار يبث من خلاله عقائد كاسدة وتنطوي على مفاهيم فاسدة منها وحدة الوجود وما خرج من رحمها كالحقيقة المحمدية ويقصدون بها الذات الإلهية مع التعين الأول، وكذا الإنسان الكامل الذي يعبرون عنه بأنه حق متصور في صورة خلقية ! أو خلق متحقق بمعاني إلهية! وأما عالم الأولياء فقد أوكلوا إليه إدارة شؤون الكون ويترأسهم القطب الغوث، ولقد سخرت الجوانب العملية في خدمة هذه الأهداف وصارت مطية للغاية الفلسفية، وأضحت الخلوة والمجاهدة العنيفة التي تقود إلى إماتة النفس تشم فيها رائحة الرهبانية، ويكون ذلك عبر مقامات يشرف عليها الشيوخ الذين يحاطون بتقديس ويوصفون بالحفظ لينقاد لهم الأتباع وذلك مستعار من القواميس الشيعية، ولكن ينبغي أن يميز بين متكلمة الصوفية، وأهل الاستقامة، فضلاً عن أصحاب الحقائق، وهم الذين وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية بمشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبدالله التستري وأمثالهم..).
ثالثاً: إن بعض المفاهيم لا سيما الموغلة في الفلسفة يتوارى عنها الذين يتبنون الحديث عن التصوف في الإعلام حتى ترى بادي الرأي أنها طلل موحش لا يسع أصحابه إلا إطالة الوقوف أمامه، أو أنها عبارة عن نظريات فلسفية معقدة قد تصرم أربابها، وهذا كلام يزيف عند النقد، ولا يؤيده التأمل إلى الآثار التي خلفتها والثمار السيئة في الواقع، والسعي الحثيث في تقديم إرث الصوفية وتكريس هذه المفاهيم من خلال مراكز علمية ودعوية وإعلامية مختلفة، ولو أنها قد توارت في رمسها، وانمحى رسمها لأهيل عليها التراب، ولم يحاول دعاتها اليوم دبغ إهابها بعدما تغلظت نجاسته، ولو جرد هؤلاء التصوف عما سبق من مفاهيم لأفرغوه من مضمونه ولم يقيموا له سوقا، ومن البر ما يكون عقوقا، ولذا فلا بد منا إزالة لبس المبطلين، ونفي تأويل الغالين من تشويه جمال الدين، ولله در الشيخ أبي عمرو بن الصلاح حين أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي وقال أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي أحسن أرباب العلوم الكلامية إسلاما وأمثلهم اعتقادا، وما عليه الصوفية ما بلغ معشار ما كان عليه.
رابعاً: بقي أن نشير إلى أن التوحيد الذي من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب هو أعدل العدل قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) وهو الذي يلامس الفطرة، ويخاطب العقل، ويقارن العلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وأما توحيد الصوفية فوعورته تقضي أن لا يصل إليه إلا الخواص كما يزعمون، والعجب لا ينقطع من طائفتين متناقضتين في معنى التوحيد، فالأولى سمت نفسها أهل العدل والتوحيد وهم المعتزلة، وقصدوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية موافقين للجهمية، وأما الأخرى فأهل التصوف الذين جعلوا الفناء هو التوحيد،وفيه يخلع على الواصل صفات الإلهية كما سيأتي([1]).
ما المراد بالتوحيد ؟
التوحيد مراده عندهم الفناء، فإذا ظفر الصوفي به ألقى عصاه واستقر به النوى، ويقصدون بالفناء أن يفنى عن الكون، ويغيب عن الموجودات حتى يقرب من محبوبه، وعلى قدر هذا الفناء يكون مقدار القرب، فيصل إلى نعيم المشاهدة بمطالعة الأنوار ومكاشفة الأسرار، ويسمى هذا المقام مقام الجمع والسكر والاصطلام والغيبة والمحو، وما يزال الصوفي يرقى في معراجه حتى يغيب عن نفسه ويذهب عن حسه ويفنى عن فنائه ويدخل مقام جمع الجمع، ولأن التوحيد هذا قد اغترب عن المفهوم الشرعي فإن الظفر به لا يقوم على العلم والفطرة والعقل بل هو وراء كل ذلك حين يمضي الصوفي زمنا في الرياضة ذات الأركان الأربعة (الجوع والصمت والخلوة والسهر) وقد يبدل الصمت بالذكر كما يتبدل الخلوة بالسياحة، ويستعان بالسماع للتعجيل من الوصول للغاية، وهناك مقامات لا بد من اجتيازها ولا يتم ذلك إلا بواسطة شيخ يسلم له المريد كل التسليم، ويكون عنده كالميت عند مغسل، ولا يعترض عليه البتة، وقد يطرأ ما يسمونه الجذب فينتقل السالك على جناحه إلى الغاية، والذي يتحصل لنا في هذا الموضوع ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة الفرق الأول وهي الاحتجاب عن الحق بالخلق ما دام يرى الإنسان الكون.
الثانية: مرحلة الفناء أو الجمع حين يفنى عن الخلق ويبقى بالحق.
الثالثة: مرحلة البقاء أو الصحو بعد المحو أو الفرق الثاني فلا يحجب صاحبها الخلق عن الحق ولا الحق عن الخلق، وأما مقام جمع الجمع فإنه الاستغراق في الذات بالكلية.
إذن فقد اتفق الصوفية على ورود حقيقة التوحيد ألا وهي الفناء ولكنهم اختلفوا في الصدور عنها إلى ثلاث شعب الأولى فأهل الفناء في الشهود وهم من لم يشهد من الأغيار عينا ولا رسما عند مفارقة السوى، والثانية أرباب الوحدة التي نادى بها ابن عربي ومن سار بسيره كابن الفارض، والثالثة أصحاب الحلول والاتحاد التي حمل لواءها الحلاج، وربما تداخلت هذه الشعب ونزل القائل بالإتحاد الشهودي والعيان من عقبته إلى ساحة الإتحاد الوجودي في الأعيان، وهم صنف من أهل الشهود، والصنف الآخر قد يفارق أصحاب الوحدة إلى حد التكفير، كما أن أصحاب الوحدة يبرأون من الحلول وقرينه الاتحاد، ولا يترددون في تكفير القائل به لأنه يشعر عندهم بالإثنينية وما ثم إلا هو، ولكن قد يستعيرون معنى الاتحاد بمعنى الوحدة أيضا، فهم من هذه الحيثية شيع ومتشاكسون، والفناء دحض تزل فيه الأقدام حين يحاول تصويره لأنه محال.
وأما مقام البقاء فيأتي بعد أن ينتهي الصوفي من سفره إلى مقام الجمع، ويغيب عن فنائه ثم يعود بعد ذلك إلى التمييز، ورؤية نفسه وكذا الأشياء من حوله، وهو ما يسمى الفرق، ولكنه قطعا ليس الفرق الأول الذي يكون صاحبه فيه محجوبا بالخلق عن الحق فحاشا الصوفي عندهم أن يقطع العقبات ويتجاوز المقامات ليعود إلى سيرته الأولى، بل ينزل مقام البقاء أو الفرق الثاني وهو الخلافة ويتحلى بصفات القطبية وتصريف القدرة كما يزعمون.
الغزالي يشرح التوحيد:
لقد تصدى الغزالي في إحياء علوم الدين([2]) إلى توضيح هذا المفهوم حين تحدث عن صاحب المرتبة الرابعة في التوحيد وهو أعلى الطبقات عنده فقال بأنه موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد !!.ويتابع حديثه قائلا فإن قلت كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحدا ؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون إفشاء سر الربوبية كفر ثم أضاف وإلى هذا أشار الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال فيم أنت ؟ فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل فقال الحلاج: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد
وهذا ابن عربي يخوض فيه ويحذو بالغزالي حذو القذة بالقذة ونظمه في فتوح الغيب بقوله:
وغص في بحر ذات الذات تنظر معاني ما تبدت للعيان
وأسراري قراءة مبهمات مسكرة بأرواح المعاني
فمن فهم الإشارة فليصنها وإلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت له شمس الحقيقة بالتداني
وقال أنا هو الحق الذي لا يغير ذاته مر الزمان
لفحات من الطبقات: ولو ابتعدنا قليلا عن الغزالي وابن عربي لتكون الحوالة هنا على طبقات الشعراني وهي مليئة، وتعد دستورا لكثير من المتأخرين كما أن صاحبها يتمتع عندهم بقبول حسن، فمن أحال عليه فليتبع، وننقل ما وصفوا به التوحيد على النحو التالي:
ـ أبو المواهب الشاذلي قال في معنى قولهم (إن للربوبية سرا لو ظهر لعطل نور الشريعة) المراد به الفناء وإعطاء سر التكوين، وأن العبد يفعل ما يشاء !!.
ـ ويقترب علي بن وفا من التفسير أكثر فيصرح بقوله: السر ما لا يشهده إلا واحده، فمن شهدت سره فاعلم أنك أنت هو، من حيث حصل لك هذا الشهود !
ـ وأما إبراهيم الدسوقي فهو يقرر أن فيض الربوبية إذا فاض أغنى عن الاجتهاد فإن صاحب الجهد قاصرا ما لم يقرأ في لوح المعاني سر عطاء القادر، وليس مطلوب القوم إلا هو...
وهو القائل أيضا: من أدخل دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة بقي هو بلا هو.
ـ ويقول أبو الحسن الشاذلي في أمر هذا السر وحال صاحبه: فإذا أمده الله بنور سر الروح وجد نفسه جالسا على باب ميدان السر، فرفع همته ليعرف هذا الموجود الذي هو السر، فعمي عن إدراكه فتلاشت جميع أوصافه كأنه ليس بشيء! ([3]).
التوحيد سر خطير يجب كتمانه:
وهكذا نجد أن هناك سرا اكتشفه هؤلاء بواسطة اقتحامهم البحار، التي لم يخض فيها الأنبياء، وأن هذا السر ظاهره كفر فلا ينبغي إفشاؤه وإلا لما سمي سرا فالواجب صيانته عن الأغيار، لكن قد يستثنى من الخروج عن حفظ السر لمن كان معذورا بغلبة وهو حال كثير، أو كان مأذونا له وهم قليل، أو كان متحدثا بالنعمة وهذا أقل، ومع هذا العذر فإن عليه أن يتحمل التبعات، ونظرا لخطورة هذا المقام فقد تواصوا بالكتمان، وحذروا من التهاون في ذلك أشد التحذير، بل ربما صانوا سرهم عن أقرب المريدين فضلا عن المحبين، وأبعد ما يكون عن القاصرين، وأما المعترضين فلا بد أن تضرب بينه وبينهم أسوار وحجب غليظة، ولذا نقلوا عن الجنيد ـ وسيرته تأبى ذلك وتربأ به عنه ـ بأنه قال لا يبلغ أحد درجة الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق !! وذلك لأنه إذا نطق بعلوم الأسرار لا يسع الصديقين إلا أن ينكروا عليه، وأما إبراهيم الدسوقي الذي اعتنى بمريديه عناية فائقة فإنه يصرح أنه لم يجد أحدا منهم يصلح لحمل الأسرار غير أن عمر القرشي سبقهم حين استخلصوا من أصحابه الستمائة أربعة فقال لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رؤوس الأشهاد لكان أول من يفتي بقتلي هؤلاء الأربعة([4]).
وقفة مع أنواع التوحيد:
وخلاصة المقام أن التوحيد ينحصر عندهم في الفناء، وفيه يحصل الواصل على السر ويتصف بصفات محبوبه كما يزعمون حتى ربما قال أنا هو، ولذا تصرف إليه العبادة، وهنا نجد أنواع التوحيد الثلاثة قد طوي بساطها في هذا المقام، فمن الربوبية التصرف في الكون، وهذه كتب التراجم للأولياء وأقطاب طافحة بالتصرف بالإحياء والإماتة، وأنهم يعطون كلمة كن، والشفاعة وغيرها من أفعال الله التي انفرد بها وتغني شهرتها عن عدها، ولو ذهبنا نستقصي المفردات لضاق البحث بمساحته، وهنا ينبغي يكون دعاء الولي في هذا المقام له نفسه لأنه قد وصل مقام الاتحاد ولا يعتبر بهذا المعنى الدقيق واسطة فلينتبه !!
وأما النوع الثاني المتعلق بأفعال العباد فقد صرفت للموتى من استغاثة ونذر وذبح وغيرها من أفعال المتعلقين بهم نتيجة ما دونت لهم من خوارق، والعجيب أن الموت لا يحول بين الولي وفعلها فهذا محمد الحنفي في مرض موته يقول: من كانت له حاجة فليأت إلى قبري ويطلب حاجته أقضها له !! ثم زاد في غيه فقال: فإن ما بيني وبينكم غير ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل ! وأعجب من ذلك أن زوجة الحنفي هذا لم تراع وصيته عند الموت، وحادت عنها فكانت تقول يا سيدي أحمد يا بدوي خاطرك معي، وتنقلنا الحكاية مباشرة من فراش مرضها إلى عالم القبور حيث يبدو البدوي في المنام وهو ضارب لثامين ! وعليه جبة واسعة الأكمام، عريض الصدر أحمر الوجه والعينين، ويقول لها كم تنادين وتستغيثين ؟ وأنت لا تعلمين أنك في حماية رجل من الكبار المتمكنين، ونحن لا نجيب من دعانا وهو في موضع أحد من الرجال !! قولي يا سيدي محمد يا حنفي يعافيك الله تعالى ! فقالت ذلك فأصبحت كأن لم يكن بها مرض([5]).
وأما توحيد الأسماء والصفات فكما قرروا أن أفعال الولي أفعال هي الله فصفاته كذلك قال أبو العباس المرسي: لو كشف عن حقيقة ولي لَعُبد لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته !! وقال علي بن وفا: إذا رأى العارف أنه عين معروفه فلا عليه بأس في تعظيم العباد له، وقد أراد الشعراني إعرابها فأعجمها: ومعنى كونه عين معروفه أن يتخلق بصفاته التي أمره بالتخلق بها وهذا مبني على أن الصفات عين لا غير فافهم.
فله من تجليات الأسماء مظاهر فيعلم العوالم والخواطر والمغيبات، ويسمع وينطق بالقرآن في كلمة ويسمى الطي، والحياة كذلك لا ينسى نصيبه منها، وأما الرحمة فقد تصل عند بعضهم أن يتمنى إطفاء الجحيم والآخر يشفع لأهل قرنه، وثالث لمن دخل مدرسته، ورابع إلى من صلى عليه ولو كان جمادا ([6]) ولا نعفي أنفسنا في الختام بمسك من نوع آخر في حادثة قديما بجهتنا الحضرمية تبحث شفاعة الأولياء للعصاة وقد امتدت هذه الشفاعة ـ حين صلى رجل من عامة الناس على أحد الأولياء ـ لتبلغ اللحم الذي اشتراه لأهله، وكان بمعيته في الصلاة، وبعد انصرافه من الصلاة عاد لأهله باللحم فلم تؤثر النار فيه أبدا، فتذكر أن اللحم شهد الصلاة معه ودخل في الشفاعة !! واستقر عندي قديما أنها لأحد شيوخ هذه الجهة حتى تخيلت مكان ذلكم الرجل الذي وقف في الجبانة، وإذا بها من حكايات الطبقات مع تعديل طفيف حيث أبدل السمك باللحم في روايتنا ربما لأن منطقتنا ليست حاضرة البحر وليس ثم سمك طري، نعم قد نحمل قولهم في اللحم على الحقيقة الشرعية الواردة في قوله (لحما طريا) فلا يكون هناك اختلاف في الروايتين، ولكن يشكل عليه ما أفاده بعض الفقهاء بأن من حلف أن لا يأكل لحما لا يحنث بأكله السمك حملا على الحقيقة العرفية والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر فتح الباري (13/ 344 ـ 348) وقد ذكر أن نفر الجنيد منه فقال (التوحيد إفراد القديم عن المحدث) ثم تكلم عن المحو والفناء عن أكابرهم وأنه جر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة ثم غلا بعضهم فعذر الكفار ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم وحاشاهم من ذلك وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال: (وهل من غير)، ولهم في ذلك كلام طويل ينبو عنه سمع من كان على فطرة الإسلام والله المستعان.
([2]) إحياء علوم الدين (4/ 245 ـ 246) وقد استطرد الغزالي في ذكر المثال فقال إن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد.. فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار من الاعتبارات واحد وباعتبار آخر سواه كثير.. وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر والدوام نادر.
([3]) الطبقات الكبرى (ص 76 ـ 282ـ 294ـ 324 ـ 437 ـ 471).
([4]) نفسه (ص 256 ـ 279 ـ 293 ـ 484 ـ 488) وتشبّه الأسرار بالعورة عند أبي المواهب، والعورة حرم كشفها والنظر إليها والتحدث بها، ولذا من كشف عورته لنا فليتحمل عقوبة ذلك أو بتعبير داود بن ما خلا: من أبدى من أسرار الله تعالى ما لا يليق إبداؤه وأفشى من العلم المكنون ما لا يناسب إفشاؤه عوقب بسوء الظن فيه أو بما هو فوق ذلك من العقوبات، وهو الذي نقل عنه قوله:
لو زال منك أنا لاح لك من أنا!.
([5]) نفسه (518 ـ 533 ـ 559).
([6]) لو رجع المرء إلى تائية ابن الفارض لتجسدت له هذه القضية ومنها قوله:
فلا حــي إلا عن حياتي حياته وطوع مرادي كل نفس مريدة
وأسمع أصوات الدعاة وسائر اللغات دون مقدار لمحة
وأتلو علوم العالمين بلفظة وأجلو علوم العالمين بلحظة
وأستعرض الآفاق عني بخطوة وأخترق السبع السموات بخطوة
ومني لو قامت بميت لطيفة لردت إليه نفسه وأعيدت
وفي ساعة أو دون ذلك من تلا بمجموعه جمعي تلا ألف ختمة
محتوى الحلقة كاملاً
العدد الأول
الافتتاحية
بين عرفة وحميثرة صورتان متضادتان
الشيخ: محمد الغزالي
حول مقال بين عرفة وحميثرة .. صورتان متضادتان
هل خلق النبي صلى الله عليه وسلم من نور؟؟
الطريقة الفاسية
حمزة فنصوري
أيوب السختياني
كنت شيخاً مجازاً على سجادة النقشبندية
من مواعظ الحسن البصري رحمه الله
حوار مع الشيخ أحمد المعلم حول التصوف
بوابة الشر
التوحيد عند الصوفية
متابعات: السفراء الغربيون على خطى نابليون
متابعات: تقديس الأشخاص في الطريق الصوفي
متابعات: هكذا بفضل الله يكون التجديد
أكرم مبارك عصبان
Osban_akm@hotmail.com
إننا نريد أن نجيل الفكرة في هذا المبحث عن أهم قضية في التصوف، ونطيل النظرة في مفهوم التوحيد من زاوية التصوف الذي ينصرف إليه الاسم عند الإطلاق، وهذه القضية تعد الصفة الكاشفة لبقية المفاهيم لأنها تقود إليها، وقبل أن نشرع في الإبانة فإنه يحسن بنا أن نرسي قواعد من خلال هذه الإطلالة تعيننا على فهم المقصود ثم ننطلق في غمار البحث:
أولاً: لا شك أن المنتسبين للتصوف ليسوا سواء في الاعتقاد، وعليه يبنى التفصيل في الحكم، فإن منهم أمة باقية عند الاسم دون المسمى، لا زالت تعيش أيام النشأة المرتبطة بتزكية النفس وتجريد القلب عما سوى الله، والوقوف مع الآداب الشرعية قبل أن يغادر التصوف أسوار هذه المدرسة التي تعني بالزهد إلى بيداء مضيعة، وصحراء مهلكة لا تمت للنشأة بقرابة، ولو بقي التصوف على النشأة لم نهجر إلا اسمه، ونحن لا يضيرنا القول بوجود منافع في بعض فروع التصوف المقتبسة من مشكاة الحق حتى لا نضيع الوقت في جدل عقيم لا يفيد شيئا، ولكن ذلك لا يفي عند الشراء منه بما تضمنه من مضار علقت به، فلا يخدعنا المبطلون في التذرع بذلك لتسويق حقيقة التصوف عند من لا نظر له، فمن الناحية العملية لا تكاد اليوم تلمح فرقة لا يحوي قاموسها الحديث عن القطب الغوث الذي يتزعم الأولياء ممن تنضح تراجمهم بخوارق عظيمة لا تثبت بنقل ولا يدل عليها عقل، وأين الفرقة التي لا يؤم قبور أوليائها فئام الناس المعتقدين فيهم؟ وما هي الطريقة التي لا تعنى بالفناء بأغلظ صوره، ويمهد له بذكر المجاهدات التي تنوء بها الطبيعة البشرية.
ثانياً: إن مناط الحديث إذا هو عن مدرسة انتقلت إلى مسجدِ ضرار يبث من خلاله عقائد كاسدة وتنطوي على مفاهيم فاسدة منها وحدة الوجود وما خرج من رحمها كالحقيقة المحمدية ويقصدون بها الذات الإلهية مع التعين الأول، وكذا الإنسان الكامل الذي يعبرون عنه بأنه حق متصور في صورة خلقية ! أو خلق متحقق بمعاني إلهية! وأما عالم الأولياء فقد أوكلوا إليه إدارة شؤون الكون ويترأسهم القطب الغوث، ولقد سخرت الجوانب العملية في خدمة هذه الأهداف وصارت مطية للغاية الفلسفية، وأضحت الخلوة والمجاهدة العنيفة التي تقود إلى إماتة النفس تشم فيها رائحة الرهبانية، ويكون ذلك عبر مقامات يشرف عليها الشيوخ الذين يحاطون بتقديس ويوصفون بالحفظ لينقاد لهم الأتباع وذلك مستعار من القواميس الشيعية، ولكن ينبغي أن يميز بين متكلمة الصوفية، وأهل الاستقامة، فضلاً عن أصحاب الحقائق، وهم الذين وصفهم شيخ الإسلام ابن تيمية بمشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبدالله التستري وأمثالهم..).
ثالثاً: إن بعض المفاهيم لا سيما الموغلة في الفلسفة يتوارى عنها الذين يتبنون الحديث عن التصوف في الإعلام حتى ترى بادي الرأي أنها طلل موحش لا يسع أصحابه إلا إطالة الوقوف أمامه، أو أنها عبارة عن نظريات فلسفية معقدة قد تصرم أربابها، وهذا كلام يزيف عند النقد، ولا يؤيده التأمل إلى الآثار التي خلفتها والثمار السيئة في الواقع، والسعي الحثيث في تقديم إرث الصوفية وتكريس هذه المفاهيم من خلال مراكز علمية ودعوية وإعلامية مختلفة، ولو أنها قد توارت في رمسها، وانمحى رسمها لأهيل عليها التراب، ولم يحاول دعاتها اليوم دبغ إهابها بعدما تغلظت نجاسته، ولو جرد هؤلاء التصوف عما سبق من مفاهيم لأفرغوه من مضمونه ولم يقيموا له سوقا، ومن البر ما يكون عقوقا، ولذا فلا بد منا إزالة لبس المبطلين، ونفي تأويل الغالين من تشويه جمال الدين، ولله در الشيخ أبي عمرو بن الصلاح حين أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي وقال أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي أحسن أرباب العلوم الكلامية إسلاما وأمثلهم اعتقادا، وما عليه الصوفية ما بلغ معشار ما كان عليه.
رابعاً: بقي أن نشير إلى أن التوحيد الذي من أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب هو أعدل العدل قال تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) وهو الذي يلامس الفطرة، ويخاطب العقل، ويقارن العلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وأما توحيد الصوفية فوعورته تقضي أن لا يصل إليه إلا الخواص كما يزعمون، والعجب لا ينقطع من طائفتين متناقضتين في معنى التوحيد، فالأولى سمت نفسها أهل العدل والتوحيد وهم المعتزلة، وقصدوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفي الصفات الإلهية موافقين للجهمية، وأما الأخرى فأهل التصوف الذين جعلوا الفناء هو التوحيد،وفيه يخلع على الواصل صفات الإلهية كما سيأتي([1]).
ما المراد بالتوحيد ؟
التوحيد مراده عندهم الفناء، فإذا ظفر الصوفي به ألقى عصاه واستقر به النوى، ويقصدون بالفناء أن يفنى عن الكون، ويغيب عن الموجودات حتى يقرب من محبوبه، وعلى قدر هذا الفناء يكون مقدار القرب، فيصل إلى نعيم المشاهدة بمطالعة الأنوار ومكاشفة الأسرار، ويسمى هذا المقام مقام الجمع والسكر والاصطلام والغيبة والمحو، وما يزال الصوفي يرقى في معراجه حتى يغيب عن نفسه ويذهب عن حسه ويفنى عن فنائه ويدخل مقام جمع الجمع، ولأن التوحيد هذا قد اغترب عن المفهوم الشرعي فإن الظفر به لا يقوم على العلم والفطرة والعقل بل هو وراء كل ذلك حين يمضي الصوفي زمنا في الرياضة ذات الأركان الأربعة (الجوع والصمت والخلوة والسهر) وقد يبدل الصمت بالذكر كما يتبدل الخلوة بالسياحة، ويستعان بالسماع للتعجيل من الوصول للغاية، وهناك مقامات لا بد من اجتيازها ولا يتم ذلك إلا بواسطة شيخ يسلم له المريد كل التسليم، ويكون عنده كالميت عند مغسل، ولا يعترض عليه البتة، وقد يطرأ ما يسمونه الجذب فينتقل السالك على جناحه إلى الغاية، والذي يتحصل لنا في هذا الموضوع ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة الفرق الأول وهي الاحتجاب عن الحق بالخلق ما دام يرى الإنسان الكون.
الثانية: مرحلة الفناء أو الجمع حين يفنى عن الخلق ويبقى بالحق.
الثالثة: مرحلة البقاء أو الصحو بعد المحو أو الفرق الثاني فلا يحجب صاحبها الخلق عن الحق ولا الحق عن الخلق، وأما مقام جمع الجمع فإنه الاستغراق في الذات بالكلية.
إذن فقد اتفق الصوفية على ورود حقيقة التوحيد ألا وهي الفناء ولكنهم اختلفوا في الصدور عنها إلى ثلاث شعب الأولى فأهل الفناء في الشهود وهم من لم يشهد من الأغيار عينا ولا رسما عند مفارقة السوى، والثانية أرباب الوحدة التي نادى بها ابن عربي ومن سار بسيره كابن الفارض، والثالثة أصحاب الحلول والاتحاد التي حمل لواءها الحلاج، وربما تداخلت هذه الشعب ونزل القائل بالإتحاد الشهودي والعيان من عقبته إلى ساحة الإتحاد الوجودي في الأعيان، وهم صنف من أهل الشهود، والصنف الآخر قد يفارق أصحاب الوحدة إلى حد التكفير، كما أن أصحاب الوحدة يبرأون من الحلول وقرينه الاتحاد، ولا يترددون في تكفير القائل به لأنه يشعر عندهم بالإثنينية وما ثم إلا هو، ولكن قد يستعيرون معنى الاتحاد بمعنى الوحدة أيضا، فهم من هذه الحيثية شيع ومتشاكسون، والفناء دحض تزل فيه الأقدام حين يحاول تصويره لأنه محال.
وأما مقام البقاء فيأتي بعد أن ينتهي الصوفي من سفره إلى مقام الجمع، ويغيب عن فنائه ثم يعود بعد ذلك إلى التمييز، ورؤية نفسه وكذا الأشياء من حوله، وهو ما يسمى الفرق، ولكنه قطعا ليس الفرق الأول الذي يكون صاحبه فيه محجوبا بالخلق عن الحق فحاشا الصوفي عندهم أن يقطع العقبات ويتجاوز المقامات ليعود إلى سيرته الأولى، بل ينزل مقام البقاء أو الفرق الثاني وهو الخلافة ويتحلى بصفات القطبية وتصريف القدرة كما يزعمون.
الغزالي يشرح التوحيد:
لقد تصدى الغزالي في إحياء علوم الدين([2]) إلى توضيح هذا المفهوم حين تحدث عن صاحب المرتبة الرابعة في التوحيد وهو أعلى الطبقات عنده فقال بأنه موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد !!.ويتابع حديثه قائلا فإن قلت كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحدا ؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون إفشاء سر الربوبية كفر ثم أضاف وإلى هذا أشار الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال فيم أنت ؟ فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل فقال الحلاج: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد
وهذا ابن عربي يخوض فيه ويحذو بالغزالي حذو القذة بالقذة ونظمه في فتوح الغيب بقوله:
وغص في بحر ذات الذات تنظر معاني ما تبدت للعيان
وأسراري قراءة مبهمات مسكرة بأرواح المعاني
فمن فهم الإشارة فليصنها وإلا سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت له شمس الحقيقة بالتداني
وقال أنا هو الحق الذي لا يغير ذاته مر الزمان
لفحات من الطبقات: ولو ابتعدنا قليلا عن الغزالي وابن عربي لتكون الحوالة هنا على طبقات الشعراني وهي مليئة، وتعد دستورا لكثير من المتأخرين كما أن صاحبها يتمتع عندهم بقبول حسن، فمن أحال عليه فليتبع، وننقل ما وصفوا به التوحيد على النحو التالي:
ـ أبو المواهب الشاذلي قال في معنى قولهم (إن للربوبية سرا لو ظهر لعطل نور الشريعة) المراد به الفناء وإعطاء سر التكوين، وأن العبد يفعل ما يشاء !!.
ـ ويقترب علي بن وفا من التفسير أكثر فيصرح بقوله: السر ما لا يشهده إلا واحده، فمن شهدت سره فاعلم أنك أنت هو، من حيث حصل لك هذا الشهود !
ـ وأما إبراهيم الدسوقي فهو يقرر أن فيض الربوبية إذا فاض أغنى عن الاجتهاد فإن صاحب الجهد قاصرا ما لم يقرأ في لوح المعاني سر عطاء القادر، وليس مطلوب القوم إلا هو...
وهو القائل أيضا: من أدخل دار الفردانية وكشف له عن الجلال والعظمة بقي هو بلا هو.
ـ ويقول أبو الحسن الشاذلي في أمر هذا السر وحال صاحبه: فإذا أمده الله بنور سر الروح وجد نفسه جالسا على باب ميدان السر، فرفع همته ليعرف هذا الموجود الذي هو السر، فعمي عن إدراكه فتلاشت جميع أوصافه كأنه ليس بشيء! ([3]).
التوحيد سر خطير يجب كتمانه:
وهكذا نجد أن هناك سرا اكتشفه هؤلاء بواسطة اقتحامهم البحار، التي لم يخض فيها الأنبياء، وأن هذا السر ظاهره كفر فلا ينبغي إفشاؤه وإلا لما سمي سرا فالواجب صيانته عن الأغيار، لكن قد يستثنى من الخروج عن حفظ السر لمن كان معذورا بغلبة وهو حال كثير، أو كان مأذونا له وهم قليل، أو كان متحدثا بالنعمة وهذا أقل، ومع هذا العذر فإن عليه أن يتحمل التبعات، ونظرا لخطورة هذا المقام فقد تواصوا بالكتمان، وحذروا من التهاون في ذلك أشد التحذير، بل ربما صانوا سرهم عن أقرب المريدين فضلا عن المحبين، وأبعد ما يكون عن القاصرين، وأما المعترضين فلا بد أن تضرب بينه وبينهم أسوار وحجب غليظة، ولذا نقلوا عن الجنيد ـ وسيرته تأبى ذلك وتربأ به عنه ـ بأنه قال لا يبلغ أحد درجة الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق !! وذلك لأنه إذا نطق بعلوم الأسرار لا يسع الصديقين إلا أن ينكروا عليه، وأما إبراهيم الدسوقي الذي اعتنى بمريديه عناية فائقة فإنه يصرح أنه لم يجد أحدا منهم يصلح لحمل الأسرار غير أن عمر القرشي سبقهم حين استخلصوا من أصحابه الستمائة أربعة فقال لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رؤوس الأشهاد لكان أول من يفتي بقتلي هؤلاء الأربعة([4]).
وقفة مع أنواع التوحيد:
وخلاصة المقام أن التوحيد ينحصر عندهم في الفناء، وفيه يحصل الواصل على السر ويتصف بصفات محبوبه كما يزعمون حتى ربما قال أنا هو، ولذا تصرف إليه العبادة، وهنا نجد أنواع التوحيد الثلاثة قد طوي بساطها في هذا المقام، فمن الربوبية التصرف في الكون، وهذه كتب التراجم للأولياء وأقطاب طافحة بالتصرف بالإحياء والإماتة، وأنهم يعطون كلمة كن، والشفاعة وغيرها من أفعال الله التي انفرد بها وتغني شهرتها عن عدها، ولو ذهبنا نستقصي المفردات لضاق البحث بمساحته، وهنا ينبغي يكون دعاء الولي في هذا المقام له نفسه لأنه قد وصل مقام الاتحاد ولا يعتبر بهذا المعنى الدقيق واسطة فلينتبه !!
وأما النوع الثاني المتعلق بأفعال العباد فقد صرفت للموتى من استغاثة ونذر وذبح وغيرها من أفعال المتعلقين بهم نتيجة ما دونت لهم من خوارق، والعجيب أن الموت لا يحول بين الولي وفعلها فهذا محمد الحنفي في مرض موته يقول: من كانت له حاجة فليأت إلى قبري ويطلب حاجته أقضها له !! ثم زاد في غيه فقال: فإن ما بيني وبينكم غير ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل ! وأعجب من ذلك أن زوجة الحنفي هذا لم تراع وصيته عند الموت، وحادت عنها فكانت تقول يا سيدي أحمد يا بدوي خاطرك معي، وتنقلنا الحكاية مباشرة من فراش مرضها إلى عالم القبور حيث يبدو البدوي في المنام وهو ضارب لثامين ! وعليه جبة واسعة الأكمام، عريض الصدر أحمر الوجه والعينين، ويقول لها كم تنادين وتستغيثين ؟ وأنت لا تعلمين أنك في حماية رجل من الكبار المتمكنين، ونحن لا نجيب من دعانا وهو في موضع أحد من الرجال !! قولي يا سيدي محمد يا حنفي يعافيك الله تعالى ! فقالت ذلك فأصبحت كأن لم يكن بها مرض([5]).
وأما توحيد الأسماء والصفات فكما قرروا أن أفعال الولي أفعال هي الله فصفاته كذلك قال أبو العباس المرسي: لو كشف عن حقيقة ولي لَعُبد لأن أوصافه من أوصافه ونعوته من نعوته !! وقال علي بن وفا: إذا رأى العارف أنه عين معروفه فلا عليه بأس في تعظيم العباد له، وقد أراد الشعراني إعرابها فأعجمها: ومعنى كونه عين معروفه أن يتخلق بصفاته التي أمره بالتخلق بها وهذا مبني على أن الصفات عين لا غير فافهم.
فله من تجليات الأسماء مظاهر فيعلم العوالم والخواطر والمغيبات، ويسمع وينطق بالقرآن في كلمة ويسمى الطي، والحياة كذلك لا ينسى نصيبه منها، وأما الرحمة فقد تصل عند بعضهم أن يتمنى إطفاء الجحيم والآخر يشفع لأهل قرنه، وثالث لمن دخل مدرسته، ورابع إلى من صلى عليه ولو كان جمادا ([6]) ولا نعفي أنفسنا في الختام بمسك من نوع آخر في حادثة قديما بجهتنا الحضرمية تبحث شفاعة الأولياء للعصاة وقد امتدت هذه الشفاعة ـ حين صلى رجل من عامة الناس على أحد الأولياء ـ لتبلغ اللحم الذي اشتراه لأهله، وكان بمعيته في الصلاة، وبعد انصرافه من الصلاة عاد لأهله باللحم فلم تؤثر النار فيه أبدا، فتذكر أن اللحم شهد الصلاة معه ودخل في الشفاعة !! واستقر عندي قديما أنها لأحد شيوخ هذه الجهة حتى تخيلت مكان ذلكم الرجل الذي وقف في الجبانة، وإذا بها من حكايات الطبقات مع تعديل طفيف حيث أبدل السمك باللحم في روايتنا ربما لأن منطقتنا ليست حاضرة البحر وليس ثم سمك طري، نعم قد نحمل قولهم في اللحم على الحقيقة الشرعية الواردة في قوله (لحما طريا) فلا يكون هناك اختلاف في الروايتين، ولكن يشكل عليه ما أفاده بعض الفقهاء بأن من حلف أن لا يأكل لحما لا يحنث بأكله السمك حملا على الحقيقة العرفية والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر فتح الباري (13/ 344 ـ 348) وقد ذكر أن نفر الجنيد منه فقال (التوحيد إفراد القديم عن المحدث) ثم تكلم عن المحو والفناء عن أكابرهم وأنه جر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة ثم غلا بعضهم فعذر الكفار ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود وعظم الخطب حتى ساء ظن كثير من أهل العلم بمتقدميهم وحاشاهم من ذلك وقد قدمت كلام شيخ الطائفة الجنيد وهو في غاية الحسن والإيجاز وقد رد عليه بعض من قال بالوحدة المطلقة فقال: (وهل من غير)، ولهم في ذلك كلام طويل ينبو عنه سمع من كان على فطرة الإسلام والله المستعان.
([2]) إحياء علوم الدين (4/ 245 ـ 246) وقد استطرد الغزالي في ذكر المثال فقال إن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد.. فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار من الاعتبارات واحد وباعتبار آخر سواه كثير.. وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم، وتارة تطرأ كالبرق الخاطف وهو الأكثر والدوام نادر.
([3]) الطبقات الكبرى (ص 76 ـ 282ـ 294ـ 324 ـ 437 ـ 471).
([4]) نفسه (ص 256 ـ 279 ـ 293 ـ 484 ـ 488) وتشبّه الأسرار بالعورة عند أبي المواهب، والعورة حرم كشفها والنظر إليها والتحدث بها، ولذا من كشف عورته لنا فليتحمل عقوبة ذلك أو بتعبير داود بن ما خلا: من أبدى من أسرار الله تعالى ما لا يليق إبداؤه وأفشى من العلم المكنون ما لا يناسب إفشاؤه عوقب بسوء الظن فيه أو بما هو فوق ذلك من العقوبات، وهو الذي نقل عنه قوله:
لو زال منك أنا لاح لك من أنا!.
([5]) نفسه (518 ـ 533 ـ 559).
([6]) لو رجع المرء إلى تائية ابن الفارض لتجسدت له هذه القضية ومنها قوله:
فلا حــي إلا عن حياتي حياته وطوع مرادي كل نفس مريدة
وأسمع أصوات الدعاة وسائر اللغات دون مقدار لمحة
وأتلو علوم العالمين بلفظة وأجلو علوم العالمين بلحظة
وأستعرض الآفاق عني بخطوة وأخترق السبع السموات بخطوة
ومني لو قامت بميت لطيفة لردت إليه نفسه وأعيدت
وفي ساعة أو دون ذلك من تلا بمجموعه جمعي تلا ألف ختمة
محتوى الحلقة كاملاً
العدد الأول
الافتتاحية
بين عرفة وحميثرة صورتان متضادتان
الشيخ: محمد الغزالي
حول مقال بين عرفة وحميثرة .. صورتان متضادتان
هل خلق النبي صلى الله عليه وسلم من نور؟؟
الطريقة الفاسية
حمزة فنصوري
أيوب السختياني
كنت شيخاً مجازاً على سجادة النقشبندية
من مواعظ الحسن البصري رحمه الله
حوار مع الشيخ أحمد المعلم حول التصوف
بوابة الشر
التوحيد عند الصوفية
متابعات: السفراء الغربيون على خطى نابليون
متابعات: تقديس الأشخاص في الطريق الصوفي
متابعات: هكذا بفضل الله يكون التجديد