كما أنّ العشبَ لا ينبُتُ في الصّخورِ الصمّ مهما سُقِي بماءِ المطر، فإنّ أذهانَ الطلاب لا تنتفعُ بمعارفِ المعلمِ مالم يُنَدِّها بابتسامةٍ حانية، ويُهيِّئْها بقصّةٍ شائقة؛ لأنّ أذهانَ التلاميذِ كالورود الرقيقة لا تفوحُ بالعطر إلا إذا حرّكها النسيمُ العليل، وأيقظَها سنا الشمس الدافئ...
تفنّنَ علماءُ التربيةِ من القدامى والمحدثين في ابتكارِ وصفةٍ تحملُ المتعلّمين على الانتباه، وتحفّزُهم على الانطلاق، وتفتّحُ عقولهم، فلم يجدوا أنجعَ من وصفة المحبّة...
يقولُ عالمُ الرياضياتِ الإنجليزيّ (برتراند راسل): "لن يصلَ أيُّ إنسانٍ إلى مرتبةِ المعلمِ الجيّد إلا إذا كانت لديه مشاعرُ الدفءِ والحبّ تجاهَ تلاميذه، وكانت لديه الرغبةُ الأصيلةُ لينقلَ لهم ما يؤمنُ هو نفسه بأنّه ذو قيمة"[1].
إذًا ما العواملُ التي تجعلُ المعلمَ محبوباً عند تلاميذه؟
أولاً: إظهارُ روحِ الدّعابة والمرح، فالابتسامة خيرُ رسالة، وأنجعُ لقاء بين المعلم وطلابه، وهذا من هَدي المصطفى -صلى الله عليه وسلّم- فقد قال -صلى الله عليه وسلّم-: "وتبسّمكَ في وجه أخيك صدقة"[2].
فالابتسامةُ تجعل الطالبَ يُقبل على المدرسة والدّرس برغبة وشوق فضلاً عن كونها تبدّد المخاوف من نفسه...
ثانياً: التشجيعُ على المواقف الحسنة والإجابات الصحيحة، وإذكاءُ روحِ التنافس بين الطلاب، وبذلك يوجّهُ اهتمامَهم إلى ما هو نافع، وذلك عن طريق المسابقات، وتكليفهم باستظهار الآيات من القرآن، والقصائد وعواصم الدول وغير ذلك. فالطلابُ طاقاتٌ كامنة تنتظرُ من يستثمرُها، وأذهانٌ هائمة تنتظرُ من يقودُها ويوجّهها.
"من أسمى فنون المعلم أن يوقظَ روح الحماسة لدى الطلبة للتعبير عن أفكارهم وآرائهم بطرق إبداعية"[3].
لقد أثبتت التجاربُ الميدانية التربويّة أنّ التشجيعَ في كلّ الأحوال ناجعٌ، ويؤثر تأثيرًا إيجابيًا على الطالب شريطةَ أن يكونَ في وقته، وبقدرِ الحاجة إليه، والأهمّ أن يكون متنوعاً، ومتقطعاً حتى لا يسأم الطالب.
"وكذلك ينبغي لكلّ معلم راشد أن يشيدَ بالمواقفِ الحسنة لتلاميذه، وينوّهَ بكلِّ من له موهبةٌ أو قدرة، وينمي فيه الطموح بالحق، والتفوق بالعدل، ولينبه الآخرين على فضلهم، فينافسوهم في الخير إن استطاعوا، أو يعترفوا لهم بالفضل إن عجزوا. وإن كلمة تقدير وتكريم من أستاذ له قدر في شأن أحد تلاميذه، قد تصنع منه- بتوفيق الله تعالى- نابغة من نوابغ العلم"[4].
ثالثاً: الاهتمام بشؤونهم وعوالمهم، فحريّ بالمعلم أن يسائلَ الطلاب عن المساجد التي يصلّون فيها، وعن المكتباتِ التي يشترون قصصَهم منها، وعن البرامج التلفزيونية النافعة التي يشاهدونها، وعن الأندية الرياضيّة التي يشجعونها، وإذا ما شعرَ الطلابُ باهتمام معلمهم باهتماماتهم فإنهم يمنحونه كلّ محبّتهم وتقديرهم ليصبحَ هو الأمَّ والأبَ والصديقَ والقائد.. ومن خلال ذلك يستطيعُ المعلمُ أن يستثمرَ هذه المحبّة فيما يعودُ على الأبناء بالخير والفائدة العلمية والأخلاقية... فيبثّ في نفوسهم حبَّ الإسلام، ويؤصِّلُ في قلوبهم القيمَ السامية والفضائل الراقية.. ويحبّبُهم في العلم..
رابعاً: محاورةُ الطلاب، فالحوار هو الفنُّ السّامي عند المعلمين، ونبضُ حسّهم الواعد، وأبجديّةُ أفكارهم الواعية، التي إنما تمتصُّ المعاني من نفوس الطلاب كما تمتصّ الزهورُ ذراتِ الهواء ثمّ تَبعثها من جديد أريجاً وعبقاً وسناً يُفتّق إبداعاتِ الطلاب، ويثيرُ ملكاتهم المعطاءة لتنتج عنها الآمال المنشودة والأماني الواعدة..
ومن أبرز فوائد الحوار بين المعلم والطالب:
- إقناعُ الطالب بحقيقة علميّة، أو معلومة ما.
- تعزيزُ ثقةِ الطالب بنفسه من خلال إيجادِ الفرصة المناسبة للتعبير عن أفكاره، والتخلّص من الخوف من مواجهة الآخرين.
- تنميةُ روابطِ الألفة والمحبّة مع المعلم.
- تنميةُ شخصية الطالب، وتعويدُه حلّ المشكلات بطرق جديدة.
- شدّ الانتباه والتّشويق.
- التّمييز بين الحقيقة، ووجهة النّظر.
- تعويدُ الطالب اختيار الكلمات المناسبة وردّ الحجة بالحجة.
- احترامُ رأي الطرف الآخر.
- إبعادُ الملل عن جوّ الفصل..
- مساعدةُ الطالب على التفاعل والتواصل مع حياته الاجتماعية بطريقة أفضل.
- ترسيخُ المعلومات.. لأنّ الحوار ذو طبيعة مؤثّرة ومحبّبة وجذّابة للطفل...
خامساً: التركيزُ على الجانب العمليّ، واستنتاجُ المعلومةِ من أفواه التلاميذ، فالطلاب يحبّون العمل، ويحبّون الاستكشافَ، ويسعَدون عندما يستنبطونَ حقيقةً علمية ما، وإنّ تركيزَ المعلم على الجانب التطبيقي ليفجّرُ الرغبةَ في نفوسهم، ويحفّزُ عقولَهم على التفكير، فإذا ما شرحَ المعلمُ درسَ أجزاء النبتة في الحديقة، أو أحضرها إلى الصفّ، وراحَ الطلاب يشاهدون الجذورَ والسّاق والأوراق، فلا شكّ أنّ فهمَهُم سيكون أكثرَ رسوخاً وثباتاً، وكذلك فإنّ بوسع معلم اللغة العربية أن يصطحبَ طلابه إلى الحديقة المجاورة ويجعل الطلاب يصِفون ما يشاهدونه، ومن الممكن أيضاً أن يُريَهم مادةً مصوّرة من خلال شاشات العرض التي باتت متوفّرة في معظم المدارس..
يقول جون لوك: "تدرّجوا في التدريس من السهل إلى الصعب، واعتمدوا على الأمثلة الحسية، ثم انتقلوا من المجردات، وتجنّبوا الشدّة، وركّزوا على المناقشة والمحاورة، ونوّعوا أساليب التدريس"[5].
ثمّ إنّ المعلمَ يستخدمُ الطريقةَ الاستنباطيةَ ومهارةَ طرحِ الأسئلة في تفتيحِ أذهانِ التلاميذ، لتلقّي المعلومة بعد تشوّق نفوسهم إليها، وتطلُّعِ عقولهم إلى معرفتها. ذكرَ الإمام البخاري في صحيحه باباً بعنوان "باب طرح الإمامِ المسألةَ على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم"، وأخرج فيه حديث عبد الله بن عمر أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- قال: "إنّ من الشّجرة شجرةً لا يسقط ورقُها، وإنّها مثل المسلم حدّثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: فوقعَ في نفسي أنّها النخلة. ثمّ قالوا: حدّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة"[6].
سادساً: مرافقتهم في رحلاتهم الترفيهيّة والعلميّة لتزدادَ معرفتهُ بهم، وكلّما تمكّن المعلم من فهم السمات الشخصية لطلابه ازدادَ تفاعلاً معهم، ومحبةً لهم، ومن ثم يُصبح كالطبيب الذي يسهُلُ عليه أمرُ وصفةِ الدواء الناجعة إذا ما اتّضحَ له تشخيصُ الحالة، ولا بأس من زيارة المعلم طلابه عند مرضهم أو مرض ذويهم... تصوّروا فرحة الطالب وهو يرى معلمَه يزورُه وهو على سرير المرض.. حقاً إنه موقف يمتلئ خلقاً ونبلاً وإنسانية.
"يُعد القلبُ الذكي المتعاطف كلَّ شيء في المدرس، ولا يمكن أحدًا أن يقدّره حقّ قدره، وإنّ المرء ينظر بكلّ التقدير للمعلمين الرائعين، ولكن ينظر بامتنان أكثر إلى أولئك الذي أثروا في مشاعرنا الإنسانية"[7].
سابعاً: التغاضي عن هفواتهم الصّغيرة، فمن صفات القائد الناجح التغاضي عن بعض تصرّفات مرؤوسيه.
المعلم الودود لا يحاسبُ طلابَه على كلّ صغيرة وكبيرة، ولكنّه يتركُ جزءًا لطفولتهم النامية وفتوّتهم الثائرة، فتارةً يتجاهلُ إزاء تصرّف غير لائقٍ من طالب، فيناديه في الفسحة، ويتكلّم معه بأخوّة واحترام، عندئذ سيتأثّر الطالبُ ويندمُ على ما فعل، ويبتعدُ عن كلّ تصرّف غير لائق بإذن الله..
ثامناً: بثّ الحياة في المنهج، وتحويل السّطور إلى زهور، والصفحات إلى نجمات..
ليست المناهجُ في نظرِ المعلمين البناةِ سوى دروعٍ واقية لنسيجِ الأمة المتين، ومناجم ذهب متدفّقة توفّر لهم الحياة الرّغيدة ولأبنائهم المستقبلَ الآمن الواعد، وبساتين عامرة بشتى صنوف الثّمر والزّهر تجلبُ لهم الصّفاء والنّقاء، وتحملُ نفوسهم على تأمل عظمة صُنع الخالق جلّ جلاله... والرغبة في الاستزادة من طلب العلم والمعارف.
"لا أحد ينكر أنّ المنهج الدراسي على قدر كبير من الأهمية كمادة خام، ولكنّ الدفء هو العنصر الحيوي للنباتات الآخذة في النمو، وكذلك روح الطفل"[8].
تاسعاً: الإكثارُ من قراءة القصص، وتعويدُهم الإلقاء وتمثيل الأدوار المسرحيّة.
للقصص أثرٌ كبير في شدّ انتباه الطلاب، فَيُنصِتون إلى المعلم بحماسة، ويستغرقون في أحداث القصّة، ويتغلغلون بين الحروف، حتى إنهم يجعلون من أنفسهم جزءاً من عالم القصّة، ويتمثّلون نهجَ الأشخاص الذين يحبّونهم في القصّة كشخصية البطل، والكريم، وذاك الذي يُساعد المرضى، والذي يطردُ الثعلب لينقذَ الأرانب، ذاك الذي يطفئُ الحريقَ لينجوَ الأطفالُ الصغار، ولكلّ مرحلة من المراحل الدراسيّة قصصٌ تناسبها.. فالمعلم الحاذقُ يجعلُ من القصةِ سلاحاً يُعينهُ على ضبط الفصل، وتأصيلِ القيم والمفاهيم الأصيلة في نفوسهم فيروي ظمأَهم من سيرِ الصحابة والتابعين بما يحمل نفوسهم على الاستقامة..
وتعويدُ الطلاب الإلقاء أمام الزملاء في الصف يعوّدُهم الجرأة القدرة على مواجهة الآخرين
"دخلَ المأمون مرّةً بيت الديوان، فرأى غلاماً صغيراً على أذنه قلم. فقال له: من أنت ؟ قال: أنا الناشئ في دولتك، والمتقلّبُ في نعمتك، والمؤمّل لخدمتك، أنا الحسن بن رجاء، فعجب المأمون من حُسن إجابته، وقال: بالإحسان في البديهة تفاضلت العقولُ، ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته"[9].
وللمسرح دورٌ كبير في شدّ انتباه الأطفال وفهم الموقف التعليمي، والمعلم اليَقظ يُكثر من استعماله في المناهج؛ لأنّ الموقف المسرحيّ المؤثّر قد يُكسِبُ الطالب خُلُقاً يتبنّاه طوال حياته ويَعكُفُ عليه... فقد يكلّف المعلم طالبين بالمناظرة واحدٌ منهما يمثّل دور الصّيف والآخر دور الشّتاء.. إلخ. المهم أن ّباب المسرح واسع.
"ومن خصائص المسرحيّة أنْ تُقدِّم القيم والمُثل، وتؤكّد النماذج الرياديّة والمثاليّة، والمثل الرفيعة والمواقف النبيلة، وأن تثير في المتلقي خيالَه العاقل الراشد،... وتشجيع المغامرات التي تستهدف الكشف عن الألغاز والحلول، والحقائق، وتدور حول شخصيات لديها القدرةُ على تحمّل الصعاب في سبيل الآخرين، مما يبعثُ في الطفل القدرةَ على التكيف الاجتماعي والبيئي"[10].
عاشراً: العدل بين الطلاب، فيشاركُ الجميع، ويعطي الفرصةَ للجميع، فلا يميّزُ بين طالب وآخر، ويشيعُ المحبةَ والألفةَ بينهم، ويشجعُهم على الإيثارِ والتعاون ونبذِ الأثرة.. فالطلابُ على مقاعد التعلّم تتملّكُهم حساسيةٌ مفرطةٌ تجاهَ المعلمين، فهم يحاسبونهم على الابتسامات والنظرات، وإذا أعطى المعلمُ الفرصةَ لطالب مرتين على التوالي للإجابة عن سؤال ما، ولم يُعط الآخر، ضاقَ صدرُه، وأسرعَ يبوحُ بخلجاتِ نفسه الرقيقة معاتباً إياه، وهذا حصل معي غير مرّة؛ إذ إنّني كنتُ -ذات يوم- أضعُ النجومَ الملوّنة على دفاتر طلابي المتميزين، وبعد أن انتهيت، تبعني طالبٌ مسرعاً، وقال: أرجوك يا أستاذ، أنا لا أحبّ النجومَ البيض، ضَع لي نجمةً صفراء مثل زملائي...
أخي المعلم، أختي المعلمة، إنّ المحبّةَ زهرةُ الحياة، وربيعُ الكون، فأشيعوا المحبّة بين طلابكم، وعاملوهم باحترام، واحتملوا عالمَهم الثائر كازدهار الربيع، عالمهم الثرّ "بما يسكنُ فيه من البراءة والصفاء، وبما يشتجرُ فيه من خصومات ومشاكسات ومن أهواء ورغبات، وكدر وصفاء يقترنان معاً على نحو عجيب وفي وقت واحد عاكسَيْن عفوية عالم التلاميذ وتلقائيته"[11].
وفي الختام أتمنى على زملائي المعلمين أن يهتمّوا بتشييد جسور المحبّة بينهم وبين طلابهم قبل أن يشرعوا في رَصف المعلومات والمعارف في أذهانهم، وأن يتحَلّوا بروح الدعاة والبُناة، لا بروح القُضاة، وأن يحوّلوا غرفة الصّف إلى خميلة غنّاء، لا إلى أرض جرداء.....
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] كتاب أفضل النصائح للمعلمين- تشارلز ماكجوير، ديانا أبيتز- ص: 117.
[2] صحيح ابن حبان، ج2 ص: 221.
[3] [ألبرت أنشتاين] كتاب أفضل النصائح للمعلمين- تشارلز ماكجوير، ديانا أبيتز- ص: 117.
[4] كتاب الرسول والعلم، د. يوسف القرضاوي ص: 131.
[5] موقع إنترنت.
[6] البخاري مع الفتح1/156، عن كتاب الرسول والعلم د. يوسف القرضاوي.
[7] [كارل يونج]..كتاب أفضل النصائح للمعلمين -تشارلز ماكجوير، ديانا أبيتز ص: 4.
[8] المرجع السابق.
[9] كتاب تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان ص: 235.
[10] أدب الطفل من منظور إسلامي، د. نجاح بنت أحمد عبد الكريم الظهار، ص: 260-261.
[11] انظر تقديم كتابنا: "يوميات مربّ" د. وليد قصّاب.
كيف تكونُ معلماً محبوباً؟ / لبدر الحسين
منقول
http://www.alukah.net/articles/3/1530.aspx?cid=57