إن الهدف الرئيس من المقال الأول "ركائز التغيير الذاتي" العلم بأن عملية التغيير الذاتي تستند على شيء يدعمها، وهو قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ...} [التوبة: 9]، لذا فإن العمل بتلك الركائز بتوازن فيما بينها بالإضافة إلى ثقة بالله تعالى ويقينًا بالإجابة يعد شرطًا أساسيًا لمقالنا هذا.
وحتى نرتقي في مواجهة أمورنا في الحياة وما تتطلبه من مرونة للتفاعل معها بصورة إيجابية، نحتاج إلى فهم مسارات التغيير التي يمر بها الإنسان سواء كان يعلم بها أم غير ذلك، وسوف أحاول جاهدًا تبيان ذلك.
إن عمليات التغيير المختلفة التي يمر بها الإنسان نادرًا ما تكون سهلة ويسيرة، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 9]، أي أن الإنسان يكابد أمور الدنيا والآخرة وتراه يعيش في تعب وشقاء، بالإضافة إلى أن ظروف التغيير وأحواله تكون في غالب الأحيان صعبة التوقع والتقدير.
من هذا المنطلق فإن العزم على التغيير يجعلنا بصورة أو بأخرى نمر بمراحل تغيير مختلفة، والسر في المواجهة هنا يرتكز على فهم الإنسان لهذه المراحل ومعرفة التعامل معها من خلال المعارف والمهارات والخبرات التي يتمتع بها، وبالطبع التوفيق من رب العزة والجلال.
سوف أستند في مقالي هذا على الشكل التالي، الذي هو من عمل الدكتورة سينثيا سكوت (Cynthia Scott)، مؤلفة كتاب إدارة التغيير الذاتي.
نرى في هذا الشكل أن الإنسان بصورة عامة خلال مرحلة التحول الذاتي (Personal Transition) أو كما يعرفها عامة الناس بالتغيير (Change) يمر بهذه المراحل الأربع التي تمثل المسارات التي يمر بها الإنسان خلال انتقاله من مرحلة في الحياة إلى أخرى جديدة، فنرى أن الإنسان هنا يتفاعل دائمًا ويركز، ولا يستطيع غير ذلك؛ إما مع البيئة المحيطة (Environment) أو مع نفسه (Self)، وشرح هذا التفاعل بالتفصيل ليس موضوعنا هنا، ولكن سوف أركز على هذه المراحل الأربعة التي يختلف كل منا في سرعة تجاوزها بسبب الفروق الفردية لكل إنسان، وبناءً على رؤيته للأمور وأهدافه التي ارتضاها لنفسه.
إن مرحلة الرفض (Denial):
هي من أهم المراحل التي يجب التعامل معها بصورة حذرة وواعية، إذ إن عمل إبليس هنا يكون كبيرًا؛ خصوصًا إذا ما علم بأن هذا الإنسان سوف يجعل منه هذا التحول أكثر قوةً مصداقًا لقول الرسول الكريم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ..." [ابن ماجه].
الإنسان هنا يجد صعوبة بالغة في التغيير، وهذا في رأيي الشخصي يعزى إلى أنه يستخدم نمط التفكير نفسه الذي جاء بهذه السيئات، وهذا النمط -كما أشرنا في المقال الأول- ينبع من القيم التي تحدد رؤية الإنسان.
فعلى سبيل المثال، عند بداية الدعوة لم يؤمن بعضُ الصحابة الكرام بما جاء به الرسول عليه السلام، بل كانوا يحاربون الله ورسوله، وهذا يعني بطبيعة الحال أنهم كانوا رافضين لهذا الدين العظيم، وأن نمط تفكيرهم في هذا المرحلة لا يحمل في طياته إلا أفكارًا تحارب هذه الرسالة وهذا الرسول، ولكن كما أسلفت لما تغيرت العقيدةُ ثم القيم تغير نمط التفكير لديهم فأصبح محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وهذا الدين منهجًا، وهذا دلالة كبيرة على علاقة العقيدة بالقيم وأنماط التفكير التي يستخدمها الإنسان استجابة للمواقف المختلفة في الحياة. لذا فإن سر التغيير هنا يستند على تغيير القيم التي تخالف العقيدة وفطرة الإنسان.
في مرحلة المقاومة (Resistance):
تصبح الأمور أكثر تعقيدًا في غالب الأوقات، وذلك لأن الإنسان لا يرغب بترك منطقته الآمنة (Comfort Zone) التي ألفها واعتادها، إلى منطقة أخرى مجهولة، لذا يزداد الضغط النفسي عليه هنا ليصبح في رأيي إما أداة محفزة للانتقال إلى مرحلة جديدة في الحياة أو مدعاة للثبات على الحياة القديمة، ويكون هذا خسارة فادحة لعدم استثمار فرص محتملة يرتقي بها الإنسان، وتجاهل إزاء نعم الله سبحانه وتعالى لقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما مؤشرات هذه الضغوط وكيف نعرفها؟
الإجابة هنا أترك بعضًا منها لدرو سكوت (Dru Scott) مؤلف كتاب الضغوط المحفزة.
- الشعور بالارتباك وبأن الأولويات غير واضحة.
- الشعور بأن الضغط النفسي أضحى قويًا ومحبطًا.
- الشعور بأن مرحلة التغيير طويلة، وبأن الحصول على النتائج المرجوة لا يبدو قريبًا.
- محادثة النفس تصبح أكثر سلبيةً مثل القول:
• لا أستطيع الاستمرار نحو هذا الانتقال الجديد (التغيير).
• لن تنتهي هذه المرحلة أبدًا.
• الأمر أكبر من طاقتي على التحمل.
• لا أستطيع تحمل هذه المشقة أكثر من ذلك.
وبسبب ذلك، يبدأ الإنسان هنا في البحث عن شخص ما؛ سواء كان من العائلة أو أحد الأصدقاء أو أي شيء معين ليلقي اللوم عليه، وعند ذلك تبدأ بعض العوارض بالظهور كما يلي:
- الجسم: مثل الصداع، التعب، آلام في البطن، وكل ذلك يؤدي إلى احتمالية كبيرة للمرض.
- الذهن: مثل التفكير السلبي، التشتت الذهني، ضعف الإنتاجية، النعاس، نسيان التفاصيل، النسيان كليًا.
- الشعور: مثل الخوف، الغضب، الإحباط، الانهزامية.
وما سبق ذكره نراه واضحًا في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 4]، أي أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس فإذا ذكر الله خنس، بمعنى أن الاستعانة بالله سبحانه في أثناء التغيير من الأمور الحتمية، وبخلاف ذلك سوف يسيطر الشيطان علينا ويجعلنا ندور في فلكه والعياذ بالله.
إن التعامل في هذه المرحلة مع تحدياتها البالغة، يحتاج في البداية إلى عاملين مهمين:
1- الاعتراف بالشعور الحالي وعدم التجاهل، والعزم على النظر إلى المستقبل والاستفادة من خبرات الماضي بدلاً من البكاء عليه.
ولا يفوتني هنا أن أشدد على حرية الإنسان في تحديد خياراته، إذ إننا نحن من يصف تجربة معينة بأنها كانت مصيبة أو تحديًا، مشكلة أو فرصة. قد يقول قائل بأن الكلام سهل والتنفيذ صعب، ونرد على ذلك بالقول: ومن قال غير ذلك؟ فنحن نتفق مع هذا القول الذي لو لم يكن صحيحًا لما كانت الجنة جائزة لمن تعب واجتهد.
2- الاتصاف بالمرونة التي أُعرِّفها على أنها رؤية الإنسان لفرصة أو أكثر بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، ومزجها مع إمكاناته وقدراته، مع تهيئة النفس لها سواء أكان ذلك ذهنيًا أم جسديًا، وتسخير هذه الفرصة وما تحتويه في سياق معين وبوقت محدد، للوصول إلى نتيجة مرغوبة وتحقيق أهداف مطلوبة.
في مرحلة الاستكشاف (Exploration):
يصبح الإنسان أكثر مرونةً وأفضل إيجابيةً، ويبدأ في التطلع إلى المستقبل وما يحمل من سلوكيات جديدة ترتقي بحياته وتجعله إنسانًا جديدًا، فهو يرى نفسه يتصف بصفات أجمل وبمعارف ومهارات أفضل، لذا تراه يبدأ في تركيز طاقته في البحث عما يساعده على التغيير، ويحاول جاهدًا اكتشاف طرق جديدة تساعده على جلب أسباب تحقيق أهدافه.
هنا أيضًا يبدأ الإنسان في التحقق من أهدافه، ويقدر إمكاناته وقدراته، ويحاول أن يستكشف خيارات أخرى جديدة، ويجرب احتمالات لم يطرق بابها من قبل، كل ذلك من أجل تغيير حاله من حال إلى آخر أجمل، والصفة الغالبة على الإنسان في هذه المرحلة: تحفيز النفس وبذل ما يستطيع من طاقة في سبيل إيجاد الطريق الصحيح، والمهم هنا: عدم قبوله أقل من الاستخدام الكامل لقدراته الكامنة والعزم الحقيقي على التغيير إلى الأفضل.
ويأتي هنا عمل الإبداع في تحقيق الأهداف لما له من أثر كبير في التفكير بصورة مغايرة ومختلفة عما اعتدناه، وفي رأيي إن عنصر النجاح في عملية التغيير في هذه المرحلة يتلخص في الإنصات الجيد عند استشارة من يثق بهم، وفي طرح أسئلة تزيد من معلوماته في سياق واحد وواضح، ولا يجعل منها مصدرًا للتشتت والحيرة.
المرحلة الرابعة والأخيرة هي مرحلة الالتزام (Commitment):
وهنا يكون الإنسان قد اكتشف طرقًا مختلفة تساعده على العمل بصورة أفضل، وأصبح بذلك أكثر اعتيادًا لبيئته الجديدة، ويتجلى الالتزام هنا عن طريق تبني ثقافة جديدة؛ أعني بها بالتحديد ما يلي:
1- المعرفة التامة بالتغيير الجديد الذي يتمثل في التغيير إلى ما يرضي الله ورسوله، مع ارتقاء فهم الإنسان بهذه التجربة ليصبح خبرة يملكها لنفسه وللآخرين.
2- التحلي بالمهارات اللازمة التي تمكنه من جعل هذا التغيير الإيجابي جزءًا لا يتجزأ من نسيجه السلوكي، وفي رأيي تعد القيادة الذاتية للنفس أهم مهارة هنا وبلا منازع؛ لما لها من أثر بالغ في البقاء على هذا النهج الجديد والسير على رؤيته.
3- تحسين مهاراتك في التواصل (Communication) مع ذاتك والآخرين وتطويرها بما يتناسب وهذه المرحلة من خلال التدريب والاستشارة.
4- تركيز اهتمامك على سلوكياتك الجديدة التي اكتسبتها لتقويمها إن دعت الحاجة ومحاولاتك الدائبة على تحسينها من خلال تقييمك المستمر.
إن عمليات التغيير التي يمر بها الإنسان تبدأ ولا تنتهي، وكلما انتهت واحدة منها بدأت أخرى جديدة، وسر الفوز هنا يتركز في معرفة عمليات التغيير التي نمر بها حتى نعلم كيف نتعامل معها، خصوصًا إذا ما علمنا بأن الإنسان يمر بهذه المراحل الأربع بصورة دائمة في كل لحظة من حياته، ودعني هنا أنتهي بقول قد كتبته قبل مدة معينة: "التغيير عبارة عن خطوة واحدة فقط، تحتوي على مراحل كثيرة".
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيما كتبت، وأن يكون خالصًا لوجهه الكريم، فإن أصبت فهو من الله سبحانه وحده، وإن أخطأت فهو من الشيطان ومني.
والله العليم الخبير الغفور الرحيم.
مسارات التغيير الذاتي / لنوفل عبدالهادي المصارع
منقول
http://www.alukah.net/articles/3/2490.aspx?cid=57