مناظرات ابن تيمية للأحمدية الرفاعية البطائحية
أ. د. عبد العزيز آل عبد اللطيف
جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة (705هـ)، وقد بسط شيخ الإسلام وقائع المناظرة في رسالة مفردة([1])، ونظراً لطولها فسنورد أهم أحداثها كما يلي:
يقول شيخ الإسلام -في مقدمة تلك المناظرة-: "فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة، بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه.. ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وظهور زيف من خرج عن ذلك"([2]).
- "وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بيّنت فيها لمن خاطبته منهم، ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق.. وإن عامة ذلك من حيل معروفة، وأسباب مصنوعة.. ولما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك"([3]).
- "فلما نهيتهم عن ذلك، أظهروا الموافقة، ومضت على ذلك مدة، والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين.. وحضر عندنا منهم شخص فنـزعنا الغل من عنقه، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، مظهرين الضجيج والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، وإبراز ما يدعون من الحال والمحال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، ثم دخل عليه شيخهم، وأظهر الشكوى عليّ، فأرسل إلىّ الأمير يريد كشف أمرهم..، فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال المبتدعين"([4]).
"فانتدب شيخهم وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها.
فقلت له: الباطن والظاهر مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء..
فقال: نحن لنا أحوال خارقة - كالنار وغيرها -.
فقلت: أنا أخاطب كل أحمدي أي شيء فعلوه في النار، فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء..
فأخذ شيخهم يدّعي القدرة على ذلك، ويظهر التحايل.. فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغيّر و ذلّ.
ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار، وخرجتم منها سالمين، لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع.
ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلتُ ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهو لا يجيبون.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم، طلبت منهم متابعة الكتاب والسنة وأن يلتزموا هذا التـزاماً عاماً، ومن خرج عنه ضربت عنقه"([5]).
- "فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت لشيخهم: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يَرِد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم.. فقال: ما في السموات والأرض حركة إلا بمشيئة الله تعالى، فقلت له: هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله.." ([6]).
- "فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق، فقال شيخهم: لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني الأحمدية - فقلت: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله..
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - حتى قيل فيهم، لا تقولوا: أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا: أكذب من الأحمدية على شيخهم -.
ولما رددتُ عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله"([7]).
ونورد بعد هذا العرض المختصر الأمور التالية:
1 – مما كان يقرره شيخ الإسلام: وجوب العدل مطلقاً، فكان يقول: "أوجب الله العدل لكل أحد، على كل أحد، في كل حال"([8]).
ويتجلى من هذه المناظرات ما تحلّى به شيخ الإسلام من العدل والإنصاف في جميع الأحوال، فمع خصومته للأحمدية، لما تلبّسوا به من بدع شنيعة، وأحوال شيطانية، إلا أنه أنصفهم فأثبت ما لبعضهم من التعبد والزهد ولين الجانب([9]).
وخاطب الأحمدية قائلاً: فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بياض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض"([10]).
وما أروع مقالة بعض العلماء - عن ابن تيمية -: "وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه"([11]).
2- نلحظ في ثنايا هذه المناظرة ما أصاب شيخ الإسلام من المحن والابتلاء، فالأحمدية قد أجلبوا عليه بأحوالهم وخوارقهم، وحرّضوا الأمراء عليه، والكثير من الصوفية والفقهاء مع أولئك الأحمدية، بل إن بعضهم طعن في شيخ الإسلام لأجل رده على الأحمدية، فانتصر له العلامة أحمد بن إبراهيم الواسطي([12]) قائلاً: "أما ردّه على الطائفة الفلانية([13]) أيها المُفرِط التائه، الذي لا يدري ما يقول، أفيقوم دين محمد بن عبدالله الذي أنزل من السماء، إلا بالطعن على هؤلاء؟([14]) وكيف يظهر الحق إن لم يُخذل الباطل؟ لا يقول هذا إلا تائه، أو حاسد"([15]).
3- تبدو شجاعة ابن تيمية ظاهرة جلية، فقد كان قوي القلب ثابت الفؤاد، فلم تفزعه تلك الأحوال والمخاريق، فتحدى الأحمدية، وعارضهم في مستهل المناظرة، وقال: " أنا معارض لكم مانع لكم ؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبو صاغرين"([16]).
وصاح بهم في آخرها – قائلاً: "يا شبه الرافضة يا بيت الكذب.. أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون" ([17]).
ولقد اعترف خصومه بشجاعته، فقالوا عنه: "هذا رجل محجاج خصِم، وما له قلوب يفزع من الملوك، وقد اجتمع بقازان ملك التتر وكبار دولته، وما خافهم"([18]).
وكثيراً ما يقرر شيخ الإسلام أن صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم([19])، وكان يقول أيضاً: " فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك "([20]).
4- أكّد ابن تيمية - في غير موضع - على أصل الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذّر من البدع والمحدثات، ومن ذلك: تطويق أغلال الحديد في أعناقهم على سبيل التعبد، فلا يصح التقرّب بذلك إلى الله تعالى؛ لأن العبادة بما لم يشرعه ضلالة([21]).
يقول شيخ الإسلام في هذا الشأن: "فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به"([22]).
كما قرر – في ثنايا المناظرة – أن البدعة شرّ من المعصية، وساق أدلته على ذلك([23]).
5- طلب الأحمدية من شيخ الإسلام أن يسلّم إليهم حالهم، فلا يعارضهم ولا ينكر عليهم([24])، فامتنع عن ذلك، وأمرهم باتباع الشريعة، وأما مسألة فلان يسلّم إليه حاله، أو لا يسلّم إليه حاله، فمن المسائل التي تنازع الناس فيها بين إفراط وتفريط.
وقد حقق شيخ الإسلام هذه المسألة في أحد أجوبته، وبيّن أن قولهم: يسلّم له حاله، له معنى سائغ إذا أريد به رفع اللوم عن صاحب الحال، فلا يؤثّم ولا يعاقب، وإن أريد بتسليم حاله أن يكون صنيعه صواباً أو صحيحاً، فلا يجوز، ولا يسلّم حاله بهذا المعنى([25]).
6 – تميّز شيخ الإسلام بالثقة بالله تعالى وحسن الظن به عز وجل، كما هو بيّن في مناظراته وتقريراته، فإن الأحمدية لما اجتمعوا تجمع الأحزاب، وتكالبوا تكالب الأعداء، وأظهروا خوارقهم، وطالبوا بحضور ابن تيمية، قال حينئذ: "فلما علمت ذلك، ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين"([26]).
وقرر هذا المعنى في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله: " ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات، أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة "([27]).
7- لما أبطل شيخ الإسلام أحوالهم، وبيّن مخالفتهم الشرع المنـزّل، احتجوا بالقدر قائلين: "ما في السموات والأرض حركة إلا بمشيئته"، فأجابهم بقوله: "هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زيّنه الشيطان وسخطه الرحمن"([28]).
وقد ساق شيخ الإسلام جواباً آخر على المحتجين بالقدر في فعل المصائب، كما جاء في مناظرته التي حكاها ابن القيم بقوله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – يقول: لمتُ بعض الإباحية، فقال لي: المحبة نار في القلب، تحرق ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراده فأي شيء أبغض فيه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالاً وأقوالاً، وأقواماً، وعاداهم فطردهم ولعنهم، فأحببتهم، تكون موالياً للمحبوب أو معادياً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً، وافتضح بين أصحابه، وكان مقدماً فيهم مشاراً إليه"([29]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) كما في مجموع الفتاوى 11/ 445 – 475، كما حكى ابن عبد الهادي وابن كثير هذه المناظرة. انظر: العقود الدرية ص 131، والبداية والنهاية 14/36.
([2]) مجموع الفتاوى 11/ 446، 446 = باختصار.
([3]) مجموع الفتاوى 11/447 = باختصار.
([4]) مجموع الفتاوى 11/452-454 = باختصار.
([5]) مجموع الفتاوى 11/464-468 = باختصار.
([6]) مجموع فتاوى 11/470 = باختصار.
([7]) مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار.
([8]) الرد على المنطقيين ص 425، وانظر: جامع المسائل 5/166.
([9]) انظر: مجموع الفتاوى 11/446.
([10]) مجموع الفتاوى 11/448.
([11]) مدارج السالكين 2/345.
([12]) وهو المعروف بابن شيخ الحزّامين،كان شافعي المذهب صوفي المسلك، فلما قدم الشام تتلمذ على يد ابن تيمية فانتقل إلى مذهب أحمد وترك التصوف، له مؤلفات، توفي سنة 711هـ. انظر: الدرر الكامنة 1/91، وشذرات الذهب 6/24.
([13]) يعني: الأحمدية، كما صرّح بذلك في كلام سابق، انظر الجامع لسيرة ابن تيمية ص 75.
([14]) كان العلامة الواسطي عارفاً بهم، فقد كان أبوه شيخ الأحمدية، ونشأ بينهم. انظر: شذرات الذهب 6/ 24.
([15]) الجامع لسيرة ابن تيمية ص 76.
([16]) مجموع الفتاوى 11/ 448.
([17]) مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار.
([18]) الجامع لسيرة ابن تيمية ص 92.
([19]) انظر: الاستقامة 2/ 269.
([20]) مجموع الفتاوى 28/291.
([21]) انظر: مجموع الفتاوى 11/450.
([22]) مجموع الفتاوى 11/ 451 = باختصار.
([23]) انظر: مجموع الفتاوى 11/ 472.
([24]) انظر: مجموع الفتاوى 11/ 454، 465.
([25]) انظر: مجموع الفتاوى 10/ 378 – 386.
([26]) مجموع الفتاوى 11/ 454.
([27]) الجواب الصحيح 1/ 13، 14 = باختصار، وانظر: مجموع الفتاوى 28/ 57 - 59.
([28]) مجموع الفتاوى 11/ 470.
([29]) مدارج السالكين 3/14، وانظر: مجموع الفتاوى 10/ 210، وطريق الهجرتين ص:303.
نقلا عن
موقع شيخ الإسلام ابن تيمية
http://www.ibntaimiah.com/index.php?pg=munath&ban=7
موقع شيخ الإسلام ابن تيمية
http://www.ibntaimiah.com/index.php?pg=munath&ban=7