نوح ما جرى عليه من قومه، وهكذا هود وصالح وغيرهم، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وإمام المتقين، وأفضل المجاهدين، ورسول رب العالمين، قد عُلم ما أصابه بمكة وفي المدينة وفي الحروب، ولكنه صبر صبراً عظيماً حتى أظهره الله على أعدائه وخصومه، ثم ختم له سبحانه وتعالى بأن فتح عليه مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما أتم الله النعمة عليه وعلى أمته، وأكمل لهم الدين، اختاره إلى الرفيق الأعلى، وإلى جواره عليه الصلاة والسلام بعد المحنة العظيمة، والصبر العظيم والبلاء الشديد، فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم أو يقول متى كنت متقياً أو مؤمناً فلا يصيبني شيء، ليس الأمر كذلك بل لابد من الامتحان، ومن صبر حمد العاقبة، كما قال الله جل وعلا: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[23]، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[24]، فالعاقبة الحميدة لأهل التقوى، متى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[25].
فأنت يا عبد الله في أشد الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها، ولو جرى ما جرى من الامتحان، ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو
الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالي، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم، وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر فإن قلت: ما هي التقوى؟ فقد سبق لك شيء من بيانها، وقد تنوعت عبارات العلماء في التقوى، وروي عن عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين رضي الله عنه ورحمه أنه قال: (ليس تقوى الله بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء فرائض الله وترك محارمه، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير) أ.هـ. فمن رزق بعد أداء الفرائض وترك المحارم نشاطاً في فعل النوافل وترك المكروهات والمشتبهات فهو خير إلى خير.
وقال طلق بن حبيب التابعي المشهور رحمه الله: (تقوى الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تدع معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله). وقال بعضهم في تفسيرها: التقوى طاعة الله ورسوله، وقال آخرون: التقوى أن تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيك ذلك بفعل الأوامر وترك النواهي.
وكل هذه العبارات معانيها صحيحة. فالتقوى حقيقتها هي: دين الإسلام، وهي: الإيمان والعمل الصالح، وهي: العلم النافع والعمل به، وهي: الصراط المستقيم، وهي: الاستسلام لله والانقياد له جل وعلا بفعل الأوامر وترك النواهي؛ عن إخلاص كامل له سبحانه، وعن إيمانه به ورسله، وعن إيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، إيماناً صادقاً يثمر أداء الخير، والحذر من الشر، والوقوف عند الحدود
وإنما سمى الله دينه تقوى؛ لأنه يقي من استقام عليه عذاب الله وغضبه، ويحسن لربه العاقبة جل وعلا، وسمى هذا الدين إسلاماً؛ لأن المسلم يسلم نفسه لله وينقاد لأمره، يقال: أسلم فلان لفلان، أي انقاد له
ولهذا سمى الله دينه إسلاماً في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ[26] وغيرها من الآيات؛ لأن المسلم انقاد لأمر الله وذل لعظمته، فالمسلم حقاً ينقاد لأمر الله، ويبتعد عن نهيه، ويقف عند حدوده، قد أعطى القيادة لربه فهو عبد مأمور، رضاه وأنسه ومحبته ونعيمه في امتثال أمر الله وترك نهيه، هذا هو المسلم الحق.
ولهذا قيل له: مسلم، يعني منقاداً لأمر الله، تاركاً لمحارمه، واقفاً عند حدوده، يعلم أنه عبد مأمور عليه الامتثال، ولهذا سمي الدين عبادة كما سمي إسلاماً، سمي عبادة كما في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[27]، وفي قوله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ[28]، فسمي عبادة؛ لأن العباد يؤدون أوامر الله ويتركون نواهيه عن ذل وخضوع وانكسار، وعن اعتراف بالعبودية، وأنهم مماليك لله وأنه سيدهم، وأنه القاهر فوقهم، وأنه العالم بأحوالهم، وأنه المدبر لشؤونهم، فهم عبيد مأمورون ذليلون منقادون لأمره سبحانه وتعالى.
فلهذا سمى الله دينه عبادة؛ لأن العبادة عند العرب هي: التذلل والخضوع والانكسار، يقولون: طريق معبد، يعني مذلل قد وطأته الأقدام،
ويقولون أيضاً: بعير معبد، يعني قد شد ورحل حتى ذل للركوب والشد عليه، فسميت طاعاتنا لله عباده؛ لأننا نؤديها بالذل والخضوع لله جل وعلا، وسمي العبد عبداً؛ لأنه ذليل بين يدي الله مقهور مربوب للذي خلقه وأوجده، وهو المتصرف فيه سبحانه وتعالى.
وسمي هذا الدين أيضاً إيماناً؛ لأن العباد يؤدونه عن إيمان بالله وتصديق به ورسله، فلهذا سمي دين الله إيماناً لهذا المعنى، كما في الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم.
فبين عليه الصلاة والسلام أن الدين كله إيمان، وأن أعلاه قول: لا إله إلا الله، فعلمنا بذلك أن الدين كله عند الله إيمان، ولهذا قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[29] فسماهم بذلك، لأنك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر تؤدي أعمالك وطاعتك، وتترك المحارم عن إيمان وتصديق بأن الله أمرك بذلك، ونهاك عن المحارم، وأنه يرضى منك هذا العمل ويثيبك عليه، وأنه ربك ولم يغفل عنك وأنت تؤمن بهذا، ولهذا فعلت ما فعلت، فأديت الفرائض، وتركت المحارم، ووقفت عند الحدود، وجاهدت نفسك لله عز وجل.
وسمى الدين براً؛ لأن خصاله كلها خير. وسمى هذا الدين هدى؛ لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمال؛ لأن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليكمل مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وفي حديث أنيس أخي أبي ذر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مكارم الأخلاق)
فهذا الدين سمي هدى؛ لأنه يهدي من استقام عليه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى[30]، وقال في أهله: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ[31]، وقال في أهله أيضاً: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[32] وبهذا تعلم يا أخي معنى هذه الألفاظ: "الإسلام"، "الإيمان"، "التقوى"، "الهدى"، "البر"، "العبادة"، إلى غير ذلك.
وتعلم أيضاً أن هذا الدين الإسلامي قد جمع الخير كله، فمن استقام عليه وحافظ عليه وأدى حقه وجاهد نفسه بذلك فهو متقٍ لله، وهو موعود بالجنة والكرامة، وهو موعود بتفريج الكروب وتيسير الأمور، وهو الموعود بغفران الذنوب وحط الخطايا، وهو الموعود بالنصر على الأعداء والسلامة من مكائدهم إذا استقام على دين الله وصبر عليه، وجاهد نفسه لله، وأدى حق الله وحق عباده، فهذا هو المتقي وهو المؤمن، وهو البر، وهو المفلح، وهو المهتدي والصالح، وهو المتقي لله عز وجل، وهو المسلم الحق.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع المسلمين للتقوى، وأن يأخذ بأيدينا جميعاً لما يرضيه، وأن يجعلنا جميعاً من عباده الصالحين ومن حزبه المفلحين، وأن يمن علينا بالاستقامة على تقواه في كل أقوالنا وأعمالنا، والدعوة إلى ذلك والصبر عليه إنه سبحانه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.