أضرب الناس في العلم
قال المواردي–رحمه الله تعالى:"أعلم أن المتعلمين ضربان: مستدع، وطالب :
فأما المستدعي إلى العلم ، فهو من استدعاه العالم إلى التعليم؛ لما ظهر له من جودة ذكائه، وبان له من قوة خاطره، فإذا وافق استدعاء العالم شهوة المتعلم كانت نتيجتها درك النجباء وظفر السعداء؛ لأن العالم باستدعائه متوفر، والمتعلم بشهوته مستكثر .
وأما طالب العلم لداع يدعوه، وباعث يحدوه( ) فإن كان الداعي دينياً، وكان المتعلم فطناً ذكياً، وجب على العالم أن يكون عليه
مقبلاً وعلى تعليمه متوافراً، لا يخفى عليه مكنوناً، ولا يطوى عنه مخزوناً، وإن كان بليداً بعيد الفطنة فينبغي ألا يمنعه من اليسير فيحرم ولا يحمل عليه بالكثير فيظلم، ولا يجعل بلادته ذريعة لحرمانه... فأما إن لم يكن الداعي دينياً نظر فيه، فإن كان مباحاً، كرجل دعاه إلى طلب العلم حب النباهة وطلب الرئاسة، فالقول فيه يقارب القول الأول في تعليم من قبل؛ لأن العلم يعطفه إلى الدين في ثاني حاله وإن لم يكن مبتدئاً به في أول حال.
وإن كان الداعي محظوراً، كرجل دعاه إلى طلب العلم شر كامن ومكر باطن يريد أن يستعملها في شبه دينية، وحيل فقهية لا تجد أهل السلامة منها مخلصاً ولا عنها مدفعاً، فينبغي للعالم إذا رأى من هذه حاله أن يمنعه عن طلبته، ويصرفه عن بغيته فلا يعينه على إمضاء مكره وإعمال شره""أدب الدنيا والدين" للمواردي ص (108) بتصرف
وقال العلامة ابن القيم–رحمه الله تعالى:"الكمال كله إلى العلم والعزيمة والناس في هذا على أربعة أضرب :
الضرب الأول: من رزق علماً وأعين على ذلك بقوة العزيمة على العمل، وهذا الضرب خلاصة الخلق وهم الموصوفون في القرآن بقوله:"الذين آمنوا وعملوا الصالحات"سورة"العصر"الآية(3)وقوله:"أولى الأيدي والأبصار"سورة"ص"الآية(45) وبقوله:"أفمن كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها"سورة"الأنعام"الآية(122) فبالحياة تنال العزيمة، وبالنور ينال العلم، وأئمة هذا الضرب هم أولو العزم من الرسل .
الضرب الثاني: من حرم هذا وهذا، وهم الموصوفون بقوله:"إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"سورة"الأنفال"الآية(22) وبقوله:" أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا"سورة"الفرقان"الآية(44)وبقوله:"إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء"سورة"الروم"الآية(52)وقوله:"وما أنت بمسمع من في القبور"سورة"فاطر"الآية(22)وهذا الصنف شر البرية ، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، وينطقون ولكن عن الهوى ينطقون، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن يعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويتفكرون ويبيتون ولكن مالا يرضى من القول يبيتون، ويدعون ولكن مع الله إلها آخر يدعون، ويذكرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون، ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويكتبون ولكن يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون، ويقولون إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، فهذا الضرب ناس بالصورة، وشياطين بالحقيقة...
الضرب الثالث : من فتح له باب العلم، وأغلق عنه باب العزم والعمل، فهذا في رتبة الجاهل أو شر منه، وفي الحديث المرفوع :"أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه"( ) ثبته أبو نعيم وغيره. فهذا جهله كان خيراً له وأخف لعذابه من كمله، فما زاده العلم إلا وبالاً وعذاباً وهذا لا مطمع في صلاحه؛ فإن التائه عن الطريق يرجى له العود إليها إذا أبصرها، فإذا عرفها وحاد عنها عمداً فمتى ترجى هدايته، قال تعالى:"كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين "سورة "آل عمران" الآية (86)
الضرب الرابع : من رزق حظاً من العزيمة والإرادة، ولكن قلّ نصيبه من العلم والمعرفة، فهذا إذا وفق له الاقتداء بداع من
دعاة الله ورسوله كان من الذين قال الله فيهم:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما"سورة"النساء"الآية(69)رزقنا الله من فضله" مفتاح دار السعادة"للعلامة ابن القيم (1/378-381)
نقلا عن كتاب
"بيان الشريعة الغراء لفضل العلم والعلماء..."
"بيان الشريعة الغراء لفضل العلم والعلماء..."