النصح الأمين لجمع كلمة السلفيين
بقلم أخينا الشيخ العلامة
علي الحلبي
[نســخة معدّلــــــــة]
الحمدُ لله حقَّ حمدِه، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّه وعبدِه، وعلى آلِه وصحبِه ووَفْدِه.
أمَّا بعدُ:
فإنِّي لا أقْدِرُ على إخفاءِ مشاعر سُروري -أو أُأَخِّرَ إظهارَها!- حُبُوراً بما أراهُ في (منتديات البيضاء) -المُباركة- مِن كتاباتِ كثيرٍ مِن الإِخْوَةِ والأخَوات إضْجاجاً مِن كثيرٍ ممَّا يجري في ساحة الدَّعْوَة السَّلَفِيَّة: مِن تفَرُّق، وتبديع، وإسقاط، وتنافُر، وشدٍّ، وجَذْب!!
فجزى اللهُ هذه (المنتدياتِ) خيراً، وكذا أخانا الفاضلَ المحدِّثَ المُقْرِئَ( 1) الدُّكْتُورَ الشيخَ أبا البراء عليَّ بنَ رضا بنِ عبد الله -حفظهُ اللهُ ونَفَعَ به- المشرفَ العامَّ على هذه
(المنتدياتِ)- على هذه الجهود المباركة، والحِرْص الدَّؤوب الحاثَّيْنِ على إغلاق الأبواب دونَ هذا المُصابِ الجَلَل، وإظهار دعوتنا السَّلَفِيَّة بأبْهَى الحُلَل -بلا خَلَل-.
وعليه؛ فإنَّنِي أعتقِدُ -للخُروجِ مِن هذه المآزِق-: أنَّنا لو الْتَزَمْنا القواعدَ الشرعية -التي وَرَدَتْنا في الكتاب والسُّنَّة، ومنهج سَلَف الأُمَّة-، واتَّبَعْنا الأصولَ العلميَّة -التي وَصَلَتْنَا مِن طريق العُلماء والأئمَّة -علماً وحِلْماً، قولاً وفعلاً- مع الإخلاصِ لله، وصِدقِ النَّفْسِ-: لانْقَشَعَتْ عنَّا غُيومُ الفُرقة، وزالت مِنَّا ذُيولُ المِحنة، ولَرَجَعْنا كما أرادَنا ربُّنا -سبحانه-: {رُحَمَاءُ بينَهُمْ}، وكما رَضِيَ لنا نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ المؤمن للمؤمن كالبُنيان: يشُدُّ بعضُه بعضاً»( 2)؛ ليكونَ ذلك -كُلُّهُ- «طريقاً للسَّلامةِ في الحالِ، والصلاحِ في المَآل»( 3).
ولكنْ -وللأسف-؛ فإنَّ كثيراً مِن هذه المعاني العظيمةِ التي أرشدَ إليها هذانِ النَّصَّان الشَّرْعِيَّان -وما يُشبِهُهُما- غائبةٌ عنَّا، نائيةٌ مِنَّا!... ولا مُفَرِّجَ؛ إلَّا اللهُ -تعالى-...
وأعظمُ ما ينبغي تأصيلُهُ -اليومَ-، وتقعيدُهُ-، ضَبْطاً لعُقول الشباب وفُهومِهم -وجمعِ كلمتِهم فيما هم فيه مُختلِفون-؛ أمورٌ:
أوَّلاً : تأصيلُ وتفصيلُ علومِ ومعارفِ الجرح والتعديل(4 )، وإِدراك مكانته الشرعية، وضبط أهمِّ مسائلِه، وبخاصَّة نفيَ التفريق الحادثِ بين نقد الرُّواة، والكلام في أهل البِدع. ... وأنَّ ذلك -كُلَّهُ-، يحتاجُ إلى تفسيرٍ مُبَرْهَنٍ جليل، وبيانٍ (مُقْنِعٍ) وتدليل، ونقضٍ للقالِ والقيل!!
ثانياً: تفعيلُ دَوْرِ (النصيحة)؛ لعظيمِ أَثَرِها في جمع الكلمة، ولمِّ الشَّمْل؛ «فإنَّ أعظمَ ما عُبِدَ اللهُ به: نصيحةُ خلقِه؛ وبذلك بَعَثَ اللهُ الأنبياء والمرسَلين»(5 ).
ثالثاً: تأصيلُ أُسُس الترجيح بين المصالح والمفاسد -وهو مِن أدَقِّ المعارفِ وأعمقِها-؛ فإنَّ «الشريعةَ جاءتْ بتحصيل المصالحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسد وتقليلها»( 6)، «بحَسَب الإمكان»(7 ).
ولا يتمُّ ذلك -على الحقِّ والحقيقة- إلَّا أن «يعلمَ الإنسانُ خيرَ الخيرَيْن، وشرَّ الشَّرَّيْن»( 8) -وهذا هو الفِقهُ-.
رابعاً: لُزومُ الرِّفْق واللِّين في الدعوةِ، وبخاصَّة بين دُعاة السُّنَّة، وحَمَلَةِ عقيدة السَّلَف الصالح، ونَبْذُ اتِّخاذ العُنف منهجاً وطريقاً؛ إذ «التشديد يُحْسِنهُ كُلُّ أحد»( 9)؛ بعكس الرِّفْق والِّلين؛ الذي يحتاجُ إلى مُجاهدةِ النَّفْسِ، ومُقاومة الهوى -وما أشَدَّهُما!-...
خامساً: رفضُ (التقليد)، وبيان أنَّهُ مصادمٌ لدين الله -تعالى-؛ إلَّا لضرورة. «وإنَّما دَخَلَتِ الداخِلةُ على الناسِ مِن قِبَلِ (التقليد)؛ لأنَّهُم إذا تكلَّم العالمُ عند مَن لا يُنْعِمُ النَّظَرَ بشيءٍ: كَتَـبَهُ، وجَعَلَهُ ديناً يَرُدُّ به مَن خالفَهُ!! دونَ أن يعرفَ الوجهَ فيه؛ فيقعُ الخلَلُ!!» (10 )...
سادساً: منعُ الشباب والأَغْرار مِن وُلوجِ الفتن، والدُّخُولِ في الخِلافات (العميقة=الدقيقة)، والتي تُزلزِلُهم عن الهُدى، وتحرِفُهُم إلى الهَوى. وهذه الأُصولُ -كُلُّها- إنَّما نذكُرُها، ونُرَكِّزُ عليها انطِلاقاً مِن باب النَّصيحة الهادفة، والكلمةِ الطيِّبة -دون تربُّصٍ، أو تصيُّد، أو ترصُّدِ-... عسى أن يكونَ لها أثرُها الحَسَنُ المباركُ -بين إخوانِنا ومشايخِنا- في «استئصال شَأْفَةِ الفُرقة وأسبابِها»(11 ).
ممَّا جَعَلَ «الأعداءَ فَرِحِين(11)»؛ لظنِّهم المشؤوم: أنَّ «الدَّعْوَةَ السَّلَفِيَّةَ توقَّفَتْ وضُربت»(11)! ولَئِنْ حصَل شيٌ مِن ذلك -الآنَ!- وهو حاصلٌ بلا رَيْبٍ!- فوا أسَفِي الشَّديد-: فهو تطبيقٌ واقِعِيٌّ لقولِ الله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}...
ولكنَّ الأمرَ -بإذنِ الله-؛ كما قال -سُبحانَه تعالى- وهو العليُّ الكبير-: { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }...
فالأملُ معقودٌ بالله ذي الجلالِ -سبحانه- أنْ يكونَ ذلك الوَهَنُ -كُلُّهُ أو جُلُّهُ- نَبْوَةَ سيف، أو كَبْوَةَ جواد!! لتعودَ الدعوةُ -ودُعاتُها- على جادَّةِ الإنصاف، وطريقِ السَّلامة، وبابِ الأُلفةِ؛ مِن غير إفراطٍ ولا تفريط، ولا غُلُوٍّ ولا تقصير...
ولنْ يتمَّ ذلك -لا في قليلٍ ولا في كثير- إلا بتطبيق- أوامرِ الله -تعالى- وأحكامه؛ التي فيها سعادتُنا في المعاش والمعاد-: {... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} {... وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
والإطارُ الكبيرُ لهذا كُلِّه هو (النصيحةُ)؛ والتي هي -أساساً-: «عنايةُ القلب للمنصوح له -مَن كان-»( 12). ولنْ يكونَ ذلك على وجهِ اليقين -تحقيقاً لِـحُكْمِ الدِّين- إلَّا بـ«أن يُحِبَّ لهم ما يُحِبُّ لنفسِه، و يكرهَ لهم ما يكرَهُ لنفسِه، ويُشْفِق عليهم، ويرحمَ صغيرَهم، ويُوَقِّرَ كبيرَهم، ويحزنَ لحُزْنِهم، ويفرحَ لفرحِهم... ويحبُّ صلاحَهم، وأُلْفَتَهُم، ودوامَ النِّعَمِ عليهم، ونصْرَهم على عَدُوِّهم، ودفْعَ كُلِّ أذىً ومكروهٍ عنهم»( 13).
ولكنْ -بكُلِّ أسىً وأسفٍ-: أين الناصحون الصادقون؟! وأينَ مَن يقبلُ النصيحةَ -ممَّن يتَّقون-؟!
قيل للإمام عبد الله بن المبارك -المتوفَّى سنة (181هـ) -رحمهُ اللهُ-: هل بقي مَن ينصحُ؟!
فقال: «وهل تعرفُ مَن يقبلُ؟!»( 14)... ...
هذا في زمانِه -قبل قرون وقُرونٍ!-؛ فكيف في زمانِنا هذا؟!!
وما أجملَ وصيَّةَ الإمام سفيان الثوري -المتوفَّى سنة (161هـ) -رحمهُ اللهُ- ليوسُفَ بنِ أَسْباط- لعلَّ ذوي النَّصَفَةِ (!) يُدركونها-؛ قال: «إذا بَلَغَكَ عن رجُلٍ بالمشرقِ -صاحب سُنَّة-، وآخَر بالمغرب؛ فابعث إليهما بالسَّلام، وادْعُ لهما... ما أقلَّ أهلَ السُّنَّة والجماعة!»( 15).
فكيف الشأنُ -بالله عليكم- بمَن لا يُقيم وزناً لهذه الحقائق؟! ليكونَ جُلُّ همِّه -بعدُ- التطبيقَ الحِزْبِيَّ الظالمَ الجَائرَ لقاعدةٍ يَسُوقُها -ويُسَوِّقُها!- بالباطل-، ناسِبَها بسُوءِ فِعْلِه وصَنِيعِه -زُوراً وبُهتاناً- إلى منهج السُّنَّةِ، وطريقِ أهلِ السُّنَّةِ-فيهم وعليهم! -قائلاً- غالباً بلسان الحالِ، وأحياناً بلسان المقال!!-: «مَن لم يكن معنا؛ فهو ضِدّنا؛ ولا بُدَّ مِن إسقاطِه»( 16)!! ...
وما ذلك كذلك إلا لأنَّهم -غفر الله لهم- يَبْنُونَ سائرَ مواقِفِهم على ردود الأفعال! والإلزامات! والاحتمالات! والظُّنون! والتخرُّصات!! -هداهُم اللهُ-...
فَأَشْبَهَ حَالُـهُمْ حالَ أولئك القومِ(!) الذين ذكرهم -مُحَذِّراً- بَعْضُ أَفَاضِلِ أَهْلِ عِلْمِ عَصْرِنا -أَعَانَهُ الله-؛ بِقَوْلِهِ: «إنَّ مِن حماقتِهم:
أنَّهُم يسمعونَ كلامَ أهل العلمِ -على غير وجهه-!
ويفهمون غيرَ ما سمعوه -من غلَطِهِ-!
ويكتُبون غيرَ ما فهموه -مغلوطاً-!
ويقرؤون غيرَ ما كتبوه -ممسوخاً-! ...
فيُمْسَخُ كلامُ أهلِ العلمِ -مِن طريقهم- أربعَ مرَّات كاملات»!!!
فأين هم -أُولاء- هداهُم المَوْلَى -سُبحانه- في مواقِفهم مِن إخوانِهم مِن أهل السُّنَّة -إذا زَلُّوا، أو أخطأوا- ممَّا رواهُ البيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» (8336)، وهَنَّادٌ في «الزُّهْد» (1225)، وأبو نُعَيْم في «حِلية الأولياء» (2/285) عن أبي قِلابة؛ قال:
«إذا بَلَغَكَ عن أخيك شيءٌ تكرهُهُ؛ فالتمِس له العُذْرَ جَهْدَك؛ فإنْ لم تجدْ له عُذْراً؛ فقُل في نفسِك: لعلَّ لأخِي عُذراً لا أعلمُهُ!»!؟!
مَعَ لُزُومِ الاستعلامِ، وبذل النصيحة، والحِرْص، والقول الطيِّب، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصَّبْر...
سامِحْ صديقَك إنْ زَلَّتْ به القدَمُ *** فـليس يَسْلَمُ إنسانٌ مِـن الـزَّلَلِ ...
لا أنْ تقفَ لهُ بالمِرصاد؛ تنتظرُ منهُ الهفوةَ، وتتصيَّدُ له الزَّلَّة!!
وإلَّا؛ فلْيَكُن الأمرُ -مَعَهُ- على وَفْقِ ما قيل: وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَن اعتدى وفارِقْ ولكنْ (بالَّــتي هـي أحسنُ) لا: (بالتي هي أخشنُ!)؛ إسقاطاً، وتبديعاً، وتضليلاً، وتنفيراً...
فواجبُ المسلم -الحقّ- على إخوانِه المسلمين -بالحقِّ-: «إعانتُهم على ما حُمِّلُوا القيامَ به، وتنبيهُهم عند الغفلة، وسدُّ خَلَّتِهم عند الهفوة، وجمعُ الكلمةِ عليهم، وَرَدُّ القُلوب النافرةِ إليهم...»( 17).
«فإنَّ الهفوة والزَّلَل.. لا يخلو منه أحدٌ»( 18).
لذا؛ فمِن أجملِ (القول): ما نُقِلَ عن فضيلة الشيخ ربيع بن هادي -وفَّقَهُ اللهُ-: «لا تُقَلِّدُونِي، ورُدُّوا عَلَيَّ خَطَئي، وانْصَحُونِي».
دفعاً لتحرير العقول، وصَفْعاً للمُتَعَصِّبِ الجَهول؛ فجزاهُ اللهُ خيراً، وزادَهُ فضلاً وبِرًّا. ... ذلكُم أنَّ مِن الناسِ -اليومَ- مَن يُخالِفُ قولَهم فعلُهُم؛ وذلك على حَدِّ ما قيل: يقولـونَ أقـوالاً ولا يُثْبِتُونَـها وإنْ قيلَ هاتُوا حَقِّقُوا لمْ يُحَقِّقُوا!! فاللهُ المُستعانُ...
ويُشبه هذا -تأصيلاً سَلَفِيًّا مُباركاً-: ما رواهُ الإمامُ ابنُ أبي يَعلى في «طبقات الحنابلة» (2/392): «سألَ رجلٌ أحمدَ بن حَنْبَلٍ، فقال: أَكْتُبُ كُتُبَ الرَّأْي؟ قال: لا تفعلْ، عليك بالآثار والحديث، فقال له السائلُ: إنَّ عبد الله بن المبارك قد كتبها؟ فقال له أحمد: ابنُ المُبارك لم ينزِلْ مِن السَّماء، إنَّما أُمِرْنَا أن نأخُذَ العِلْمَ مِن فوق».
وما أجملَ ما كتبه العلَّامةُ الشيخُ سُليمان بن سَحْمَان -رحمهُ الله- في «الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النجدية» (8/490) -لبعض إخوانِه- تصحيحاً لِـمَا أَخْطَأ به في بعضِ ما كَتَبَهُ-: «وتذكَّرْ: أنِّي إنْ رأيتُ في كلامِك عثرةً، أو هفوةً؛ فـ«المؤمنُ مرآة أخيه»( 19).
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 21.10.08 8:24 عدل 4 مرات