لفضيلة الشيخ
عبدالرحمن الوكيل
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
***
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين.
"أما بعد" فما زلت أذكر، وأنا طالب في معهد طنطا الديني، ذلك الشيخ الشيبة يقسم لن – وعيناه مخضلتان بالدموع ونبرات صوته أصداء عميقة بعيدة الغور من الشجو الولهان، والحنين الهائم، والحرمان الجريح _ يقسم لنا أن في ضريح عبد العال المجاور لضريح البدوي شعرة من رأس الرسول!، وأنها معين حير، وفيض بركة ويمن، ومطاف آمال، ومهوى رجاء!! وأذكر أنني حين سمعت حديثه، يؤكده بقسم غليظ، شعرت بقلبي، وكأنما يود أن ينشق عنه الصدر؛ ليهفو في صبابته الملهوفة إلى معبد الشعرة يقبلها، ويكنها في مهجته، بل شعرت كأنما حملت الملائكة إلى بشرى الخلود!!.
وما زلت أذكر أيضاً أنني سألت الشيخ؛ ليطمئن قلبي على هذا الأمل ألحلو الساحر الفتنة، عما جعلهم يوقنون بسبة هذه الشعرة إلى رأس النبي الأعظم؟ فأجاب – تولاه الله بما قدّم - : لقد وضعناها في زجاجة، وأقمنا حولها ذكر وإنشاد، فإذا بالشعرة تذكر مع الذاكرين على دفيف الدفوف، وحنات النايات، والنغم المطرب المرقص من الأناشيد!!.
وأذكر أنني آمنت بهذه الأسطورة كأنما هي من الله برهان ساطع!! وأذكر أن الشيخ تداركنا – حتى يحكم القيد – بحجة أخرى، فزعم أنهم وضعو الشعرة تحت الشمس، فلم يجدوا لها ظلاً!! وكان هذا الوثني الجديد حجة عندي تدحض كل ريبة!!.
وأذكر – ويارب غفرانك – أن خرافة الشيخ هذه غمرتني بنشوة سكرى
خلت فيها أنني أرى الجنة، أو أنني صحابي يتلو عليه الرسول وحي الله!!.
فكنت أهفو إلى هيكل الشعرة خاشع الطرف، رياب القلب بالولاء، أصلي لها بنجاوى الحب الحب العابد، وألثم خشب هيكلها وحجره في شغف تأثر الأشواق عربيد التهلف، وأنهنه بالأرواح العطرية – التي أخال أنها تناسمني منها – دموعي المسكوبة لوعة عشق، وظمأ غرام!!.
وتعال معي أذكرك بأنني كنت أطوف حول صنم البدوي، حتى إذا مثلت أمام الكوة الصغيرة في وثنه النحاسي بالبراق، أنفذت منها يديّ – في رعشة التقديس – حتى ألمس ستر القبر، ثم أخرجها رويداً رويداً في حرص وحذر بالغين، وقد ضممت قبضتيهما على ...؟ على ماذا؟ كنت أوقن حينذاك أنني أضمهما على بركات سماوية تفيض من روح الله على القبر (يزعم الصوفية أن فوق كل ضريح ولي نافذة مفتوحة في السماء، يفيض الله منها بركاته على الطائفين حول الضريح!) ثم أبسط يدي في جيبي، ثم أمسح بها وجهي، رجاء أن أكون ميسر الرزق، داني قطوف النجاح، مشرق الوجه بنور الله!! وتعال – ولا تسأم من ذكرياتي، فإنها عبرة ضحية، وعظة مأساة – أذكر بذلك الدوي ترجف منه الأرض، وترتعد جدر المعهد حين كانت توزع أسئلة اختبار آخر العام الدراسي، أتدري ماذا كان يحدث؟.
تهب هذه الآلاف المضطربة من الطلبة رافعة أكفها في ضراعة ناعقة بما لا يسمع، ولا يبصر، حتى ليبح صوتها، وتتمزق حناجرها إذ تنقع ضارعة: يا سيد!! وياويل السمع من طول "ياء النداء"!!. لقد كانت تطول، وتطول، حتى ليخيل غليك أنها دخان مارد يحترق، فيلمس دخانه قبة النجم، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك؛ لتصل أصداء ضراعتهم إلى حيث جثمت على الأرض في غيابة القبر جيفة من دعوة!!
ولعلك تسألني : ماذا كان يفعل بك شيوخكم؟ كانوا يرفعون في سكرة الحب وذلك الخشية أيديهم المعروقة، يمسحون بها وجوههم، أو يمشطون لحاهم، ومن بين الشفاه الذوابل تنساب هذه الهمهمة :"رضي الله عنك!!" ثم يلتفتون إلينا، وعلى وجوههم ألق الرضى ناصحين في تأييد وإعجاب: "كفاية ما خلاص سمعكم السيد!!"
وتعال – وناشدتك الله إلا ما أصغيت غير مال ولا كاره – أذكرك بذلك الشيخ الأكبر الذي كان يشرك الدهماء في يوم "الكنسة" وكان يمزق عمامة صنم البدوي مزقاً مزقاً، ثم يهديها إلى مريديه بركة – في زعمه – من روح الله التي يغرق صيبها ذيالك الوثن!!.
لقد كان للشيخ الأكبر شيخ هو تاجر خيط في المدينة، وقد أعطاه العهد، وألبسه "خرقة التصوف"، وكان التاجر على أمية وجهالة، بيد أنه كان خبيراً بزندقة الصوفية، مؤمنا بها، يبثها، ويهوى بالهالكين في حمأتها!!.
ولقد كنا نرى الشيخ الأكبر يخفض من رأسه عبودية للتاجر الصوفي!! ثم يلثم يديه في خشية ورهبة وإجلال!! وكنا نهتف إعجاباً بصنيع الشيخ؟ إذ نراه دلائل قوية على إيمان عميق، وتواضع كريم!!.
كذلك كنا نحرص كل الحرص على أن ننتشي بمشهد الشيخ، وهو يطوف حول ضريح البدوي، يتملس نحاسه وستره، حى إذا بلغ فمه موضعاً منه، راح يشويه بسعير القبل من شفتيه الناريتين!! ونحرص كل الحرص على أن نوفض من منازلنا سراعاً إلى "مولد: البدوي؛ لنشهد سرادق الشيخ الأكبر المضروب على أيد طويل عريض من الأرض من السرادق الفخم الضخم مهرولين صوب النصب الكبير، أو ما يسميه الدراويش "العمود الصاري" (هو عمود طويل من الخشب مفرط في الإرتفاع مثبت في قاعدة من الأسمنت) نقترف هذا لعلنا نصيب بركة من القطب الغوث الذي قيل لنا : إنه لا يحرص على شئ كما يحرص على شهود الليلة الخاتمة "للمولد" هو والأقطاب الآخرون والأوتاد والأبدال والأنجاب!! ولعلنا نبصر واحداً منهم فيما تجسد فيه من صور (كان قد حدثني نقيب صوفي من قريتي عن القطب وأنه رآه. قال:"كنا بمولد البدوي مرة دون الصاري فسمعت من بعيد – فحيح مزمار، فرأيت شيخي يهرول إلى باب السرادق، ثم يكسر من قامته، حتى لتكاد تمس رأسه بالأرض، ويرفع يديه في رعب شديد يحي يهما رجلاً أشعث أغير منهتك السوأة، وبيده عكاز طويل، يدب به على الأرض، وقد تقدمه رجل مثله ينفخ في "مزمار" ثم تنهد الرجل وهو يستعيد ذكرياته، ثم قال:"وهكذا رأيت القطب، فقد سألت شيخي عن الرجل الأول: أليس هو القطب؟ وصاحب المزمار حاجبه؟! فأجاب : بلى، ولكن اكتم السر!!".
ثم تعال معي إلى الجامع الأحمدي الكبير، أو هيكل الطاغوت الأكبر؛ لترى هذه الحشود التي يمور، ويموج بها الجامع من نساء ورجال وأطفال، وفدوا إلى الصنم من كل فج عميق، وقد اشعلوا مواقدهم، يطهون الطعام، أو يصنعون "الشاي، والقرفة" أمام كل منهم "شوال" خبزة ووعاء "دقته" وقد حبا على الأرض الأطفال يبولون، أو يتبرزون!!.
وهنا، وهناك حانات ذكر يرقص فيها "الدراويش" وتتخلع "الدرويشات"
ويزور بي شيخ أهلي – وأنا صغير- القاهرة، فيجوب بي الصحراء، ويجتاز الأودية، ويسلك المفاوز، ويتعثر في الجلاميد نشداناً لضريح ابن الفارض سعياً على القدم!! وهناك حيال الوثن الفارضي، يغني مرافقي قصيدة ابن الفارض:
"نسخت بحبي آية العشق من قبلي" فتذرف عيناه وعيناه الدموع، ويحترق قلبي وقلبه شجناً على هذا العاشق المحروم، عصف به الغرام، وأضناه الحرمان!! كل هذا كان !! ثم ماذا؟!
ثم هداني الله سواء سبيله، وسلكت بي رعايته مسلك التوحيد والإيمان، فماذا حدث بعد؟! تطلعت نفسي إلى الماضي الوثني – وهي نهب حسرة حزينة المأساة، وخميل وأفراح معطرة – تطلع الناجي من السعير ما زالت في أتونه المتأجج ضحايا تعسة منكودة جنت عليه الصوفية ما جنت عليّ، وتطلعت إلى الريف الحزين، يستعبده شيوخ الطرق، ويغصبون أيتامه ما يوصوص فيهم من رمق خاب الشعاع، وأرامله ما هن في حاجة ملهوفة إليه ليسددن خلة، أو يستر عورة، ومساكنيه حتى الذبالة المحتضرة من حشاشتهم.
تطلعت إلى الريف الوديع تجعل منه الصوفية فساد عقيدة، وضلالة فكر، وذلة ومهانة في الأخلاق، وردغة بدع وجهالة وخرافة وأساطير، وعبودية خانعة لهوى الأحبار، وسدانة يعكف فيها السدنة على بغي طواعيتهم، يبشرون بسماحة بره. وأريحية رحمته!!.
وتطلعت إلى المدينة يعبث في أرجائها الصوفية، فتحيل أهلها – حتى الكثير من المثقفين منهم – عبيد قبور، وعباد جيف، وأحلاس منكر وزور، وموالي أذلاء لكل طاغية!!.
تطلعت إلى هؤلاء وأولئك، وذكرت ما كابدته، فصرخت موجعاً من هول الفاجعة أحاول إنقاذ الضحايا التعسة. المغذة السري وراء الذئاب الضواري من الصوفية!!.
وأكتب ما أكتب، ضارعاً إلى الله وحده أن يمد بالمعونة – فمنه وحده يستمد – وأن يتبين لتلك الضحايا المسكينة أنها تتجرع الغسلين تحسبه رحيقاً، وتطعم الوزين تظنه فاكهة الخلد، وتدين بوثنية – هي شر ما ابتدع الشيطان لأوليائه من وثنيات، وتخالها توحيداً مطيباً بروح الله !!.