تأمُّلات في مماثلة المؤمن للنخلة
للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غرس شجرةَ الإيمان في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصَّهم بوافرِ فضلِه وجزيل نعمته، وفضّلهم بمنِّه ورحمتِه على سائر خليقتِه، فهي ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد بن عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالَمين، وقُدوةً للعامِلين، ومَحَجَّةً للسالكين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على مسلمٍ ما للإيمانِ من أهميّةٍ عظيمةٍ، ومكانةٍ عاليةٍ رفيعةٍ، ودرجةٍ ساميةٍ مُنِيفةٍ، فهو أعظمُ المطالبِ، وأَجَلُّ المقاصدِ، وأنبلُ الأهداف؛ إذ به ينال العبدُ سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُدرِك أهمَّ المطالب وأجَلَّ المقاصد، ويظفرُ بالجنَّةِ ونعيمِها، وينجو من النارِ وسخَطِ الجبَّارِ، وينالُ رضى الربِّ فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذّذُ بالنظرِ إلى وجهه الكريم في غير ضرّاءَ مضرّة ولا فتنةٍ مضلّةٍ، وثمراتُ الإيمان وفوائدُه كثيرةٌ لا تُحصى، فكم للإيمان من فوائدَ عظيمة، وثمارٍ يانِعةٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة.
ولما كان الإيمان بهذه المثابة وعلى هذا القدرِ من الأهمية، كانت النصوص المبيّنة لفضله والدالّة على شريف قدره كثيرةً جداً ومتنوّعةً؛ إذ إنَّ مِن حكمة الله البالغة ونعمته السابغة على عباده أنْ جعل الأمر كلَّما كانت الحاجة إليه أعظم والضرورة إليه ألزم كانت براهينُه وطرقُ تحصيله وسُبُلُ نيلِه أوفر وأكثر، وحاجة العباد إلى الإيمان هي أعظم الحاجات، وهي أعظم من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم؛ ولذا كانت دلائلُ الإيمانِ أقوى الدلائل، وبراهينُه أصحَّ البراهين، وسبلُ نيله وتحصيله أيسرَ السبل مسلكاً وأقربَها مأخذاً وأسهلَها مُتناولا؛ ولذا أيضا تنوّعت وتعدّدت براهينُ الإيمان ودلائله الموضحة له إجمالاً وتفصيلاً.
وإنَّ مِن أعظم دلائل الإيمان التي اشتمل عليها القرآن ضربَ الأمثال التي بها تتّضح حقيقتُه، وتستبينُ تفاصيلُه وشعبُه، وتظهرُ ثمرتُه وفوائدُه.
والمَثَلُ هو عبارة عن قولٍ في شيء يُشبِه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة لتبيين أحدهما من الآخر وتصويره، ولا ريب «أنَّ ضربَ الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى ـ وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين ـ: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، وقد اشتمل منها [أي القرآن] على بضعة وأربعين مثلاً، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلاً لم يفهمه يشتدُّ بكاؤُه ويقول: لست من العالِمين»(1).
وكان قتادة يقول: «اعقِلوا عن الله الأمثال»(2).
ومن هنا رأيتُ أن أقدِّم هذه الدراسة لأحدِ أمثال القرآن والسنة المشتملة على بيان الإيمان وتقريبه، وإيضاح أصلِه وفرعه وشُعبِه وثمراته، ومن الله وحده العونُ والتوفيقُ.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24، 25]، فهذا مَثَلٌ بديعٌ عظيمُ الفائدةِ، مُطابقٌ لما ضُرِب له تمام المطابقة، وقد بدأه الله بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾ أي: ألم ترَ بعين قلبِك فتعلمَ كيف مثّل الله مثلاً وشبّهه شبهاً للكلمة الطيّبة كلمة الإيمان، وختَمَه بقوله: ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: أن القصد من ضرب هذا المثل وغيرِه من الأمثال هو تذكيرُ الناس ودعوتُهم إلى الاعتبار وعقلِ الخطاب عن الله.
ولا شك أنَّ هذا البدء والختم في الآية فيه أعظم حَضٍّ على تعلُّمِ هذا المثل وتَعَقُّلِه، وفيه دلالة على عِظم شأن هذا المثل المضروب، كيف لا وهو يتناول بيان الإيمان الذي هو أعظم المطالب وأشرف المقاصدِ على الإطلاق.
وعندما نتأمّل هذا المثل العظيم نجِدُ أنَّ الله تبارك وتعالى ذَكَر فيه مُمثَّلاً له، ومُمثَّلاً به، ووجهَ المثلية بينهما، فالممثَّلُ له هو الكلمة الطيّبة، والممثَّلُ به الشجرة الطيّبة، ووجه المثلية هو كما قال الله: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، فشبَّهَ تبارك وتعالى كلمةَ الإيمان الثابتة في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من فروع وشُعب وثمار بالشجرة الطيّبة الثابتة الأصل الباسقةِ الفرع في السماء علوّاً، التي لا تزالُ تؤتي ثمراتها كلَّ حين، ومن يتأمّل في المُمثّلِ به وهو الشجرة الطيّبة، والممثّل له وهو كلمة الإيمان في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من ثمارٍ يجدُ أوصافاً عديدةً متطابقة بينهما، وقد أُشيرَ إلى بعضها في الآية كما تقدّم.
ولذا يقول ابن القيّم رحمه الله: «وإذا تأمَّلتَ هذا التشبيه رأيتَه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعُها من الأعمال الصالحة صاعدةً إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كلَّ وقتٍ، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصِه فيها، ومعرفتِه بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتِها حقَّ رعايتها، فمَن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتَّصف قلبُه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسنَ صبغة منها، فعرَفَ حقيقةَ الإلهية التي يُثْبِتها قلبُه لله ويشهدُ بها لسانُه وتصدِّقُها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمَها عن كلِّ ما سوى الله، وواطأَ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحُه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سُبلَ ربِّه ذُلُلاً غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبودِه الحق بدلا؛ فلا ريب أنَّ هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرَتَها من العمل الصالح الصاعدِ إلى الله كلَّ وقت، فهذه الكلمة الطيّبةُ هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمةُ الطيّبةُ تُثمرُ كلماً كثيراً طيّباً يقارنُه عملٌ صالحٌ فيرفع العملُ الصالح الكلمَ الطيّب، كما قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فأخبر سبحانه أنَّ العملَ الصالحَ يرفعُ الكلِمَ الطيِّب، وأخبر أنَّ الكلمةَ الطيّبة تُثمر لقائلها عملاً صالحاً كلَّ وقت.
والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً، متَّصفاً بموجبها قائماً قلبُه ولسانُه وجوارحُه بشهادته؛ فهذه الكلمةُ الطيّبةُ هي التي رفعتْ هذا العملَ من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كلَّ وقت»(3).
وقد صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشجرةَ الطيّبة هي النخلة، وذلك فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مخرّج في الصحيحين من طرق كثيرة عنه رضي الله عنه.
فقد روى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي(4). قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: هي النخلة».
قال: فذكرتُ ذلك لعُمر. قال: لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا(5)، وهذا لفظ مسلم.
ورواه البخاري من طريق سليمان، عن عبد الله بن دينار به(6).
ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار به(7).
وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي نُجيح، عن مجاهد قال: صحِبتُ ابنَ عمر إلى المدينة فلم أَسمعهُ يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُتي بجُمّار، فقال: «إنَّ من الشجر شجرةً مثلها كمثل المسلم». فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(8).
ورواه البخاري من طريق أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جُمَّاراً، فقال: «من الشجر شجرةٌ كالرجل المؤمن». فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أحدَثهم. قال: «هي النخلة»(9).
ورواه البخاري من طريق الأعمش قال: حدّثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسٌ، إذ أُتي بجُمّار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم». فظننت أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله، ثم التفتُّ فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم، فسكتُّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(10).
ورواه البخاري من طريق زُبيد، عن مجاهد به مختصراً(11).
ورواه مسلم من طريق أبي خليل الضُّبَعيِّ، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: «أخبروني عن شجرة، مثلُها مثلُ المؤمن»، فجعل القوم يذكرون شجراً من البوادي. قال ابن عمر: وأُلقي في نفسي أو روعي أنها النخلة. فجعلتُ أريد أن أقولها، فإذا أسنانُ القوم، فأهابُ أن أتكلّم، فلما سكتوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(12).
ورواه مسلم أيضاً من طريق سيف، عن مجاهد به(13).
وروى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة تُشبه أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُها ولا ولا ولا(14)، تؤتي أكلها كلَّ حين. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنَّها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهتُ أن أتكلّم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة. فقال: ما منعك أن تكلَّم؟ قال: لم أرَكُم تكلَّمون فكرهتُ أن أتكلم أو أقول شيئاً. قال عمر: لأَنْ تكون قلتَها أحبُّ إليّ من كذا وكذا»(15).
وروى البخاري من طريق محارب بن دِثار: سمعت ابنَ عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ. فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة ـ وأنا غلام شاب ـ فاستحييت، فقال: هي النخلة»(16).
ورواه البخاري تعليقاً من طريق حفص بن عاصم، عن ابن عمر مثله(17).
فهذا مجموع ما في الصحيحين من طرق لهذا الحديث العظيم، وللحديث طرقٌ أخرى خارج الصحيحين في السنن والمسانيد والمعاجم، سيأتي الإشارة إلى شيء منها.
ثم إنَّ البخاري ـ رحمه الله ـ وقد روى الحديث في مواطن عديدة من صحيحه فقد روى الحديث في كتاب التفسير من صحيحه، في باب: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾، وهو بذلك يشير إلى أنَّ المراد بالشجرة المذكورة في الآية هي النخلة، فيكون الحديث بذلك مفسِّراً للآية.
وقد ورد هذا صريحاً فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ...﴾ فقال: أتدرون ما هي؟ قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلّم مكان سِنِّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة»(18).
قال ابن حجر: «ويُجمع بين هذا وبين ما تقدّم أنَّه صلى الله عليه وسلم أُتي بالجُمّار فشرع في أكله تالياً للآية قائلاً: إنَّ مِنَ الشجر شجرةً ... إلى آخره، ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ ...» فذكر الحديث، وهو يؤيّد رواية البزار»(19).
ويؤيّد هذا أيضاً الروايات الكثيرة الواردة عن السلف الصحابة وغيرهم في تفسير الشجرة الطيّبة في الآية بأنَّها النخلة.
فقد روى الترمذي وغيره عن شعيب بن الحبحاب قال: كنّا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب، فقال أنس رضي الله عنه لأبي العالية: «كُلْ يا أبا العالية، فإنَّ هذا من الشجرة التي ذَكَر الله في كتابه ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا﴾ قال: هكذا قرأها يومئذ أنس».
ورواه الترمذي من وجه آخر مرفوعاً، وقال: «هذا الموقوف أصح»(20).
وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السلف، منهم: ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد(21).
وقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعنى المتقدّم، وهو تشبيه المؤمن بالنخلة في أوجز عبارة، وذلك فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها مِنْ شيئٍ نفعك»(22).
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدة.
للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غرس شجرةَ الإيمان في قلوب من اختارهم لعبوديته، واختصَّهم بوافرِ فضلِه وجزيل نعمته، وفضّلهم بمنِّه ورحمتِه على سائر خليقتِه، فهي ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد بن عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أرسله رحمةً للعالَمين، وقُدوةً للعامِلين، ومَحَجَّةً للسالكين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على مسلمٍ ما للإيمانِ من أهميّةٍ عظيمةٍ، ومكانةٍ عاليةٍ رفيعةٍ، ودرجةٍ ساميةٍ مُنِيفةٍ، فهو أعظمُ المطالبِ، وأَجَلُّ المقاصدِ، وأنبلُ الأهداف؛ إذ به ينال العبدُ سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُدرِك أهمَّ المطالب وأجَلَّ المقاصد، ويظفرُ بالجنَّةِ ونعيمِها، وينجو من النارِ وسخَطِ الجبَّارِ، وينالُ رضى الربِّ فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذّذُ بالنظرِ إلى وجهه الكريم في غير ضرّاءَ مضرّة ولا فتنةٍ مضلّةٍ، وثمراتُ الإيمان وفوائدُه كثيرةٌ لا تُحصى، فكم للإيمان من فوائدَ عظيمة، وثمارٍ يانِعةٍ، وخيرٍ مستمرٍّ في الدنيا والآخرة.
ولما كان الإيمان بهذه المثابة وعلى هذا القدرِ من الأهمية، كانت النصوص المبيّنة لفضله والدالّة على شريف قدره كثيرةً جداً ومتنوّعةً؛ إذ إنَّ مِن حكمة الله البالغة ونعمته السابغة على عباده أنْ جعل الأمر كلَّما كانت الحاجة إليه أعظم والضرورة إليه ألزم كانت براهينُه وطرقُ تحصيله وسُبُلُ نيلِه أوفر وأكثر، وحاجة العباد إلى الإيمان هي أعظم الحاجات، وهي أعظم من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم؛ ولذا كانت دلائلُ الإيمانِ أقوى الدلائل، وبراهينُه أصحَّ البراهين، وسبلُ نيله وتحصيله أيسرَ السبل مسلكاً وأقربَها مأخذاً وأسهلَها مُتناولا؛ ولذا أيضا تنوّعت وتعدّدت براهينُ الإيمان ودلائله الموضحة له إجمالاً وتفصيلاً.
وإنَّ مِن أعظم دلائل الإيمان التي اشتمل عليها القرآن ضربَ الأمثال التي بها تتّضح حقيقتُه، وتستبينُ تفاصيلُه وشعبُه، وتظهرُ ثمرتُه وفوائدُه.
والمَثَلُ هو عبارة عن قولٍ في شيء يُشبِه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة لتبيين أحدهما من الآخر وتصويره، ولا ريب «أنَّ ضربَ الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى ـ وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين ـ: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، وقد اشتمل منها [أي القرآن] على بضعة وأربعين مثلاً، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلاً لم يفهمه يشتدُّ بكاؤُه ويقول: لست من العالِمين»(1).
وكان قتادة يقول: «اعقِلوا عن الله الأمثال»(2).
ومن هنا رأيتُ أن أقدِّم هذه الدراسة لأحدِ أمثال القرآن والسنة المشتملة على بيان الإيمان وتقريبه، وإيضاح أصلِه وفرعه وشُعبِه وثمراته، ومن الله وحده العونُ والتوفيقُ.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24، 25]، فهذا مَثَلٌ بديعٌ عظيمُ الفائدةِ، مُطابقٌ لما ضُرِب له تمام المطابقة، وقد بدأه الله بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾ أي: ألم ترَ بعين قلبِك فتعلمَ كيف مثّل الله مثلاً وشبّهه شبهاً للكلمة الطيّبة كلمة الإيمان، وختَمَه بقوله: ﴿وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: أن القصد من ضرب هذا المثل وغيرِه من الأمثال هو تذكيرُ الناس ودعوتُهم إلى الاعتبار وعقلِ الخطاب عن الله.
ولا شك أنَّ هذا البدء والختم في الآية فيه أعظم حَضٍّ على تعلُّمِ هذا المثل وتَعَقُّلِه، وفيه دلالة على عِظم شأن هذا المثل المضروب، كيف لا وهو يتناول بيان الإيمان الذي هو أعظم المطالب وأشرف المقاصدِ على الإطلاق.
وعندما نتأمّل هذا المثل العظيم نجِدُ أنَّ الله تبارك وتعالى ذَكَر فيه مُمثَّلاً له، ومُمثَّلاً به، ووجهَ المثلية بينهما، فالممثَّلُ له هو الكلمة الطيّبة، والممثَّلُ به الشجرة الطيّبة، ووجه المثلية هو كما قال الله: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾، فشبَّهَ تبارك وتعالى كلمةَ الإيمان الثابتة في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من فروع وشُعب وثمار بالشجرة الطيّبة الثابتة الأصل الباسقةِ الفرع في السماء علوّاً، التي لا تزالُ تؤتي ثمراتها كلَّ حين، ومن يتأمّل في المُمثّلِ به وهو الشجرة الطيّبة، والممثّل له وهو كلمة الإيمان في قلب المؤمن وما يترتّب عليها من ثمارٍ يجدُ أوصافاً عديدةً متطابقة بينهما، وقد أُشيرَ إلى بعضها في الآية كما تقدّم.
ولذا يقول ابن القيّم رحمه الله: «وإذا تأمَّلتَ هذا التشبيه رأيتَه مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعُها من الأعمال الصالحة صاعدةً إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمال الصالحة كلَّ وقتٍ، بحسب ثباتها في القلب، ومحبَّة القلب لها، وإخلاصِه فيها، ومعرفتِه بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتِها حقَّ رعايتها، فمَن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتَّصف قلبُه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسنَ صبغة منها، فعرَفَ حقيقةَ الإلهية التي يُثْبِتها قلبُه لله ويشهدُ بها لسانُه وتصدِّقُها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمَها عن كلِّ ما سوى الله، وواطأَ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحُه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سُبلَ ربِّه ذُلُلاً غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبودِه الحق بدلا؛ فلا ريب أنَّ هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرَتَها من العمل الصالح الصاعدِ إلى الله كلَّ وقت، فهذه الكلمة الطيّبةُ هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمةُ الطيّبةُ تُثمرُ كلماً كثيراً طيّباً يقارنُه عملٌ صالحٌ فيرفع العملُ الصالح الكلمَ الطيّب، كما قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، فأخبر سبحانه أنَّ العملَ الصالحَ يرفعُ الكلِمَ الطيِّب، وأخبر أنَّ الكلمةَ الطيّبة تُثمر لقائلها عملاً صالحاً كلَّ وقت.
والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفاً بمعناها وحقيقتها نفياً وإثباتاً، متَّصفاً بموجبها قائماً قلبُه ولسانُه وجوارحُه بشهادته؛ فهذه الكلمةُ الطيّبةُ هي التي رفعتْ هذا العملَ من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كلَّ وقت»(3).
وقد صحّ في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الشجرةَ الطيّبة هي النخلة، وذلك فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وهو مخرّج في الصحيحين من طرق كثيرة عنه رضي الله عنه.
فقد روى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، فحدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي(4). قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال: هي النخلة».
قال: فذكرتُ ذلك لعُمر. قال: لأَنْ تكون قلتَ: هي النخلة، أحبّ إليّ من كذا وكذا(5)، وهذا لفظ مسلم.
ورواه البخاري من طريق سليمان، عن عبد الله بن دينار به(6).
ومن طريق مالك، عن عبد الله بن دينار به(7).
وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي نُجيح، عن مجاهد قال: صحِبتُ ابنَ عمر إلى المدينة فلم أَسمعهُ يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُتي بجُمّار، فقال: «إنَّ من الشجر شجرةً مثلها كمثل المسلم». فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(8).
ورواه البخاري من طريق أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جُمَّاراً، فقال: «من الشجر شجرةٌ كالرجل المؤمن». فأردتُ أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أحدَثهم. قال: «هي النخلة»(9).
ورواه البخاري من طريق الأعمش قال: حدّثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسٌ، إذ أُتي بجُمّار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ من الشجر لما بركته كبركة المسلم». فظننت أنَّه يعني النخلة، فأردت أن أقول هي النخلة يا رسول الله، ثم التفتُّ فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحدثهم، فسكتُّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(10).
ورواه البخاري من طريق زُبيد، عن مجاهد به مختصراً(11).
ورواه مسلم من طريق أبي خليل الضُّبَعيِّ، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: «أخبروني عن شجرة، مثلُها مثلُ المؤمن»، فجعل القوم يذكرون شجراً من البوادي. قال ابن عمر: وأُلقي في نفسي أو روعي أنها النخلة. فجعلتُ أريد أن أقولها، فإذا أسنانُ القوم، فأهابُ أن أتكلّم، فلما سكتوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة»(12).
ورواه مسلم أيضاً من طريق سيف، عن مجاهد به(13).
وروى البخاري ومسلم عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة تُشبه أو كالرجل المسلم لا يتحاتُّ ورقُها ولا ولا ولا(14)، تؤتي أكلها كلَّ حين. قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنَّها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلّمان، فكرهتُ أن أتكلّم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه، والله لقد وقع في نفسي أنَّها النخلة. فقال: ما منعك أن تكلَّم؟ قال: لم أرَكُم تكلَّمون فكرهتُ أن أتكلم أو أقول شيئاً. قال عمر: لأَنْ تكون قلتَها أحبُّ إليّ من كذا وكذا»(15).
وروى البخاري من طريق محارب بن دِثار: سمعت ابنَ عمر يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء، لا يسقط ورقها ولا يتحاتُّ. فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، فأردتُ أن أقول هي النخلة ـ وأنا غلام شاب ـ فاستحييت، فقال: هي النخلة»(16).
ورواه البخاري تعليقاً من طريق حفص بن عاصم، عن ابن عمر مثله(17).
فهذا مجموع ما في الصحيحين من طرق لهذا الحديث العظيم، وللحديث طرقٌ أخرى خارج الصحيحين في السنن والمسانيد والمعاجم، سيأتي الإشارة إلى شيء منها.
ثم إنَّ البخاري ـ رحمه الله ـ وقد روى الحديث في مواطن عديدة من صحيحه فقد روى الحديث في كتاب التفسير من صحيحه، في باب: ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ﴾، وهو بذلك يشير إلى أنَّ المراد بالشجرة المذكورة في الآية هي النخلة، فيكون الحديث بذلك مفسِّراً للآية.
وقد ورد هذا صريحاً فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ...﴾ فقال: أتدرون ما هي؟ قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليَّ أنَّها النخلة، فمنعني أن أتكلّم مكان سِنِّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة»(18).
قال ابن حجر: «ويُجمع بين هذا وبين ما تقدّم أنَّه صلى الله عليه وسلم أُتي بالجُمّار فشرع في أكله تالياً للآية قائلاً: إنَّ مِنَ الشجر شجرةً ... إلى آخره، ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ ...» فذكر الحديث، وهو يؤيّد رواية البزار»(19).
ويؤيّد هذا أيضاً الروايات الكثيرة الواردة عن السلف الصحابة وغيرهم في تفسير الشجرة الطيّبة في الآية بأنَّها النخلة.
فقد روى الترمذي وغيره عن شعيب بن الحبحاب قال: كنّا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب، فقال أنس رضي الله عنه لأبي العالية: «كُلْ يا أبا العالية، فإنَّ هذا من الشجرة التي ذَكَر الله في كتابه ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا﴾ قال: هكذا قرأها يومئذ أنس».
ورواه الترمذي من وجه آخر مرفوعاً، وقال: «هذا الموقوف أصح»(20).
وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السلف، منهم: ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد(21).
وقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعنى المتقدّم، وهو تشبيه المؤمن بالنخلة في أوجز عبارة، وذلك فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها مِنْ شيئٍ نفعك»(22).
والنخلة إنما حازت هذه الفضيلة العظيمة بأَنْ جُعلت مثلاً لعبد الله المؤمن؛ لأنَّها أفضلُ الشجر وأحسنُه، وأكثرُه عائدة.