خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    نعمة الأمن ...

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية نعمة الأمن ...

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 05.08.10 14:46

    نعمة الأمن ...
    نعمة الأمن ...  470674

    في نعمة الأمن وأهميتها وسبيل تحققها والحفاظ عليها

    إن الأمن والاستقرار نعمةٌ عظيمٌ نفعها،كريمٌ مآلها، وهي مَظَلُّةٌ يستظل بها الجميع مِنْ حَرِّ الفتن والتهارج، وهذه النعمة يتمتع بها الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والرجال والنساء، بل البهائم تطمئن مع الأمن، وتُذْعَر وتُعطَّل مع الخوف واضطراب الأوضاع، وتهارج الهمج الرعاع، فنعوذ بالله من الفتن التي تُعْمِي الأبصار، وتُصِمُّ الأسماع.

    وبالله ثم بالأمن يُحَجُّ البيتُ العتيق، وتُعْمر المساجد، ويُرفع الأذان من فوق المنارات، و يَأْمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتأمن السبُل، وتُرَدُّ المظالم لأهلها، فيُنتصر للمظلوم، ويُردع الظالم، وتقام الشعائر، ويرتفع شأن التوحيد من فوق المنابر، ويجلس العلماء للإفادة، ويرحل الطلاب للاستفادة، وتُحرَّرُ المسائل، وتُعْرف الدلائل، ويزار المرضى، ويُحترم الموتى، ويُرْحم الصغير ويُدَلَّل، ويُحْترم الكبير ويُبَجَّل، وتُوصَل الأرحام، وتُعْرف الأحكام، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، ويُكرَّم الكريم، ويُعاقب اللئيم


    وعلى كل حال:

    فبالأمن استقامة أمر الدنيا والآخرة، وصلاح المعاش والمعاد، والحال والمآل، وقد حذرنا الله من الفتنة التي يَعُمُّ بلاؤها، فقال - عز وجل-: ) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ([ الأنفال: 25 ].

    فنسأل الله عز وجل ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ونعوذ به من حلول نقمته، وتحوُّل عافيته، وجميع سخطه، إنه جواد كريم، بر رحيم.

    ولما كان الأمن بهذه المثابة العظيمة؛ امتن الله سبحانه وتعالى به على قريش، التي قابلت النعم الكبار بالإباء والاستكبار!!
    وما كان الله عز وجل ليمتن- وهو الجواد الكريم - بما ليس بمنة ولا نعمة، فقد قال سبحانه: ) لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ!إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ! فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ! الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ !(([1]).

    وقد جاء عند الترمذي([2]) من حديث عبدالله بن محصن الخَطْمى -رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزتْ له الدنيا بحذافيرها))([3]).

    وقد قال صاحب الفضيلة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى -:
    ((... فلا شك أن تَوَفُّر الأمن مطلب ضروري، الإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب، ولذا قدمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق، فقال: ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (([4]) لأن الناس لا يهنؤون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولأن الخوف تنقطع معه السبل التي بواسطتها تُنقل الأرزاق من بلد لآخر، ولذلك رَتَّبَ الله على قطاع الطرق أشد العقوبات... وجاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، ورتب حدودًا صارمة في حق من يعتدي على هذه الضروريات، سواءً كانت هذه الضروريات لمسلمين أو لمعاهَدين.

    فالكافر المعاهَد له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم، قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-ٍ: ((من قتل معاهَدًا؛ لم يرح رائحة الجنة))...

    والذين يعتدون على الأمن:

    إما أن يكونوا خوراج، أو قطاع طرق، أو بغاة

    وكل من هذه الأصناف الثلاثة يُتَّخَذ معه الإجراء الصارم، الذي يوقفه عند حدِّه، ويكفُّ شره عن المسلمين، والمستأمنين، وأهل الذمة...))([5]).اهـ.

    فيجب على كل عاقل، أن يحافظ على سلامة أمن البلاد، وذلك بالحفاظ على العقيدة الصحيحة أولًا، لقوله سبحانه وتعالى: ) الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍأُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (([6])

    وأن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة وموعظة حسنة، وأن يحرص على طاعة ربه، فإن ذلك جالب لعز الدنيا والآخرة، فالله عز وجل يقول:)وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ! وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ! وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (([7]).

    وليعلم المرء أن الإعراض عن أمر الله؛ سبب في زوال نعمة الأمن، وحلول الخوف والفزع، قال تعالى:)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا(... الآية ([8])وقال سبحانه: ) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ! وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(([9]).
    ويقول سبحانه:)ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (([10]).

    ويجب أن يشعر كل منا - كل بحسبه - أنه مسؤول بين يدي الله - عز وجل- عن أي إخلال بالأمن من جهته، أو إثارة للفتنة بقول أو عمل، وأن يُنكر على كل من أخل بأمن المسلمين- على أن يكون إنكاره عليه مقيدًا بالضوابط الشرعية - فإن من أخل بأمنهم؛ فقد أخل بدينهم ودنياهم، والناس في هذه الدنيا كقوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فأراد الذين هم في أسفلها أن يخرقوا خرقًا في سهمهم؛ ليستريحوا ويريحوا!! فلو تركهم من هم في أعلاها؛ غرقوا جميعًا، ولو أخذوا على أيديهم؛ نجوا جميعًا، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

    فالواجب علينا: ألا نجامل، ولا نبالغ في حُسن الظن بمن يفسد أمن البلاد، ومن يفتح على المسلمين أبواب الفتن، ولو كان قصده حسنًا، فالمقصد الحسن وحده لا يكفي، بل لا بد من الاتباع الصحيح، والحفاظ على مقاصد الشريعة وبقايا الخير، فالعبرة بما تؤول إليه الأمور، والله أعلم.

    واعلم أنه يجب على كل عاقل - عالمًا كان أم عاميًّا- أن يصبر على الظلم والجور من ولاة الأمور، وأن يلزم منهج السلف في هذا الباب؛ حتى لا يكون من الذين خَلَفوا نبينا محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على أمته بسفك الدماء، وإزهاق الأنفس، وهتك الأعراض، ونهب الأموال.

    كما يجب علينا أن نعتبر بما جرى لعدة دول، وليكن فيما جرى في الصومال - مثلًا - عظة وعبْرة لنا، فإنهم قاموا على حاكمهم الذي قد شاع وذاع شره، فما الذي جرى بعد ذلك حتى الآن ؟! فنسأل الله أن يجعلنا مفاتيح الخير، مغاليق الشر، وأن يصرف عنا وعن المسلمين الموبقات والمرديات.

    ومعلوم أن هذا الأمن لا يتحقق إلا بدولة قوية، تحكم الناس وتسوسهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، ومعلوم - أيضًا- أن الدولة لا تنهض بهذه المهمة العظيمة؛ إلا بأمور، منها: السمع والطاعة من الرعية لولاة الأمور في المعروف، والصبر على الجور والظلم - عند وجود المنكرات - مع النصح بالتي هي أحسن، وتقدير المصالح والمفاسد المترتبة على أي تصرف، مع مراعاة طريقة وحكمة السلف، لا حماسة وطيش بعض الخلف!!

    ولذلك فقد جاءت الأدلة على هذا الأمر، فمن ذلك:
    قول الله تعالى: ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(([11]).

    وقد أمر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالسمع والطاعة لولاة الأمور - وإن جاروا -: فقد جاء عند مسلم ([12]) أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا ؟ فأَعْرض عنه، ثم سأله، فأَعْرض عنه، ثم سأله في الثانية أو الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلْتم)).

    وفي البخاري ومسلم ([13]) من حديث ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنكم سترون أثَرة، وأمورًا تُنكرونها)) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: ((أدّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم )).
    وعند مسلم ([14]) من حديث حذيفة في ذكر فتنة آخر الزمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((... يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين، في جثمان إنس)) قال: قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك ؟ قال: ((تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع )).

    فتأمل هذه الأدلة الصريحة في طاعة ولاة الأمور في المعروف، والصبر على أذاهم، وإن كانت قلوبهم قلوب الشياطين، وإن وُجِدت منهم الأَثَرة والأمورُ المنكرة، وإن ضربوا الظهر، وأخذوا المال، وإن لم يعطوا الرعية حقهم، وألزموهم بحقهم: كل هذا للحفاظ على الأمن وبقايا الخير، لأن الخروج على الحكام يُعمي الأعور، ويهلك الحرث والنسل.

    وتأمل إعراض النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مرة أو مرتين عن الجواب على سؤال سلمة بن يزيد الجعفي: ((أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألوننا حقهم، ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا ؟))، وتأمل جوابه في حق أمراء قلوبهم قلوب الذئاب، في جثمان إنس، وجوابه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حق مَنْ ضَرَبَ الظَّهْرَ، وأخذ المال!!

    ولو أن أحدًا من كبار العلماء اليوم، سُئِلَ هذا السؤال؛ فأعرض عن الجواب اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولزومًا لهدْي السلف، وإطفاءً لفتنة قد تحدث من الجواب على ذلك؛ لقال فيه كثير من الشباب المتحمِّس بجهل: جبان، ولا يستطيع أن يقول كلمة الحق، وعميل، ولا يوثق به، ولا يُرْجَع إليه!!

    فنعوذ بالله من تصدُّر الحدثاء، والجرأة على العلماء!!
    ولقد امتثل أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - هذه الأوامر النبوية، ولم يكن مفتاح فتنة - مع غيرته، وصِدْق لهجته، وصَدْعه بالحق - رضي الله عنه - فقد جاء في ((السنة)) لابن أبي عاصم ([15]) من طريق معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قال: لما خرج أبو ذر إلى ((الرَّبَذَة)) ؛ لقيه رَكْبٌ من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صُنِع بك، فَاعْقِدْ لواءً؛ يأتيك رجالٌ ما شئتَ، قال: مَهْلًا مَهْلًا يا أهل الإسلام، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((سيكون بَعْدي سلطان، فأعِزّوه، من التمس ذُلَّه؛ ثَغَر ثغرة ً في الإسلام، ولا يُقبلُ منه توبة؛ حتى يعيدها كما كانت))([16]).
    فهذا أبو ذر الصادع بالحق، الزاهد الورع، الذي لم يقبل أي تغيير لما عهده أيام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-لم يرض أن يُسْتَدْرَج لإذلال السلطان، مع وجود ما يكرهه من المخالفات عند كثير من الناس، ومع توافر الأَتْباع - لو أرادهم

    ولكن الأمر أعظم من ذلك عند من يفهم الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة،كل هذا من أجل الحفاظ على بقايا الخير، واستمرار الأمن والهدوء، لأن حق الله - عز وجل - وحق العباد لا يتأتَّيان على الوجه الصحيح؛ إلا مع الأمن، ولا أمن إلا بحكومة قوية، ولا قوة إلا بسمع وطاعة في المعروف، مع نصح وصبر عند وجود المنكرات والظلم.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية
    - رحمه الله تعالى - ([17]):
    ((يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس؛ من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع مِنْ رَأْسٍ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا خرج ثلاثة في سفر؛ فليؤمِّروا أحدهم)) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة...

    فأوجب - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجُمَع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بقوة وإمارة، ولهذا رُوِي: أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمامٍ جائر؛ أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك)).

    قال:
    ((ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة؛ لدعونا بها للسلطان، وقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)) رواه مسلم.

    وقال:
    ((ثلاث لا يُغَل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مَنْ وراءهم)) رواه أهل السنن،

    وفي ((الصحيح)) عنه أنه قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)).

    قال:
    ((فالواجب اتخاذ الإمارة دِينًا وقُربة يُتَقَرّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يَفْسُد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال بها... )).اهـ.

    وقال ـــ أيضًا
    : ((ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى...))

    ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - كما سبق

    ثم قال: ((فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يُوَلَّى أحدهم؛ كان تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب - بحسب الإمكان - من أفضل الأعمال الصالحة... )).([18]) .اهـ.

    وقال شيخ الإسلام:
    ((فإن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة من إمام ظالم؛ خير من ليلة واحدة لا إمام... )).([19]) .اهـ.

    وقال أيضًا:
    ((والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، وهذا من فوائد نصب ولاة الأمور، ولو كان على ما يظنه الجاهل؛ لكان وجود السلطان كعدمه، وهذا لا يقوله عاقل، فضلًا عن أن يقوله مسلم، بل قد قال العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم؛ خير من ليلة واحدة بلا سلطان.

    وما أحسن قول عبد الله بن المبارك:

    لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل وكـان أضعفنا نهبًا لأقوانا ))([20]).اهـ.

    وقال أيضًا:
    ((ومن المعلوم: أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء - يعني بني أمية وبني العباس - من الملوك الظلمة؛ لكان ذلك خيرًا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة من إمام جائر؛ خير من ليلة واحدة بلا إمام ... ))([21]).اهـ.

    وقال - رحمه الله تعالى
    : ((فإذا صلح ذو السلطان؛ صلحت أمور الناس، وإذا فسد؛ فسدت بحسب فساده، ولا تفسد من كل وجه، بل لا بد من مصالح، إذْ هو ظل الله، لكن الظل تارة يكون كاملًا مانعًا من جميع الأذى، وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى، وأما إذا عُدِم الظل؛ فسد الأمر ))([22]).اهـ.

    فظهر من مجموع ذلك: أن الأمن نعمة للجميع، وأن ذلك لا يكون إلا بولاية وقوة، ولا يكون ذلك إلا بسمع وطاعة في المعروف، وصَبْر على الظلم والجور.
    وقد رأينا بعض الشعوب الذين سقط حكامهم، وضاعت دُوَلُهم - على عوجها وانحرافها -لم يعد لهم كرامة كما كانت لهم من قبل، ورأيناهم مشتَّتِين في كثير من البلدان، وتفرقوا شذر مدر في البلاد، وأُهين الكريم، وتنكّر لهم اللئيم، واحْتُقِر العزيز المنيع، وتقطعت الأرحام، وحيل بين الرجل ووالديه وذويه، ولذا يقال: شعب بلا حكومة؛ شعب بلا كرامة، وسلطان غشوم؛ خير من فتنة تدوم!!

    فهل يريد الشباب اليوم أن يكون المسلمون كذلك في كل بلد: بإثارة الفتن، وزعزعة الأمن، مما يُفضي إلى سقوط الحكام - وإن كانوا في الجملة جائرين - ؟!

    فنكون كمن أراد أن يُطبَّ زكامًا؛ فأحدث جذامًا ؟!
    أو كمن أراد أن يُطبَّ جذامًا؛ فأهلك الأصحاء شيبًا وشُبَّانًا؟!

    فنعوذ بالله من كيد الكائدين، وعبث العابثين!!

    ألا يعتبر الشباب بما جرى في عدد من الدول، عندما أسقطوا حكامهم - وهم شر مستطير على رعيتهم - فقد انتشرت الفتنة في كل بيت، وزاد البلاء واستفحل، وأنهم الآن يتمنون رجوع الأيام السابقة - على ما فيها - بعد أن جرَّبوا الفوضى، ولكن هيهات هيهات، وقد قُتل وجُرح الملايين من الناس، وهُدِّمت البيوت والمساجد، وانتُهِكت الحرمات، وسُلبت الأموال، وقُطعت الطرق، والله المستعان!!

    إن علماء أهل السنة لا يدافعون بذلك عن الدول المسلمة الظالمة حُبًّا في ظلمهم، أو ركونًا إلى دنياهم!! فهم من أبعد الناس عن ذلك، وهم أقل الناس حظًّا مما في يد الحكام، ولكن ينكرون الفتنة وما يُفضي إليها: اتباعًا لمنهج السلف، وحفاظًا على ما بقي من خير، وصيانة للدماء من السفك، وللحرمات من الانتهاك، وإن كانوا يتألمون لوجود المنكرات، ولا يجحدون وجودها، ولا يبالغون في الاعتذار لأهلها، وينصحون ما أمكن بالحذر من مَغبة الذنوب، ويدعون الله - عز وجل- باختيار الأصلح للإسلام والمسلمين.

    ثم لو سلمنا أنكم - أيها الشباب - قد أسقطتم الدولة الفلانية، ونجحتم في ذلك - مع أن هذا لا يكون إلا بإهلاك الحرث والنسل!! - والمسلمون على هذا الحال من الضعف، فهل سيترككم أعداء الإسلام وشأنكم ؟! أم سيجعلونها حربًا أهلية بينكم وبين طوائف الشعب، الذين يصدق على كثير منهم قوله تعالى:) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى (([23])ثم يتدخل الأعداء - بعد الخراب والدمار، كما تدخلوا في كثير من البلدان - فتكون الجماجم والأشلاء من المسلمين - منكم وممن حاربكم - ثم تكون الثمرة لغيرنا، والأمر كما قيل: نحن نمسك برأس البقرة وقرنيها، وأعداء الإسلام يحلبونها!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد قيل:


    على كتفيْه يبلغ المجدَ غيرُه فهل هو إلا للتسلق سُلَّم


    (تنبيـه):

    إن من العجب: أن ترى بعض الجماعات تستدل بالكلام السابق لشيخ الإسلام في وجوب نصب الإمارة: على وجوب بيعة أميرها، ولزوم الانضواء في حزبها، وضرورة الانتماء لرايتها وشعاراتها!!

    هذا؛ مع أن كثيرًا من أمرائهم مستضعفون مجهولون، لا يكاد يَعْلَم بهم إلا من يثق به، ويطمئن إليه!!

    ومع ذلك فلا يرون السمع والطاعة في المعروف للملوك والرؤساء الممكَّنين بالاختيار، أو بالغلبة والشوكة في جميع البلدان!! - وإن كان بعضهم في الكلام عنه تفصيل - مع أن الطاعة لا تكون إلا لممكَّن معلوم

    وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - الذي يستدل بكلامه السابق هؤلاء على صحة بيعاتهم - في((منهاج السنة))([24]) في سياق رده على الروافض في دعوى المهدوية: ((الوجه التاسع: وهو أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان، يقدرون على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلًا... )).اهـ.

    فتأمل هذا، واحمد الله على العافية!!

    لكن قد يقول قائل: هذه النصوص السابقة في السمع والطاعة في المعروف، والصبر على الأذى؛ كلها حق، ولكنها تُنـزَّل على الأئمة المسلمين، الذين عندهم جور وظلم على أسوأ الاحتمالات، أما جميع حكام زماننا فكفار، ومن هنا فلا سمع لهم ولا حُرمة، وتعيَّن الخروج عليهم لإزالتهم!!

    والجواب:
    أننا لا نسلم بهذا الإطلاق، ولهذا تفصيل طويل الذيل، ليس هذا موضعه، وأسأل الله أن يوفقني لإتمام ما شَرَعْتُ فيه بهذا الصدد، وأن يدفع عني الشواغل والمشاكل، والعلائق والعوائق التي تحول بيني وبين الخير كله، ظاهره وباطنه، ما علمتُ منه وما لم أعلم.
    ==============================

    ([1]) [ قريش 1-4 ].

    ([2]) برقم (2346).

    ([3]) وانظر ((صحيح الجامع)) (6042).

    ([4]) [ البقرة: 126 ]

    ([5]) ((الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية)) (ص125- 127/ط.الثانبة/جمع محمد بن فهد الحصيّن ).

    ([6]) [ الأنعام: 82 ].

    ([7]) [ النساء: 66 ـ 68 ].

    ([8]) [ طه: 142 ]

    ([9]) [ الزخرف: 36 ـ 67 ].

    ([10]) [ سبأ: 17 ].



    ([11]) [ النساء: 59 ].

    ([12]) برقم ( 1846).

    ([13]) عند البخاري برقم (7052)، وعن مسلم برقم (4752).

    ([14]) برقم ( 4763).

    ([15]) برقم ( 1079).

    ([16])قال شيخنا الألباني - رحمه الله تعالى - في ((ظلال الجنة)) ( 2/499): ((إسناده صحيح)).اهـ.

    ([17]) ((مجموع الفتاوى)) (28/390-391).

    ([18]) ((مجموع الفتاوى)) (28/64-65).

    ([19]) ((مجموع الفتاوى)) (14/268).

    ([20]) ((مجموع الفتاوى)) (30/ 136 ).

    ([21])((منهاج السنة)) (1/547-548).

    ([22]) ((مجموع الفتاوى)) (25/ 46).

    ([23]) [ الحشر: 14 ].

    ([24]) (1/115) ت/ محمد رشاد سالم.
    [من كتاب التفجيــرات والاغتيالات الأسباب الآثار والعلاج للشيخ أبي الحسن السليماني]


    والنقل
    لطفا من هنا
    http://www.meenhaj.com/vb/showthread.php?t=4830

      الوقت/التاريخ الآن هو 09.05.24 8:17