أدب السّؤال
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث هي عنوان السعادة، من وُفّق إليها فقد أوتي خيرا كثيرا؛ من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن: أدب السّؤال. والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس.
وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء؛ لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها؛ لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أنْ يكون السؤال فيه اعتداء؛ يعني من الله جل وعلا أن يكون السؤال فيه اعتداء، أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة.
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم، والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم، وعمّا يُسألون، وكيف يكون السؤال، وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم في ”أدب العلم والتعلم“ وفي ”أدب الطالب مع شيخه“ وفي ”حقوق أهل العلم بعامة“ والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾[التوبة:71]، قال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويُقيل عثرة بعض، ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الوَلاية والمحبة والنُّصرة أهل العلم؛ لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18]، فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11] فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا رفعهم درجات، ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات، فهم الخاصة وهم الصفوة؛ لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم؛ لأنّ النور بالعلم، والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ﴾[المائدة:15]، من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم، يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه، أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل في بيته أو في عمله أو نحو ذلك، ويسأل المتعلمُ المعلمَ، لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم، فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهلَ العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها.
وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» قال: أهل العلم قوله (كثرة مسائلهم) يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المُنَزَّل، ولهذا جاء في الصحيح أنّ النبي قال «إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته»، وقد قال جلّ وعلا ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾[المائدة:101]، والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلها في القرآن. قد قال جلّ وعلا ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ﴾[البقرة:222]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾[البقرة:186]، إلى آخر هذه المسائل، مجموع ما سأل أصحاب رسول الله الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن، وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن خارج المدينة حتى يسأل النبي فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب، وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: «إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثُّمالي أن رسول الله قال: «إياكم وكثرة السؤال» فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه، والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأنْ يسألوا إذا جهِلوا، وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا، وقالوا: إن الرسول يجب أن يكون ملكا. قال سبحانه وتعالى في سورة النحل ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَ اتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:43-44]، هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر؛ يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ فإذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل، وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر؛ لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر، وأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَ اتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة؛ لأنهم أحق ببيان ما نزل الله جلّ وعلا، ولهذا قال (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية: وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأنّ أعلى أنواع العلم؛ العلم بكتاب الله المنزّل، فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث، وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسؤالهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة.
إذن الأصل موجود في كتاب الله وأنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم، وإذا سأل عنه أهل العلم -أهل الكتاب والسنـة الذين رسـخت قدمـهم في ذلـك- فإنّ تبعته في ذلك تزول؛ لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل، فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتي من ثبت، فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة، فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور؛ لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾( ).
سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال، الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد، ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال:
حالٌ من جهة السائل.
وحالٌ من جهة المسؤول.
فالسائل ينبغي له أن يراعي -تأدبا وحتى يصل المسؤول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله- يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها:
من تلك الأشياء التي يجب أن يراعيها السائل أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة –يعني أن يتبيّن المسألة قبل أن يسأل- والملاحظ أنّ من المسلمين مَنْ إذا جاء على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة، أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة، فإذا استوضح المسؤول أتى العالمَ وسأله عن بعض التفاصيل قال: والله ما أعرف هذا فلان أوصاني، هذا كذا، لا أدري.
فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل؛ لأنّ السؤال تسأل فيه عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركته؛ يعني أدركت الحكم فقد برئت من التبعة، والمسؤول - العالم الذي يسأل - لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيء ليس بواضح.
ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة، لا تظنّ أنّ المسؤول، المفتي، طالب العلم الذي تأهّل للجواب لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين، اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف في السنة مثلا، وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين، فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي، ضيق وقت المجيب على السؤال، فعليه أنْ يُعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لَبْس فيها ولا غموض، ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته، وحتى تكون المسألة أنفع؛ يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك، بل اعتقد أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت، فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة، وتقبّل الجواب بحسب ما أورد، فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا، ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل عليه السلام للنبي دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب، قال جبريل عليه السلام للنبي : «أخبرني عن الإسلام» سؤال ملخص وواضح، «أخبرني عن الإيمان»، «أخبرني عن الإحسان؟» وعن أشراط الساعة قال«وما أمارتها» ونحو ذلك، فوضوح السؤال وقلة ألفاظه باستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها، وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة؛ لأنّ السائل لم يحسن السؤال، فلو أحسن السائل الاستعداد للسؤال فسأل لكانت الإجابة واضحة.
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للخيرات وجنبنا سبل المنكرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جلّ وعلا أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث هي عنوان السعادة، من وُفّق إليها فقد أوتي خيرا كثيرا؛ من إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، ومن حيزت له هذه الثلاث فقد حيز له خير الدّنيا والآخرة، أسأل الله جلّ وعلا أن يجعلنا وإيّاكم من أهلها.
هذه الكلمة موضوعها عن: أدب السّؤال. والسؤال هذا المقصود به سؤال أهل العلم أو سؤال المعلّمين عمّا يحتاجه الناس.
وإلاّ فإنّ عموم لفظها يشمل سؤال الرّب جلّ وعلا بالدعاء؛ لأنّ سؤال الله جلّ وعلا له أدب وله أحكام ينبغي للعبد أن يحيط بها وأن يكون مراعيا لها؛ لأنّ كثيرا من أسباب ردّ إجابة السؤال أنْ يكون السؤال فيه اعتداء؛ يعني من الله جل وعلا أن يكون السؤال فيه اعتداء، أو يكون السؤال على غير المشروع أو أن يكون السائل لم يحسن المسألة فقد قال عمر رضي الله عنه في سؤال الله جلّ وعلا: إني لا أحمل همّ الإجابة ولكن أحمل همّ الدعاء فإذا وفقت إلى الدعاء جاءت الإجابة.
موضوعنا عن أدب السّؤال الذي هو سؤال أهل العلم، والحاجة ماسّة إلى معرفة آداب سؤال أهل العلم، ما طريقة سؤالهم، وعمّا يُسألون، وكيف يكون السؤال، وكيف تتلقى الإجابة؟ وما ينبغي للمسلم من توقير أهل العلم وعدم الإلحاح عليهم بالمسائل ونحو ذلك من الآداب.
وأهل العلم فيما مضى قد دونوا كثيرا من هذه الآداب في مصنفاتهم في ”أدب العلم والتعلم“ وفي ”أدب الطالب مع شيخه“ وفي ”حقوق أهل العلم بعامة“ والله جلّ وعلا قال في محكم كتابه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾[التوبة:71]، قال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) يعني بعضهم يحبّ بعضا وينصر بعضا ويُقيل عثرة بعض، ومن أكثر أهل الإيمان حقا في الوَلاية والمحبة والنُّصرة أهل العلم؛ لأنهم لما شهد الله جلّ وعلا لهم به هم أخصب أهل الإيمان لأنّ الله قرنهم بنفسه وملائكته بالشهادة له بالتوحيد حيث قال جلّ وعلا ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمران:18]، فأولوا العلم من الناس هم الصفوة كما قال أيضا سبحانه ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[المجادلة:11] فالله جلّ وعلا رفع المؤمنين على الناس جميعا رفعهم درجات، ورفع أهل العلم من المؤمنين على أهل الإيمان عموما درجات، فهم الخاصة وهم الصفوة؛ لأنّ معهم من فهم كلام الله جلّ وعلا وفهم سنّة رسول الله ما جعل قلوبهم أكثر نورا من قلوب غيرهم؛ لأنّ النور بالعلم، والنور إنما هو بفقه القرآن والسنة ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ﴾[المائدة:15]، من فقه القرآن وفقه السنة كان أعظم نورا في القلب وكان أعظم حقا لحقوق أهل الإيمان.
الملاحظ أنّ الحريص على الخير من الناس يسأل أهل العلم، يسألهم في مسائل فقهية فيما يواجهه، أو يسألهم في مسائل اجتماعية فيما يواجهه من مشاكل في بيته أو في عمله أو نحو ذلك، ويسأل المتعلمُ المعلمَ، لكن وجدنا كثيرا من الأسئلة قد خرجت عما ينبغي من مراعاته من توقير أهل العلم من مراعاتهم وعدم الإخلال بحقهم، فتجد أن من الناس من يخوض في سؤاله أهلَ العلم أمورا لا ينبغي أن يخوض فيها.
وأصل كثرة السؤال وكثرة المسائل قد جاء النهي عنها فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» قال: أهل العلم قوله (كثرة مسائلهم) يعني عما لم يقع وعما لم يأت بيانه في الكتاب المُنَزَّل، ولهذا جاء في الصحيح أنّ النبي قال «إنّ أشدّ المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين فحرّم عليهم لأجل مسألته»، وقد قال جلّ وعلا ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا﴾[المائدة:101]، والأحاديث التي جاءت في النهي عن كثرة السؤال متعددة وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض كلها في القرآن. قد قال جلّ وعلا ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ﴾[البقرة:222]، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾[البقرة:186]، إلى آخر هذه المسائل، مجموع ما سأل أصحاب رسول الله الذين هم منه مقربون إنما هي ثلاث عشرة مسألة وكلها في القرآن، وقد كان الصحابة من توقيرهم للنبي ومن كراهتهم لكثرة المسائل يحبون أن يأتي الرجل من البادية ومن خارج المدينة حتى يسأل النبي فيستفيدوا من السؤال ومن الجواب، وقد جاء أيضا في الحديث الصحيح: «إنّ الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» وقد قال أيضا الحجاج بن عامر الثُّمالي أن رسول الله قال: «إياكم وكثرة السؤال» فالأحاديث دالة على أن كثرة الأسئلة لأهل العلم إنما ذلك داخل في المكروه إلا ما يحتاج إليه العبد فيما يأتي بضوابطه، والله جلّ وعلا أمر المؤمنين بأنْ يسألوا إذا جهِلوا، وقد قال سبحانه وتعالى لما أنكر كفار قريش أن يكون الرسول بشرا رجلا، وقالوا: إن الرسول يجب أن يكون ملكا. قال سبحانه وتعالى في سورة النحل ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَ اتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:43-44]، هذه الآية أمر الله جلّ وعلا فيها أهل الشرك كفار قريش وغيرهم أن يسألوا أهل الذكر؛ يعني أهل الكتاب عما إذا كان الرسول الذي جاءهم بشر أم هو ملك؟ فإذا كان الرّسول الذي جاءهم بشرا فاقبلوا رسالة محمد لأنّه بشر قد خلت من قبله الرّسل، وقد وصف أهل الكتاب بأنهم أهل الذّكر؛ لأن الكتاب الذي أنزله الله جلّ وعلا هو الذكر، وأعلى الذكر القرآن كما قال سبحانه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، وهنا في هذه الآية قال جلّ وعلا (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)بِالْبَيِّنَ اتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال العلماء: هذه الآية نازلة في سؤال أهل الكتاب ولكنّ عموم لفظها يشمل سؤال أهل القرآن وأهل السنة؛ لأنهم أحق ببيان ما نزل الله جلّ وعلا، ولهذا قال (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره عند هذه الآية: وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأنّ أعلى أنواع العلم؛ العلم بكتاب الله المنزّل، فإنّ الله جلّ وعلا أمر من لم يعلم بالرّجوع إلى أهل العلم وأهل الذكر في جميع الحوادث، وفي ضمن ذلك تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر الله جلّ وعلا بسؤالهم وأنه بذلك يخرج الجاهل من التبعة.
إذن الأصل موجود في كتاب الله وأنّ المرء إذا جهل شيئا ولم يعلم حكمه فإنه يسأل عنه أهل العلم، وإذا سأل عنه أهل العلم -أهل الكتاب والسنـة الذين رسـخت قدمـهم في ذلـك- فإنّ تبعته في ذلك تزول؛ لأنه قد سأل مَنْ أمر الله جلّ وعلا أن يسأل، فمن جهل شيئا وسأل عن حكمه فأفتي من ثبت، فإنّ تبعته قد زالت وقد برىء من التبعة، فإذا امتثل ما أفتى به فيكون قد زال عنه المحذور؛ لأنّه امتثل ما أمر الله جلّ وعلا به في قوله ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾( ).
سؤال أهل العلم وسؤال أهل الذكر له أحوال، الناس يحتاجون إلى أن يسألوا ولابد، ولكن هذا السؤال من حيث هو له أحوال:
حالٌ من جهة السائل.
وحالٌ من جهة المسؤول.
فالسائل ينبغي له أن يراعي -تأدبا وحتى يصل المسؤول إلى الجواب الموافق للحقّ إن شاء الله- يجب على السائل أنْ يراعي آدابا وأن يراعي أشياء منها:
من تلك الأشياء التي يجب أن يراعيها السائل أن تكون مسألته واضحة غير ملتبسة –يعني أن يتبيّن المسألة قبل أن يسأل- والملاحظ أنّ من المسلمين مَنْ إذا جاء على باله مسألة أو واجهته مشكلة فإنه يأتي أهل العلم ويسألهم مباشرة دون أن يستحضر ويستعد لتفاصيل هذه المسألة، أو مباشرة يرفع الهاتف ويسأل العالم عما عرض له دون أن يستحضر ما اتّصل بهذه المسألة، فإذا استوضح المسؤول أتى العالمَ وسأله عن بعض التفاصيل قال: والله ما أعرف هذا فلان أوصاني، هذا كذا، لا أدري.
فلابدّ للسائل أن يستحضر تفاصيل المسألة قبل أن يسأل؛ لأنّ السؤال تسأل فيه عن حكم الله جلّ وعلا الذي إذا أدركته؛ يعني أدركت الحكم فقد برئت من التبعة، والمسؤول - العالم الذي يسأل - لابد أن تكون المسألة عنده واضحة وإلا فكيف يجيب على شيء ليس بواضح.
ولهذا ينبغي للسائل أوّلا أن يستحضر السؤال جيدا وأن يعدّ له في عبارة ملخصّة، لا تظنّ أنّ المسؤول، المفتي، طالب العلم الذي تأهّل للجواب لا تظنّ أن الذي يتصل عليه واحد فقط أو اثنين، اليوم مع الهاتف صار الذي يتصل من الداخل أو الخارج بأهل العلم عشرات الآلاف في السنة مثلا، وفي اليوم الواحد قد يتصل عشرين أو ثلاثين، فلهذا كان من الأدب الذي ينبغي مراعاته أن يستحضر السائل ضيق وقت المفتي، ضيق وقت المجيب على السؤال، فعليه أنْ يُعدّ السؤال بعبارة واضحة لا لَبْس فيها ولا غموض، ويجتهد في أن يعين المفتي على وقته، وحتى تكون المسألة أنفع؛ يعني لا تظن أن هذا الذي أجابك أو ردّ عليك بالهاتف من أهل العلم أنه لك وحدك، بل اعتقد أنّ الذي يسأل أهل العلم في اليوم عشرات الناس يسألون في كل وقت، فلابدّ من رعاية الحال والتأدبّ معهم في اختصار المسألة، وتقبّل الجواب بحسب ما أورد، فإذا كانت المسألة واضحة كان الجواب واضحا، ولهذا ترى أنّ أسئلة جبريل عليه السلام للنبي دليل على وضوح المسألة وما ينبني على وضوح المسألة من وضوح الجواب، قال جبريل عليه السلام للنبي : «أخبرني عن الإسلام» سؤال ملخص وواضح، «أخبرني عن الإيمان»، «أخبرني عن الإحسان؟» وعن أشراط الساعة قال«وما أمارتها» ونحو ذلك، فوضوح السؤال وقلة ألفاظه باستحضار تفاصيله ووضوح السؤال قبل أن تسأل هذا من الآداب التي ينبغي مراعاتها، وكثيرا ما تكون الإجابة غير واضحة؛ لأنّ السائل لم يحسن السؤال، فلو أحسن السائل الاستعداد للسؤال فسأل لكانت الإجابة واضحة.