(الرد على مصطفى أمين)للعلامة ابن باز رحمه الله
نقلاً من موقع العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله
نقلاً من موقع العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وبعد:
اطلعت على ما نشرته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 24/6/1380هـ بعنوان "آثار المدينة المنورة" بقلم الأخ مصطفى أمين
فلما تأملت المقال المشار إليه وجدته قد اشتمل على أخطاء كثيرة يجب التنبيه عليها؛ لئلا يغتر بها بعض القراء.
والمقتضي لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))
وإليك أيها القارئ الأخطاء والحجة على إنكارها:
أولا: قوله في المدينة: هذه المدينة المقدسة بها آثار كثيرة تستحق الذكرى، ونحن العرب لم نهتم بهذه الآثار بينما نشاهد معالم باريس، ولندن بها من الآثار ما يجعل شعوبها تخلد هذه الذكرى فما بالنا نحن المسلمين العرب لا نهتم بآثار العصور الماضية، إلى قوله وإنما يدعو الإسلام.. إلخ.
يدعونا الكاتب في هذه الكلمة إلى التشبه بباريس ولندن في تعظيم الآثار، وتخليد ذكراها بالأبنية وأشباهها، وهذا غريب، وعجيب أن يدعو مسلم إلى التشبه بأعداء الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تشبه بقوم فهو منهم))
أيها القارئ إن تعظيم الآثار لا يكون بالأبنية ، والكتابات والتأسي بالكفرة، وإنما تعظيم الآثار يكون باتباع أهلها في أعمالهم المجيدة، وأخلاقهم الحميدة، وجهادهم الصالح قولاً وعملاً، ودعوةً وصبراً،
هكذا كان السلف الصالح يعظمون آثار سلفهم الصالحين، وأما تعظيم الآثار بالأبنية والزخارف والكتابة ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح، وإنما ذلك سنة اليهود والنصارى ومن تشبه بهم،
وهو من أعظم وسائل الشرك، وعبادة الأنبياء والأولياء كما يشهد به الواقع، وتدل عليه الأحاديث والآثار المعلومة في كتب السنة فتنبه
واحذر. نعم، ينبغي للمسلمين أن يستعدوا لأعدائهم في إيجاد المصانع النافعة للمجتمع، واختراع الأسلحة المناسبة للعصر، لا تأسيا بالكفرة، ولكن طاعة لله ولرسوله، وتأسيا بالسلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم،
والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}[1] وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[2] وقول النبي : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن)) الحديث. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة،
وكلها تدل على أنه يجب على المسلمين أن يوجدوا بينهم من المصانع والأسلحة وأسباب العيش والحياة الكريمة ما يقوم بكفايتهم ويغنيهم عن الحاجة إلى غيرهم، ويعينهم على جهاد أعدائهم وحماية مصالحهم، والنصر لدينهم، واسترجاع أمجادهم السالفة، ومن عدوان من أرادهم أو أراد دينهم بسوء، هذا يا مصطفى أمين هو تعظيم الآثار لا ما أشرت إليه من الأبنية
ونحوها والله المستعان.
ثانيا: يقول الكاتب مصطفى: والمعرفة لا تجعل التقوى في الضعف ولا في الخوف بل في العلم بسنة الكون والوقوف على أسراره، والاتصال بما دق وجل منه. إلخ،
نعم لا ينبغي أن تجعل التقوى في الضعف والخوف والتأخر عن ميادين الإصلاح والنفع الخاص والعام، والنظر في سنن الكون والتبصر في حكمة الرب سبحانه فيما خلق وشرع بل يجب أن يكون أهل التقوى هم أشجع الناس على كل خير، وأكملهم عناية بكل إصلاح؛ لأن تقواهم لله سبحانه تقتضي منهم ذلك، ولكن كلام الكاتب يوهم أن التقوى تنحصر في العلم بسنة الكون، والوقوف على أسراره، والتأسي بمن بلغ في هذا الباب أقصى ما يمكنه من العناية، وليس الأمر كذلك،
وإنما العلم بسنة الكون، والعناية بأسراره من التقوى، لا أنه كل التقوى؛ لأن التقوى عند علماء الشرع: فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، عن إيمان وصدق وإخلاص ومحبة ورغبة ورهبة، ومن ذلك العناية بالمصالح العامة وإيجاد المصانع النافعة، والتأسي بمن سبقنا في هذا الميدان من السلف الصالحين، والأئمة المتقين
، ولا حرج علينا في أن نأخذ مما وقف عليه غيرنا من أسرار الكون واكتشف من العلوم النافعة الدنيوية التي لا تخالف الشرع المطهر، وإنما تعين على حمايته من كيد أعدائه وتغني أهله عن الحاجة إلى الغير
بل يجب ذلك ويتعين على أهل الإسلام لا تأسياً بالكفار بل لأن دينهم الكامل يأمرهم بالحرص على ما ينفعهم، والحذر عن كل ما يضرهم كما تقدمت الأدلة على ذلك،
وهؤلاء الكفار الذين بلغوا في الاختراع الغاية لم يزدهم ما وصلوا إليه من العلم إلا كفرا وإلحادا وهبوطا من الأخلاق الفاضلة، وابتعادا عن الأخلاق الكريمة،
فلا ينبغي أن يغتر بعلمهم، ولا أن يقلدوا في أخلاقهم وأزيائهم المخالفة لشرع الله وإنما يؤخذ من علومهم ما ينفع وتدعو الحاجة إليه مع التقيد بتعاليم الشريعة والاستقامة على صراط الله المستقيم، والحذر من كل ما خالف ذلك
، فتنبه أيها القارئ الكريم لهذا المقام العظيم تنج من ضلالات كثيرة وشبهات متنوعة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثالثا: يقول الكاتب مصطفى: فمن الواجب على الذين يزورون قبر سيد الشهداء أن يلتمسوا فيه هذه الأسوة، وأن يعلموا أن الله يجزيهم بجهادهم لبلوغ الغاية منها ولا يجزيهم لمجرد الزيارة، والتبرك، والدعاء. إلى أن قال: وأسوة حمزة رضي الله عنه هي الجهاد في سبيل الله له المثل الأعلى.. إلخ.
أقول: إن هذا الكلام فيه حق وباطل، فأما الحق فهو تشجيع زوار قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وغيره من المؤمنين على تذكر أعمالهم المجيدة التي قاموا بها حين كانوا في قيد الحياة من الجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه، والعناية بالمصالح العامة، والتأسي بهم في ذلك،
وهذا حق ينبغي لكل مسلم أن يتذكره كثيرا، وأن يتأسى بأهله في سائر أطوار حياته حتى يعمل كأعمالهم، ويسير كسيرتهم حسب الطاقة.[3]
وقوله: إن الله لا يجزي الزائر لمجرد الزيارة والتبرك والدعاء.
وهذا بلا شك خطأ ظاهر ومخالف للأحاديث الصحيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) وفي بعضها وتزهد في الدنيا.
فالنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب تدل على أن مقصود الزيارة تذكر الآخرة، والزهد في الدنيا، والدعاء لأهل القبور من المسلمين بالعافية والمغفرة.
والكاتب المذكور قد أعرض عن هذا ولم يرفع به رأسا. وشجع على أمر آخر يؤخذ من نصوص أخرى، ولو جمع بين الأمرين لما فاته الصواب،
وأما قصد الزائر للقبور التبرك بها، فليس ذلك من دين الإسلام بل هو من أعمال أهل الجاهلية، ومن أخلاق عباد الأوثان،
فيجب الحذر منه، ونهي الزوار عنه. وقد ثبت في صحيح مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية
وفي جامع الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة ((فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر))
فهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور وبيان المقصد منها
، وأما التبرك بها والبناء عليها والكتابة عليها وقصدها للدعاء عندها فليس ذلك من سنته
بل هو من سنة اليهود والنصارى وأهل الجاهلية، نسأل الله لنا وللمسلمين جميعا العافية من ذلك.
رابعا: يقول الكاتب مصطفى في أثناء كلامه: واتخذت بعض الأمم الإسلامية ملوكها أرباباً، وجعلت من بعض الصالحين فيها أولياء اتخذتهم إلى الله زلفى، ولهؤلاء وأولئك بنت القباب، وأقامت عليها المساجد لا تقصد تخليد ذكراهم ليكون للذكرى في الأجيال أسوة ومثلا، بل تقصد أن تكون القباب والمساجد محاريب لعبادتهم، والتوسل إلى الله، ولو أنهم أقاموا القبة أو المسجد للأسوة، وللذكرى لكان ذلك خيرا.. إلخ.