في توجيه حديثي عائشة ومعاذ رضي الله عنهما
في العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد للشيخ
العلامة محمد فركوس حفظه الله
السـؤال:
لقد طرحتم مسألةَ عدمِ العُذر بالجهل في أصولِ الإيمان والتوحيد في إحدى الفتاوى المتعلِّقة بالعقيدة، وقد أحببتُ أن أعرف ما إذا كان هذا الحكم غير معارض بشكِّ عائشة رضي الله عنها عندما قالت للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»، وبحديث سجود معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقد نهاه وأعذره عمَّا هو من الشرك الأكبر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمَّا قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»(١- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2255)، من حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ قُلْنَا: بَلَى. قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ. ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا. فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ. فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ. فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ. فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ. فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ: «مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيةً»، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْء. قَالَ: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»، قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ. فَأَجَبْتُهُ. فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَّ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ. وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ». قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «قُولِي: السَّلاَمُ عَلَىٰ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَلاَحِقُونَ») فليس فيه شكّ في علمِ الله تعالى، بل بالعكس فيه تقرير للعلم، ويدلُّ على ذلك تصديق نفسها حيث أكدَّت مقالتها بالإثبات.
قال النووي: «وهو صحيح، وكأنَّها لما قالت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، صدَّقت نفسها، فقالت: نَعَمْ»(٢- «شرح مسلم» للنووي: (7/44))، فليس في عبارتها محذورٌ شرعي إذ لو وقعت فيه حقيقة للزم البيان على الفور من غير تَراخٍ، وخاصَّة في مسائل الإيمان والاعتقاد؛ لأنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ» قولاً واحدًا عند أهل العلم، ولما عدم البيان في موضع الحاجة إليه دلَّ على العدم، بل دلَّ على صِحَّة معتقدها الذي أكدته بالتصديق «بنعم».
هذا، ولا ينبغي أن يضاف -لأُمِّنا عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الدنيا والآخرة، وأفقه نساء المؤمنين- الشكّ في صفة ذاتية لله سبحانه المتعلِّقة بالعلم، كيف وقد أسلمت في العهد المكي، وتربَّت في بيت النبوة التي يُتلى فيه آياتُ الله والحكمة، ومن آيات الله قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: 6]، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وأمَّا سجود معاذ رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(٣- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة: (1853)، وأحمد في «مسنده»: (18913): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ: «مَا هٰذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ. فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذلِكَ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «فَلاَ تَفْعَلُوا. فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ، لَمْ تَمْنَعْهُ». والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء»: (7/56)) فما عليه جمهور أهل العلم والحديث أنّه سجود تحية لا عبادة، وقد كان مثل هذا السجود جائزًا في الشرائع السابقة إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، وبقي ذلك على الجواز من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة بما في حديث معاذ رضي الله عنه، وأصبح السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، قال ابن كثير -رحمه الله- في معرض قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]: «فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكتَه، وقال بعضُ الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنَّه نسخ في مِلتنَا، قال معاذ: (ثمّ ذكر الحديث)»(٤- «تفسير ابن كثير»: (1/77، 2/491)).
هذا، ولا يخفى أنَّ السجود لغير الله على وجه العبادة شركٌ محرَّم في كلِّ الشرائع السابقة، فكيف يسوغ أن ينسب هذا الأمر الجَلل من عِبادة غير الله إلى هذا الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمناظرة أهل الكتاب وتبليغهم التوحيد وأصل الدِّين، ثمَّ إنه -من ناحية أخرى- لو كان السجود للعبادة لما قال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»، وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يأمر بالمعصية بَلْهَ السجود لغير الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 80].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 31 مـاي 2008م
في العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد للشيخ
العلامة محمد فركوس حفظه الله
السـؤال:
لقد طرحتم مسألةَ عدمِ العُذر بالجهل في أصولِ الإيمان والتوحيد في إحدى الفتاوى المتعلِّقة بالعقيدة، وقد أحببتُ أن أعرف ما إذا كان هذا الحكم غير معارض بشكِّ عائشة رضي الله عنها عندما قالت للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»، وبحديث سجود معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقد نهاه وأعذره عمَّا هو من الشرك الأكبر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمَّا قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ»(١- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2255)، من حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ قُلْنَا: بَلَى. قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ. ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا. فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ. فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ. فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ. فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ. فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ: «مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيةً»، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْء. قَالَ: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»، قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ. فَأَجَبْتُهُ. فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَّ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ. وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ». قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «قُولِي: السَّلاَمُ عَلَىٰ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَلاَحِقُونَ») فليس فيه شكّ في علمِ الله تعالى، بل بالعكس فيه تقرير للعلم، ويدلُّ على ذلك تصديق نفسها حيث أكدَّت مقالتها بالإثبات.
قال النووي: «وهو صحيح، وكأنَّها لما قالت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، صدَّقت نفسها، فقالت: نَعَمْ»(٢- «شرح مسلم» للنووي: (7/44))، فليس في عبارتها محذورٌ شرعي إذ لو وقعت فيه حقيقة للزم البيان على الفور من غير تَراخٍ، وخاصَّة في مسائل الإيمان والاعتقاد؛ لأنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ» قولاً واحدًا عند أهل العلم، ولما عدم البيان في موضع الحاجة إليه دلَّ على العدم، بل دلَّ على صِحَّة معتقدها الذي أكدته بالتصديق «بنعم».
هذا، ولا ينبغي أن يضاف -لأُمِّنا عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الدنيا والآخرة، وأفقه نساء المؤمنين- الشكّ في صفة ذاتية لله سبحانه المتعلِّقة بالعلم، كيف وقد أسلمت في العهد المكي، وتربَّت في بيت النبوة التي يُتلى فيه آياتُ الله والحكمة، ومن آيات الله قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: 6]، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وأمَّا سجود معاذ رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(٣- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة: (1853)، وأحمد في «مسنده»: (18913): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ: «مَا هٰذَا يَا مُعَاذُ؟» قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ. فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذلِكَ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «فَلاَ تَفْعَلُوا. فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ، لَمْ تَمْنَعْهُ». والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء»: (7/56)) فما عليه جمهور أهل العلم والحديث أنّه سجود تحية لا عبادة، وقد كان مثل هذا السجود جائزًا في الشرائع السابقة إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، وبقي ذلك على الجواز من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة بما في حديث معاذ رضي الله عنه، وأصبح السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، قال ابن كثير -رحمه الله- في معرض قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]: «فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكتَه، وقال بعضُ الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾ [يوسف: 100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنَّه نسخ في مِلتنَا، قال معاذ: (ثمّ ذكر الحديث)»(٤- «تفسير ابن كثير»: (1/77، 2/491)).
هذا، ولا يخفى أنَّ السجود لغير الله على وجه العبادة شركٌ محرَّم في كلِّ الشرائع السابقة، فكيف يسوغ أن ينسب هذا الأمر الجَلل من عِبادة غير الله إلى هذا الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمناظرة أهل الكتاب وتبليغهم التوحيد وأصل الدِّين، ثمَّ إنه -من ناحية أخرى- لو كان السجود للعبادة لما قال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»، وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يأمر بالمعصية بَلْهَ السجود لغير الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 80].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 31 مـاي 2008م