نشأة علم التخريج وأطواره
د. عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
المصدر: مجلة عالم الكتب، مج22، ع3-4،
أما بعد:
والتخريج أيضاً حاله حال بقية الفنون نشأ عند الحاجة إليه، ثم مر بأطوار حتى وصل إلينا بهذه الصورة، ولا شك أن معرفة تاريخ الفن ومراحل نشأته وأطواره أمر مهم لطالب العلم والمتخصص فيه، وأهل السنة وفرسان الحديث والغواصون في بحاره يحتاجون للتدلي بحبال التخريج، كي يصلوا إلى الدرر في أعماقه وصدفه، ولابد أن تستشرف نفوسهم لمعرفة من نسج تلك الحبال، وكيف نسجها، وهذا بلا ريب يحدث في النفس طمأنينة ويقيناً لا يستغني عنهما ذلك الباحث، فإذا ما عرف القواعد التي وضعها أولئك الأئمة، وكيف نقدوها وطبقوها عملياً في مصنفاتهم، وكيف أن اللاحق يستدرك على السابق، ويكمل نقصه، أدرك أن هذا البناء لم يكن وليد اجتهاد معاصر، بل كان المتأخرون قاطفي ثمرة وحسب، لموّا شتاتها، ورصوا بنيانها، ونسقوا صفوفها، ومع ذلك فلا يزال في هذه المحاولات بعض الثغرات التي تحتاج إلى سد، ومنها موضوع هذا البحث حيث لم أر من اعتنى به استقلالاً، وبشكل مفصل، مع أهميته وشدة الحاجة إليه، حيث ذكره المصنفون –حديثاً- في قواعد التخريج وأصوله عرضاً، وغالباً ما يوردونه باختصار في مطالع كتبهم[4]، أو يختلط الكلام فيه بمناهج المحدثين وتاريخ السنة النبوية عموماً، فيكاد تاريخ علم التخريج أن يتلاشى، أو يصعب تمييزه عنهما[5]، أو حتى لا يكون له ذكر واضح في الكتاب عموماً[6].
لأجل ذلك كله رأيت من الأهمية بمكان أن أفرد هذا الموضوع بالبحث، وأسطر للمعنيين بعلم الحديث خصوصاً، ولطلاب العلم عموماً هذه الورقات، مشاركة مني في خدمة السنة النبوية، فهي الشجرة المباركة التي ما خاب من استظل بظلها ناهيك عن من سقاها واعتنى بها وحماها.
وينبغي أن يعلم أن مما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع أيضاً أني كنت على علاقة مباشرة وطويلة بالتخريج نظرياً وعملياً، حيث قضيت في أثناء ذلك ما يزيد عن خمسة عشر عاماً، منها ما يزيد عن ثماني سنوات وأنا أدرس هذه المادة لطلبة كلية أصول الدين، فكنت أجمع بعض الملاحظات، وأحدد بعض الثغرات التي تحتاج إلى تعاون لسدها ومعالجتها، فكان هذا البحث بفضل الله باكورة ما رغبت في إبرازه لإخواني، وما قصدت به المشاركة في هذا الميدان، هادفاً بإذن الله إلى تحقيق التكامل، والمساعدة في تشييد البناء، مع الاعتراف بفضل السابقين من مشايخي الفضلاء، وأساتذتي النبلاء، وبتقصيري عما أتمناه وأرجوه، وقد سرت في هذا البحث وفق الخطة التالية:
أولاً: المقدمة وتشتمل على أهمية البحث وسبب اختياره وخطتي فيه.
ثالثاً: المبحث الأول: المراحل التاريخية لعلم التخريج، وأطواره.
رابعاً: المبحث الثاني: أنواع التخريج.
خامساً: تصور إجمالي للتخريج:
سادساً: المبحث الرابع: أقسام المصادر التي يخرج منها.
سابعاً: أبرز المؤلفات في طرق التخريج وقواعده.
د. عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
المصدر: مجلة عالم الكتب، مج22، ع3-4،
المقدمة:
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[1] {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[2] {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[3].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن علم التخريج من العلوم التي شرفها الله؛ لكونه وسيلة من وسائل الوصول إلى السنة وتيسير التعامل معها، وهو من المعارف المهمة للأمة؛ لأنه به يمكن التعامل والإفادة من دواوين السنة – التي هي المصدر الثاني للشرع – وإلا أصبح هناك فجوة كبيرة بين المسلم وذلك المصدر العظيم، فدواوين السنة كثيرة جداً، ومناهجها مختلفة، والأحاديث والآثار ضرورية لمن أراد فهم مراد الله في هذا الشرع الذي أنزله، كما أنه الطريق الأبرز لمن أراد خدمة السنة والذب عن حياضها، وبه يتحقق من الزيف والصحيح، ويعرف الغث من السمين.
والتخريج أيضاً حاله حال بقية الفنون نشأ عند الحاجة إليه، ثم مر بأطوار حتى وصل إلينا بهذه الصورة، ولا شك أن معرفة تاريخ الفن ومراحل نشأته وأطواره أمر مهم لطالب العلم والمتخصص فيه، وأهل السنة وفرسان الحديث والغواصون في بحاره يحتاجون للتدلي بحبال التخريج، كي يصلوا إلى الدرر في أعماقه وصدفه، ولابد أن تستشرف نفوسهم لمعرفة من نسج تلك الحبال، وكيف نسجها، وهذا بلا ريب يحدث في النفس طمأنينة ويقيناً لا يستغني عنهما ذلك الباحث، فإذا ما عرف القواعد التي وضعها أولئك الأئمة، وكيف نقدوها وطبقوها عملياً في مصنفاتهم، وكيف أن اللاحق يستدرك على السابق، ويكمل نقصه، أدرك أن هذا البناء لم يكن وليد اجتهاد معاصر، بل كان المتأخرون قاطفي ثمرة وحسب، لموّا شتاتها، ورصوا بنيانها، ونسقوا صفوفها، ومع ذلك فلا يزال في هذه المحاولات بعض الثغرات التي تحتاج إلى سد، ومنها موضوع هذا البحث حيث لم أر من اعتنى به استقلالاً، وبشكل مفصل، مع أهميته وشدة الحاجة إليه، حيث ذكره المصنفون –حديثاً- في قواعد التخريج وأصوله عرضاً، وغالباً ما يوردونه باختصار في مطالع كتبهم[4]، أو يختلط الكلام فيه بمناهج المحدثين وتاريخ السنة النبوية عموماً، فيكاد تاريخ علم التخريج أن يتلاشى، أو يصعب تمييزه عنهما[5]، أو حتى لا يكون له ذكر واضح في الكتاب عموماً[6].
لأجل ذلك كله رأيت من الأهمية بمكان أن أفرد هذا الموضوع بالبحث، وأسطر للمعنيين بعلم الحديث خصوصاً، ولطلاب العلم عموماً هذه الورقات، مشاركة مني في خدمة السنة النبوية، فهي الشجرة المباركة التي ما خاب من استظل بظلها ناهيك عن من سقاها واعتنى بها وحماها.
وينبغي أن يعلم أن مما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع أيضاً أني كنت على علاقة مباشرة وطويلة بالتخريج نظرياً وعملياً، حيث قضيت في أثناء ذلك ما يزيد عن خمسة عشر عاماً، منها ما يزيد عن ثماني سنوات وأنا أدرس هذه المادة لطلبة كلية أصول الدين، فكنت أجمع بعض الملاحظات، وأحدد بعض الثغرات التي تحتاج إلى تعاون لسدها ومعالجتها، فكان هذا البحث بفضل الله باكورة ما رغبت في إبرازه لإخواني، وما قصدت به المشاركة في هذا الميدان، هادفاً بإذن الله إلى تحقيق التكامل، والمساعدة في تشييد البناء، مع الاعتراف بفضل السابقين من مشايخي الفضلاء، وأساتذتي النبلاء، وبتقصيري عما أتمناه وأرجوه، وقد سرت في هذا البحث وفق الخطة التالية:
أولاً: المقدمة وتشتمل على أهمية البحث وسبب اختياره وخطتي فيه.
ثانياً: التمهيد. ويشتمل على عنصرين:
1- تعريف التخريج لغة واصطلاحاً.
2- موضوع علم التخريج وأهميته وفائدته.
وبينت هناك أن علم التخريج ينقسم إلى قسمين: نظري وتطبيقي، وألقيت الضوء على جانب من جهود العلماء في هذا المجال، وأنها حققت بفضل الله حماية وصيانة السنة، وكذلك تيسيراً وتقريباً لها بين يدي الأمة.
ثالثاً: المبحث الأول: المراحل التاريخية لعلم التخريج، وأطواره.
وقد تحدثت فيه عن المراحل التي مر بها الجانب النظري منه، ثم الجانب التطبيقي، وبينت أن الاصطلاح الذي استقر عليه المحدثون بأن المراد بالتخريج هو "عزو الحديث والدلالة على موضعه في مصادره الأصلية التي أخرجته بسنده". هذا المعنى قد نشأ مبكراً، وأن الإمام البيهقي – رحمه الله – من أوائل من استخدمه، وأن هذا الاصطلاح مر بأطوار، كل واحد أيسر وأوضح من سابقه، حتى وصل إلينا الآن. ثم بينت الأسباب الإجمالية لهذا التغير.
رابعاً: المبحث الثاني: أنواع التخريج.
وبينت فيه أن أنواع التخريج ثلاثة: مختصر، ومتوسط، وموسع: لأن البعض قد يجهل هذا التقسيم، ويستغرب، وربما ينتقد عمل ذلك المحدث وتطويله في استيعاب الطرق والمخارج، وبيان اختلاف الروايات، أو ذلك المحدث الذي اختصر تخريجه جداً، واقتصر على ذكر المخرج فقط، وكأن الأول زاد عن الحاجة، والثاني قصر دونها، وما علموا أن هذا منهج معتبر عند أهل الفن، يراعون فيه الحال والمقام، ولذا يقول الحافظ العراقي-رحمه الله- في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين المسمى "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار": لكني اختصرته في غاية الاختصار، ليسهل تحصيله وحمله في الأسفار[7].
وذكرت هناك أمثلة للكتب التي نهجت في تخريجها الأنواع الثلاثة التي ذكرتها آنفاً، ونماذج منها يتبين للقارئ الفرق بينها.
خامساً: تصور إجمالي للتخريج:
وبينت فيه أن التخريج إجمالاً يرجع إلى إحدى طريقتين هما:
1 - تخريج الحديث بواسطة إسناده.
2 - تخريج الحديث بواسطة متنه.
وذكرت في آخر المبحث بعض الأسباب المهمة التي تعين على التمكن في هذا الفن.
سادساً: المبحث الرابع: أقسام المصادر التي يخرج منها.
وفيه بينت أن المصادر تنقسم إلى قسمين: أصلية، وغير أصلية-وتسمى أحياناً "فرعية"-، وبيان المقصود من كل قسم وكيفية التعامل معها، والعزو إليها، ومتى يصح التخريج من المصادر غير الأصلية، واصطلاح المحدثين في الصيغ المختصرة في وصف المتن أثناء التخريج.
سابعاً: أبرز المؤلفات في طرق التخريج وقواعده.
وذكرت فيه أن التصنيف في قواعد التخريج وأسسه في كتابٍ مستقل قد تأخر إلى عصرنا الحاضر، ومع ذلك حاولت ترتيب هذه المصنفات التي ذكرتها زمنياً، لما في ذلك من الفوائد التي لا تخفى، وليس هذا موضع ذكرها.
ثم ختمت بخاتمة بينت فيها أبرز النتائج التي وصلت إليها.
وقد سلكت في استخراج المادة العلمية للبحث جمع قواعده النظرية من مباحث علوم الحديث ومقدمات كتب التخريج، وربط ذلك بالواقع العملي في مصنفات الحديث، وخصوصاً كتب التخريج العملي كنصب الراية والتلخيص الجبير، مع مقارنة ذلك بما كتبه المؤلفون في قواعد التخريج، وبيان مواطن الاتفاق والاختلاف، والترجيح إذا دعت الحاجة.
أسأل الله التوفيق والسداد، وحسن القصد في القول والعمل، وأن يجعل ما سطرته نافعاً ومباركاً في كل زمان ومكان، وأن يكون مصباحاً يستضيء به السالكون دروب السنة؛ إنه جواد بر رؤوف رحيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
.