بسم الله الرحمن الرحيم
هذه فضائل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهي مختصرة جمعتها من صحيح البخاري كتاب المناقب مناقب ابي بكر الصديق . أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم اللهم آمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال
اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء فليحمل إلي رحلي فقال عازب لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ثم قلت له اضطجع يا نبي الله فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فسألته فقلت له لمن أنت يا غلام قال لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت فهل أنت حالب لنا قال نعم فأمرته فاعتقل شاة من غنمه ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت قد آن الرحيل يا رسول الله قال بلى فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال
لا تحزن إن الله معنا
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( حدثنا عبد الله بن رجاء )
هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون بصري ثقة , وكذا بقية رجال الإسناد .
قوله : ( فقال عازب : لا حتى تحدثنا )
كذا وقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق , وقد تقدم في " علامات النبوة " من رواية زهير عن أبي إسحاق بلفظ " فقال لعازب : ابعث ابنك يحمله معي , قال : فحملته معه وخرج أبي ينتقد ثمنه , فقال له أبي : يا أبا بكر حدثني " وظاهرهما التخالف , فإن مقتضى رواية إسرائيل أن عازبا امتنع من إرسال ولده مع أبي بكر حتى يحدثهم , ومقتضى رواية زهير أنه لم يعلق التحديث على شرط , ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عازبا اشترط أولا , وأجابه أبو بكر إلى سؤاله , فلما شرعوا في التوجه استنجز عازب منه ما وعده به من التحديث ففعل , قال الخطابي : تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث ; وهو تمسك باطل , لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة , وأما الذي وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري سواء أعطاهم أجرة أم لا , كذا قال , ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بعدا , لتوقفه على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث , والله أعلم .
قوله : ( فإذا أنا براع )
لم أقف على تسميته ولا على تسمية صاحب الغنم , إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي , وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم , عن زر عن ابن مسعود قال : " كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط , فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال : يا غلام هل من لبن ؟ قلت : نعم , ولكني مؤتمن " الحديث وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذاك قيل له : " هل أنت حالب ؟ فقال : نعم " وهذا أشار بأنه غير حالب , وذاك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل , ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه : " ثم أتيته بعد هذا فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول " فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود , وإسلام ابن مسعود كان قديما قبل الهجرة بزمان , فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة , والله أعلم .
قوله : ( فشرب حتى رضيت )
وقع في رواية أوس عن خديج عن أبي إسحاق " قال أبو إسحاق فتكلم بكلمة والله ما سمعتها من غيره " كأنه يعني قوله : " حتى رضيت " فإنها مشعرة بأنه أمعن في الشرب , وعادته المألوفة كانت عدم الإمعان .
قوله : ( قد آن الرحيل يا رسول الله )
أي دخل وقته , وتقدم في علامات النبوة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم , ألم يأن للرحيل ؟ قلت : بلى " فيجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل , فقال له أبو بكر : بلى , ثم أعاد عليه بقوله " قد آن الرحيل " قال المهلب بن أبي صفرة : إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة , ولا يعارضه حديثه " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " لأن ذلك وقع في زمن التشاح , أو الثاني محمول على التسور والاختلاس والأول لم يقع فيه ذلك بل قدم أبو بكر سؤال الراعي هل أنت حالب ؟ فقال : نعم , كأنه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك ؟ فقال : نعم أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المار ولابن السبيل , فكان كل راع مأذونا له في ذلك . وقال الداودي : إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج , ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم " وأبعد من قال : إنما استجازه لأنه مال الحربي , لأن القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم . وقد تقدم شيء من هذه المباحث في هذه المسألة في آخر اللقطة , وفيها الكلام على إباحة ذلك للمسافر مطلقا . وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم : خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب عنه عند نومه , وشدة محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وأدبه معه وإيثاره له على نفسه , وفيه أدب الأكل والشرب واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب , وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة ولا يقدح ذلك في التوكل , وستأتي قصة سراقة في الهجرة مستوفاة إن شاء الله تعالى , وأوردها هنا مختصرة جدا وفي علامات النبوة أتم
( تنبيه ) :
أورد الإسماعيلي هذا الحديث عن أبي خليفة عن عبد الله بن رجاء شيخ البخاري فيه فزاد في آخره " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا , فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه " فذكر القصة مطولة , وسأذكر ما فيها من الفوائد في " باب الهجرة " إن شاء الله تعالى .
قوله : ( تريحون بالعشي , تسرحون بالغداة ) هو تفسير قوله تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) وهو تفسير أبي عبيدة في " المجاز " وثبت هذا في رواية الكشميهني وحده , والصواب أن يثبت في حديث عائشة في قصة الهجرة فإن فيه " ويرعى عليها عامر بن فهيرة ويريحهما عليهما " فهذا هو محل شرح هذه اللفظة بخلاف حديث البراء فلم يجر فيه لهذه اللفظة ذكر , والله تعالى أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثنا محمد بن سنان حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال
قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( عن ثابت )
في رواية حبان بن هلال في التفسير عن همام " حدثنا ثابت " .
قوله : ( عن أنس عن أبي بكر )
في رواية حبان المذكورة " حدثنا أنس حدثني أبو بكر " .
قوله : ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار )
زاد في رواية حبان المذكورة " فرأيت آثار المشركين " وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام في الهجرة " فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم " .
قوله : ( لو أن أحدهم نظر تحت قدميه )
فيه مجيء " لو " الشرطية للاستقبال خلافا للأكثر واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى : ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) , وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار , وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا لله تعالى على صيانتهما منهم . قوله : " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه " في رواية موسى " لو أن بعضهم طأطأ بصره " وفي رواية حبان " رفع قدميه " ووقع مثله في حديث حبشي بن جنادة أخرجه ابن عساكر , وهي مشكلة فإن ظاهرها أن باب الغار استتر بأقدامهم , وليس كذلك إلا أن يحمل على أن المراد أنه استتر بثيابهم , وقد أخرجه مسلم من رواية حبان المذكورة بلفظ " لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه " وكذا أخرجه أحمد عن عفان عن همام , ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال : " وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه , وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف , فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تحزن إن الله معنا ) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة , وفي ذلك يقول الله عز وجل ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) الآية " وهذا يقوي أنه قال ما في حديث الباب حينئذ , ولذلك أجابه بقوله : ( لا تحزن ) .
قوله : ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )
في رواية موسى " فقال اسكت يا أبا بكر , اثنان الله ثالثهما " وقوله اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان , ومعنى ثالثهما ناصرهما ومعينهما , وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه , وستأتي الإشارة إلى ذلك في تفسير براءة . وفي الحديث منقبة ظاهرة لأبي بكر , وفيه أن باب الغار كان منخفضا إلا أنه كان ضيقا , فقد جاء في " السير للواقدي " أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر " قد رآنا يا رسول الله . قال : لو رآنا لم يكشف عن فرجه " وسيأتي مزيد لذلك في قصة الهجرة إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) :
اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام عن ثابت , وممن صرح بذلك الترمذي والبزار , وقد أخرجه ابن شاهين في " الأفراد " من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام , وقد قدمت له شاهدا من حديث حبشي بن جنادة , ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في " الإكليل " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثني عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا فليح قال حدثني سالم أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( حدثنا أبو عامر )
هو العقدي
و ( فليح )
هو ابن سليمان , وهو ومن فوقه مدنيون .
قوله : ( عن عبيد بن حنين ) تقدم بيان الاختلاف في إسناده في " باب الخوخة في المسجد " في أوائل الصلاة .
قوله : ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم )
في رواية مالك عن أبي النضر الآتية في الهجرة إلى المدينة " جلس على المنبر فقال " وفي حديث ابن عباس الماضي تلو حديث أبي سعيد في " باب الخوخة " من أوائل الصلاة " في مرضه الذي مات فيه " ولمسلم من حديث جندب " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال " وفي حديث أبي بن كعب الذي سأنبه عليه قريبا " إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بثلاث " فذكر الحديث في خطبة أبي بكر , وهو طرف من هذا , وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته , فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى .
قوله : ( بين الدنيا وبين ما عنده )
في رواية مالك المذكورة " بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده " .
قوله : ( فعجبنا لبكائه )
وقع في رواية محمد بن سنان في " باب الخوخة " المذكورة " فقلت في نفسي " وفي رواية مالك " فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد , وهو يقول فديناك " ويجمع بأن أبا سعيد حدث نفسه بذلك فوافق تحديث غيره بذلك فنقل جميع ذلك .
قوله : ( وكان أبو بكر أعلمنا )
في رواية مالك " وكان أبو بكر هو أعلمنا به " أي بالنبي صلى الله عليه وسلم , أو بالمراد من الكلام المذكور , زاد في رواية محمد بن سنان " فقال : يا أبا بكر لا تبك " .
قوله : ( إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر )
في رواية مالك كذلك , وفي رواية محمد بن سنان " إن من أمن الناس علي " بزيادة من , وقال فيها " أبا بكر " بالنصب للأكثر , ولبعضهم " أبو بكر " بالرفع , وقد قيل إن الرفع خطأ والصواب النصب لأنه اسم إن , ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أي إنه , والجار والمجرور بعده خبر مقدم وأبو بكر مبتدأ مؤخر , أو على أن مجموع الكنية اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو " إن " بمعنى نعم أو إن " من " زائدة على رأي الكسائي , وقال ابن بري : يجوز الرفع إذا جعلت من صفة لشيء محذوف تقديره إن رجلا أو إنسانا من أمن الناس فيكون اسم إن محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة , وقوله : " أبو بكر " الخبر , وقوله " أمن " أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل , بمعنى إن أبذل الناس لنفسه وماله , لا من المنة التي تفسد الصنيعة , وقد تقدم تقرير ذلك في " باب الخوخة " وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المنة وقال : تقديره لو كان يتوجه لأحد الامتنان على نبي الله صلى الله عليه وسلم لتوجه له , والأول أولى . وقوله : " أمن الناس " في رواية الباب ما يوافق حديث ابن عباس بلفظ " ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر " وأما الرواية التي فيها " من " فإن قلنا زائدة فلا تخالف , وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية إلا أنه مقدم في ذلك بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر , ويؤيده ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ " ما لأحد له عندنا يد إلا كافأناه عليها ; ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة " فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره , إلا أن لأبي بكر رجحانا . فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك , وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك , ووقع بيان ذلك في حديث آخر لابن عباس رفعه نحو حديث الترمذي وزاد " منة أعتق بلالا ومنة هاجر بنبيه " أخرجه الطبراني , وعنه في طريق أخرى " ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر : واساني بنفسه وماله , وأنكحني ابنته " أخرجه الطبراني , وفي حديث مالك بن دينار عن أنس رفعه " إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر , زوجني ابنته , وواساني بنفسه . وإن خير المسلمين مالا أبو بكر , أعتق منه بلالا , وحملني إلى دار الهجرة " أخرجه ابن عساكر , وأخرج من رواية ابن حبان التيمي عن أبيه عن علي نحوه , وجاء عن عائشة مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر , فروى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت " أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم " وروى الزبير بن بكار عن عروة عن عائشة " أنه لما مات ما ترك دينارا ولا درهما " .
قوله : ( لو كنت متخذا خليلا )
يأتي الكلام عليه بعد باب , قال الداودي : لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما " أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم , لأن ذلك جائز لهم , ولا يجوز للواحد منهم أن يقول أنا خليل النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال إبراهيم خليل الله ولا يقال الله خليل إبراهيم . قلت : ولا يخفى ما فيه .
هذه فضائل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهي مختصرة جمعتها من صحيح البخاري كتاب المناقب مناقب ابي بكر الصديق . أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم اللهم آمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال
اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب مر البراء فليحمل إلي رحلي فقال عازب لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم قال ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ثم قلت له اضطجع يا نبي الله فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فسألته فقلت له لمن أنت يا غلام قال لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت فهل أنت حالب لنا قال نعم فأمرته فاعتقل شاة من غنمه ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا ضرب إحدى كفيه بالأخرى فحلب لي كثبة من لبن وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت قد آن الرحيل يا رسول الله قال بلى فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله فقال
لا تحزن إن الله معنا
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( حدثنا عبد الله بن رجاء )
هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون بصري ثقة , وكذا بقية رجال الإسناد .
قوله : ( فقال عازب : لا حتى تحدثنا )
كذا وقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق , وقد تقدم في " علامات النبوة " من رواية زهير عن أبي إسحاق بلفظ " فقال لعازب : ابعث ابنك يحمله معي , قال : فحملته معه وخرج أبي ينتقد ثمنه , فقال له أبي : يا أبا بكر حدثني " وظاهرهما التخالف , فإن مقتضى رواية إسرائيل أن عازبا امتنع من إرسال ولده مع أبي بكر حتى يحدثهم , ومقتضى رواية زهير أنه لم يعلق التحديث على شرط , ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عازبا اشترط أولا , وأجابه أبو بكر إلى سؤاله , فلما شرعوا في التوجه استنجز عازب منه ما وعده به من التحديث ففعل , قال الخطابي : تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث ; وهو تمسك باطل , لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة , وأما الذي وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري سواء أعطاهم أجرة أم لا , كذا قال , ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بعدا , لتوقفه على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث , والله أعلم .
قوله : ( فإذا أنا براع )
لم أقف على تسميته ولا على تسمية صاحب الغنم , إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي , وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم , عن زر عن ابن مسعود قال : " كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط , فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال : يا غلام هل من لبن ؟ قلت : نعم , ولكني مؤتمن " الحديث وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذاك قيل له : " هل أنت حالب ؟ فقال : نعم " وهذا أشار بأنه غير حالب , وذاك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل , ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه : " ثم أتيته بعد هذا فقلت : يا رسول الله علمني من هذا القول " فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود , وإسلام ابن مسعود كان قديما قبل الهجرة بزمان , فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة , والله أعلم .
قوله : ( فشرب حتى رضيت )
وقع في رواية أوس عن خديج عن أبي إسحاق " قال أبو إسحاق فتكلم بكلمة والله ما سمعتها من غيره " كأنه يعني قوله : " حتى رضيت " فإنها مشعرة بأنه أمعن في الشرب , وعادته المألوفة كانت عدم الإمعان .
قوله : ( قد آن الرحيل يا رسول الله )
أي دخل وقته , وتقدم في علامات النبوة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم , ألم يأن للرحيل ؟ قلت : بلى " فيجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل , فقال له أبو بكر : بلى , ثم أعاد عليه بقوله " قد آن الرحيل " قال المهلب بن أبي صفرة : إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة , ولا يعارضه حديثه " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " لأن ذلك وقع في زمن التشاح , أو الثاني محمول على التسور والاختلاس والأول لم يقع فيه ذلك بل قدم أبو بكر سؤال الراعي هل أنت حالب ؟ فقال : نعم , كأنه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك ؟ فقال : نعم أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المار ولابن السبيل , فكان كل راع مأذونا له في ذلك . وقال الداودي : إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج , ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم " وأبعد من قال : إنما استجازه لأنه مال الحربي , لأن القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم . وقد تقدم شيء من هذه المباحث في هذه المسألة في آخر اللقطة , وفيها الكلام على إباحة ذلك للمسافر مطلقا . وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم : خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب عنه عند نومه , وشدة محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وأدبه معه وإيثاره له على نفسه , وفيه أدب الأكل والشرب واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب , وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة ولا يقدح ذلك في التوكل , وستأتي قصة سراقة في الهجرة مستوفاة إن شاء الله تعالى , وأوردها هنا مختصرة جدا وفي علامات النبوة أتم
( تنبيه ) :
أورد الإسماعيلي هذا الحديث عن أبي خليفة عن عبد الله بن رجاء شيخ البخاري فيه فزاد في آخره " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا , فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه " فذكر القصة مطولة , وسأذكر ما فيها من الفوائد في " باب الهجرة " إن شاء الله تعالى .
قوله : ( تريحون بالعشي , تسرحون بالغداة ) هو تفسير قوله تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) وهو تفسير أبي عبيدة في " المجاز " وثبت هذا في رواية الكشميهني وحده , والصواب أن يثبت في حديث عائشة في قصة الهجرة فإن فيه " ويرعى عليها عامر بن فهيرة ويريحهما عليهما " فهذا هو محل شرح هذه اللفظة بخلاف حديث البراء فلم يجر فيه لهذه اللفظة ذكر , والله تعالى أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثنا محمد بن سنان حدثنا همام عن ثابت عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال
قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا فقال ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( عن ثابت )
في رواية حبان بن هلال في التفسير عن همام " حدثنا ثابت " .
قوله : ( عن أنس عن أبي بكر )
في رواية حبان المذكورة " حدثنا أنس حدثني أبو بكر " .
قوله : ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار )
زاد في رواية حبان المذكورة " فرأيت آثار المشركين " وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام في الهجرة " فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم " .
قوله : ( لو أن أحدهم نظر تحت قدميه )
فيه مجيء " لو " الشرطية للاستقبال خلافا للأكثر واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى : ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) , وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار , وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا لله تعالى على صيانتهما منهم . قوله : " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه " في رواية موسى " لو أن بعضهم طأطأ بصره " وفي رواية حبان " رفع قدميه " ووقع مثله في حديث حبشي بن جنادة أخرجه ابن عساكر , وهي مشكلة فإن ظاهرها أن باب الغار استتر بأقدامهم , وليس كذلك إلا أن يحمل على أن المراد أنه استتر بثيابهم , وقد أخرجه مسلم من رواية حبان المذكورة بلفظ " لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه " وكذا أخرجه أحمد عن عفان عن همام , ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال : " وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه , وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف , فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تحزن إن الله معنا ) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه السكينة , وفي ذلك يقول الله عز وجل ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) الآية " وهذا يقوي أنه قال ما في حديث الباب حينئذ , ولذلك أجابه بقوله : ( لا تحزن ) .
قوله : ( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )
في رواية موسى " فقال اسكت يا أبا بكر , اثنان الله ثالثهما " وقوله اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان , ومعنى ثالثهما ناصرهما ومعينهما , وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه , وستأتي الإشارة إلى ذلك في تفسير براءة . وفي الحديث منقبة ظاهرة لأبي بكر , وفيه أن باب الغار كان منخفضا إلا أنه كان ضيقا , فقد جاء في " السير للواقدي " أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر " قد رآنا يا رسول الله . قال : لو رآنا لم يكشف عن فرجه " وسيأتي مزيد لذلك في قصة الهجرة إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) :
اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام عن ثابت , وممن صرح بذلك الترمذي والبزار , وقد أخرجه ابن شاهين في " الأفراد " من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام , وقد قدمت له شاهدا من حديث حبشي بن جنادة , ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في " الإكليل " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثني عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا فليح قال حدثني سالم أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قوله : ( حدثنا أبو عامر )
هو العقدي
و ( فليح )
هو ابن سليمان , وهو ومن فوقه مدنيون .
قوله : ( عن عبيد بن حنين ) تقدم بيان الاختلاف في إسناده في " باب الخوخة في المسجد " في أوائل الصلاة .
قوله : ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم )
في رواية مالك عن أبي النضر الآتية في الهجرة إلى المدينة " جلس على المنبر فقال " وفي حديث ابن عباس الماضي تلو حديث أبي سعيد في " باب الخوخة " من أوائل الصلاة " في مرضه الذي مات فيه " ولمسلم من حديث جندب " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال " وفي حديث أبي بن كعب الذي سأنبه عليه قريبا " إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بثلاث " فذكر الحديث في خطبة أبي بكر , وهو طرف من هذا , وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته , فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى .
قوله : ( بين الدنيا وبين ما عنده )
في رواية مالك المذكورة " بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده " .
قوله : ( فعجبنا لبكائه )
وقع في رواية محمد بن سنان في " باب الخوخة " المذكورة " فقلت في نفسي " وفي رواية مالك " فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد , وهو يقول فديناك " ويجمع بأن أبا سعيد حدث نفسه بذلك فوافق تحديث غيره بذلك فنقل جميع ذلك .
قوله : ( وكان أبو بكر أعلمنا )
في رواية مالك " وكان أبو بكر هو أعلمنا به " أي بالنبي صلى الله عليه وسلم , أو بالمراد من الكلام المذكور , زاد في رواية محمد بن سنان " فقال : يا أبا بكر لا تبك " .
قوله : ( إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر )
في رواية مالك كذلك , وفي رواية محمد بن سنان " إن من أمن الناس علي " بزيادة من , وقال فيها " أبا بكر " بالنصب للأكثر , ولبعضهم " أبو بكر " بالرفع , وقد قيل إن الرفع خطأ والصواب النصب لأنه اسم إن , ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أي إنه , والجار والمجرور بعده خبر مقدم وأبو بكر مبتدأ مؤخر , أو على أن مجموع الكنية اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو " إن " بمعنى نعم أو إن " من " زائدة على رأي الكسائي , وقال ابن بري : يجوز الرفع إذا جعلت من صفة لشيء محذوف تقديره إن رجلا أو إنسانا من أمن الناس فيكون اسم إن محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة , وقوله : " أبو بكر " الخبر , وقوله " أمن " أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل , بمعنى إن أبذل الناس لنفسه وماله , لا من المنة التي تفسد الصنيعة , وقد تقدم تقرير ذلك في " باب الخوخة " وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المنة وقال : تقديره لو كان يتوجه لأحد الامتنان على نبي الله صلى الله عليه وسلم لتوجه له , والأول أولى . وقوله : " أمن الناس " في رواية الباب ما يوافق حديث ابن عباس بلفظ " ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر " وأما الرواية التي فيها " من " فإن قلنا زائدة فلا تخالف , وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية إلا أنه مقدم في ذلك بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر , ويؤيده ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ " ما لأحد له عندنا يد إلا كافأناه عليها ; ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة " فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره , إلا أن لأبي بكر رجحانا . فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك , وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك , ووقع بيان ذلك في حديث آخر لابن عباس رفعه نحو حديث الترمذي وزاد " منة أعتق بلالا ومنة هاجر بنبيه " أخرجه الطبراني , وعنه في طريق أخرى " ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر : واساني بنفسه وماله , وأنكحني ابنته " أخرجه الطبراني , وفي حديث مالك بن دينار عن أنس رفعه " إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر , زوجني ابنته , وواساني بنفسه . وإن خير المسلمين مالا أبو بكر , أعتق منه بلالا , وحملني إلى دار الهجرة " أخرجه ابن عساكر , وأخرج من رواية ابن حبان التيمي عن أبيه عن علي نحوه , وجاء عن عائشة مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر , فروى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت " أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم " وروى الزبير بن بكار عن عروة عن عائشة " أنه لما مات ما ترك دينارا ولا درهما " .
قوله : ( لو كنت متخذا خليلا )
يأتي الكلام عليه بعد باب , قال الداودي : لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما " أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم , لأن ذلك جائز لهم , ولا يجوز للواحد منهم أن يقول أنا خليل النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال إبراهيم خليل الله ولا يقال الله خليل إبراهيم . قلت : ولا يخفى ما فيه .