خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 27.02.10 12:09




    كشفُ السُتور

    في نهي النساء عن زيارة القبور


    كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور 470674


    للشيخ حماد الأنصاري

    الأستاذ بالدراسات العليا بالجامعة


    الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعـد:
    فلما كان حكم زيارة النساء للقبور من المسائل المختلف فيها بين العلماء ما بين مبيح ومانع ومفصل، والحاجة إلى معرفة حكم اللّه فيها تهم الجميع ، رأيت من الواجب علي أداءً للنصيحة للخاصة والعامة بيان الحق الذي يجب أن يدين به كل مسلم غيور. بذكر النصوص الصحيحة المانعة من زيارة النساء للقبور على الإطلاق، مبيناً أن الاستدلال على الجواز برواية "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور" غير مسلم به، كما أن تضعيف رواية "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زائرات القبور" ليس صحيحاً؛ لما سأذكره عن أئمة الشأن الذين يجب الرجوع إليهم في مثل هذا الميدان. هذا وقد سميت هذه العجالة " كشف الستور عن حكم زيارة النساء للقبور" مرتباً لها على العناوين التالية:
    1- اختلاف العلماء في هذه المسألة.
    2- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً.
    3- تفصيل روايات المخرجين .
    4- سند حديث ( زائرات ) بطريقيه.
    5- الكلام على سندي هذا الحديث .
    6- ضبط زاي (زوارات).
    7- تفصيل أدلة المنع.
    8- أدلة المجيزين والجواب عنها.
    9- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة.
    10- خاتمة: في أن هدي السلف في الاتباع ومجانبة الابتداع.
    والآن الشروع في المقصود ومن اللّه ا مدد المزيد.
    1- اختلاف العلماء في هذه المسألة:
    اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمه الله:
    أولاً: الكراهة من غير تحريم كما هو منصوص الإمام أحمد رحمه اللّه في إحدى الروايات عنه، واستدل له بحديث أم عطية المتفق عليه "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" وإليه ذهب أكثر الشافعية وبعض الحنفية.
    ثانياً: أنها مباحة لهن غير مكروهة، وبه قال أكثر الحنفية والمالكية وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى. واستدل له بحديث مسلم عن بريدة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". وبحديث عائشة في زيارة أخيها عبد الرحمن؛ وبحديثها أيضا عند مسلم "ما أقول لهم؟ قال قولي" الحديث. وبحديث أنس رضي اللّه عنه "مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر" الحديث.
    ثالثا: التحريم لأحاديث اللعن وغيرها مما يعضدها وهو مذهب بعض المالكية والشافعية والحنفية، وإليه ذهب أكثر أهل الحديث وهو الرواية الثالثة عن الإمام أحمد رحمه اللّه. كما حكاها العلامة علي بن سليمان المرداوي في كتابه (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) قال ما نصه: "وعنه أي عن الإمام أحمد رواية ثالثة: يحرم كما لو علمت بأنه يقع منها محرم، ذكره المجد واختار هذه الرواية بعض الأصحاب، وحكاها ابن تميم وجها. اهـ
    قلت: وهو اختيار شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والنووي في مجموعه والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وكثير من أئمة التحقيق الآتـي ذكر أقوالهم بعد إن شاء اللّه تعالى.
    واعلم أن القائل بالإباحة مقيد لها بما إذا لم تشتمل زيارة النساء للقبور على ما يفعله كثير من نساء زماننا من المنكر قولاً وفعلاً، بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضا، فلا خلاف إذاً في الحرمة كما لا يخفى على المطلع الخبير إذا حصل ما ذكر.
    وهذه مذاهب العلماء في هذه المسألة. وقد ذهب بعض أَهل زماننا إلى جواز زيارة النساء للقبور ما لم تتكرر محتجا برواية "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور" على أنها للمبالغة مضعفاً رواية "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" تقليداً لمن فهم ذلك قبله من غير تحقيق، وهو خلاف لا يعتد به إذ ليس له حظ من نظرٍ وقد قيل:
    وليـس كل خلاف جاء معتـبراً


    .


    إلا خـلاف له حـظ من النـظر

    أي من نظر صحيح وسيأتي الجواب عن أدلة الجميع إن شاء اللّه تعالى غير منكرين ما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بل كما قال العلامة شمس الدين بن القيم رحمه اللّه تعالى: "ندين ا لّه بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا، فنقر ما لنا على ظاهره ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره، بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه ، بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابلها بالسمع والطاعة، ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها، فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم وترك بعضها، بل الشأن في الأخذ بجملتها وتنزيل كل شيء منها منزلته ووضعه بموضعه والله المستعان وعليه التكلان".
    2- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً:
    1- أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه حديث النهي عن زيارة النساء للقبور من ثلاثة طرق:
    أولاً: من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه.
    ثانياً: من طريق أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
    ثالثاً: من طريق عبد الرحمن بن حسان عن أبيه رضي اللّه عنهما.
    2- وخرجه أبو داود 3- والنسائي 4- وأبو داود الطيالسي عن ابن عباس فقط.
    وكذلك 5- خرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة وابن عباس ، 6- والحاكم عن حسان بن ثابت رضي اللّه عنه.
    3- تفصيل روايات المخرجين:
    أما الإمام أحمد فقد رواه بلفظين:
    أولاً: رواه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه بلفظ "إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعن زوارات القبور".
    وأيضاً: عن حسان مثله.
    ثانيا: عن ابن عباس بلفظ "لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
    وأما أبو داود والنسائي وأبو داود الطيالسي فقد أخرجوه كلهم عن ابن عباس مثل لفظ الإمام أحمد المتقدم عنه. وكذلك ابن حبان فقد رواه عن ا بن عباس وأبي هريرة مثله. وأما الترمذي فقد رواه من طرق الإمام أحمد الثلاثة المتقدمة ولفظه عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور" وعن أبي هريرة وحسان بلفظ " لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور". بعد أن ترجم لها بقوله: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن.
    ورواه أيضا ابن ماجه في سننه من الطرق الثلاثة المتقدمة عند الإمامين أحمد والترمذي كلها بلفظ "لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زُوَّارات القبور", بعد أن بوب لها بقوله: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور, وقال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات.
    فتبين من هذا أن لفظ "لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور" جاء من الطرق الثلاثة المتقدمة أعني : عن ابن عباس، وثانيا عن أبي هريرة وثالثا عن حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.
    وأن لفظ "لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور" جاء من طريقين.
    أولاً: عن ابن عباس عند الإمام أحمد وأبى داود والنسائي والترمذي وابن حبان وأبي داود الطيالسي.
    وثانيا: عن أبي هريرة عند ابن حبان والله أعلم.
    4- سند حديث "زائرات" بطريقيه:
    وسند الجميع عن ابن عباس ما يلي:
    قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى عن شعبة حدثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره.
    ومثله بإسناده عند من تقدمت الإشارة إليهم, إلا أن ابن حبان رواه أيضا بسند آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن ع ر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: "لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" فهذا الحديث روي عن كل من أبي هريرة وابن عباس رضي اللّه عنهم بلفظ "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور"، وبلفظ "لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور"، كما صرح به الترمذي في جامعه، وابن ماجه في سننه، فلهذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لكثرة طرقه، وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه اللّه تعالى: هذا مع أنه ليس في الإسنادين من يتهم بالكذب ومثل هذا حجة بلا ريب، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن شاذاً، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أَحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف إذا كـان هذا رواه عن صاحب وذاك عن آخر فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
    5- الكلام على سند هذا الحديث:
    1- وأما أبو صالح الراوي عن ابن عباس، فقد اختلف في اسمه على قولين:
    القول الأول: أنه ميزان البصري أبو صالح، وبهذا جـزم ابن حبان في الصحيح في النوع السادس من الثاني وفى التاسع والمائة من الثاني أيضا بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عبد الوارث عن محمد بن جحادة، وأقره ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود وقوّى هذا القول بأنه (ميزان) ولكن صحف في طبعة مختصر سنن أبي داود بلفظ: (مهران) والصحيح أنه (ميزان) كما في تهذيب التهذيب لابن حجر. وميزان هذا قال فيه يحيى بن معين- وهو من أشد الناس مقالة في الرجال-: "إنه ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحاكم في الصحيح: "هو ثقة". ولم يذكره المزي ولا الخلاصة ولا الميزان ولا لسانه. وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: "إن أبا صالح ميزان روى الترمذي عن طريقه في كتاب الجنائز من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحـادة عن أيى صالح عن ابن عباس" يشير إلى هذا الحديث.
    القول الثاني: أن أبا صالح هذا هو (باذام مولى أم هانئ) ويقال بالنون (باذان) وجزم بهذا الحاكم وعبد الحق الإشبيلي في الأحكام وابن القطان وابن عساكر والمنذري وابن دحية وغيرهم قاله في التهذيب.
    فعلى كلا القولين فإن الحديث برواية "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زائرات القبور" حديث صحيح سواء كان من رواية (ميزان) أو من رواية (باذام مولى أُم هانئ ) فقد قال أبو حـاتم في الجرح والتعديل: "لم أر أحداً من أَصحـابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه سعيد ولا زائدة ولا عبد اللّه بن عثمان", وقال يحيى بن معين: "أبو صالح مولى أُم هانئ ليس به بَأس فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ومرة عن أبي صالح" اهـ. وهذا واللّه أعلم هو أعدل الأقوال في أمر أبي صالح مولى أُم هانئ كمـا أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر, قال في حـاشيته على مسند الإمام أحمد: "والحق أن أبا صالح مولى أم هانئ ثقة ليس لمن ضعفه حجة وإنمـا تكلموا فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي ودعوى ابن حبان أنه لم يسمع من ابن عبا س غلط عجيب، فإن أبا صالح تابعي قديم روى عمن هو أقدم من ابن عباس كأبي هريرة وعلى بن أبي طالب وأم هانئ واللّه أعلم".
    2- الطريق الثاني: عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنـا أبو عوانة عن ع ر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة فذكر الحديث. وعمر هذا هو: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف أخو مسلم مديني الأصل، قال أبو حـاتم: "هو عندي صالح صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به يخـالف في بعض الشيء". وقال الذهبي: صحـح له الترمذي حديث "لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور"، فنـاقشه عبد الحق وقال: "عمر ضعيف عندهم" - فأسرف عبد الحق. وقال ابن معين في رواية أحمد بن أبى خيثمة عنه:" ليس به بأس" وذكره ابن حبان في الثقات وقال الحافظ في التقريب:"صدوق يخطئ مات سنة 132 هـ".
    وبكلام الحافظ ابن حـجر هذا عرفنا أن عمر المذكور وإن كـان يخطئ إذا انفرد كما يشير إليه كلام الحافظ ، ولكن مع وجود طريق آخر لهذا الحديث عن (ميزان البصري) على الصحيح وعن مولى أم هانئ على قول يتبين أن عمر في هذا الحديث لم يخطئ فصح على هذا تصحيح الترمذي لهذا الحديث كما صرح بتصحيح الترمذي له الذهبي وبإسراف الإشبيلي في تضعيفه. فتبين من هذا صحة هذا الحديث من غير مدافعة والله أعلم.
    6- ضبط زاي زوارات:
    هذا مع أن رواية "لعن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم زوارات القبور" هي بمعنى زائرات لأن زوَّارات بضم الزاي المعجمة كما قاله الجلال المحلي في شرح المنهاج والسيوطي وأقره السندي والمناوي وصاحب تنقيب الرواة شرح المشكـاة قال هؤلاء: "الدائر على الألسنة ضم الزاي من زوارات، جمع زوار جمع زائرة سماعا وزائر قياساً. وقيل زوّارات للمبالغة فلا يقتضي وقوع اللعن على وقوع الزيارة إلا نادراً. ونوزع بأنه إنما قابل المقابلة بجميع القبور، ومن ثم جاء في رواية أبي داود زائرات بلا مبالغة" انتهى. فعلى هذا الضبط فهي بمعنى زائرات لا للمبالغة كما ظنه كثير من طلبة العلم فصيغة المبالغة بفتح الزاي لا بضمها، كما أن الصيغة الدالة على النسب بالفتح أيضا كقوله عز وجل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وذلك معلوم عند أهل التصريف قال ابن مالك في ألفيته:
    فعّال أو مِفعَال أو فـعُـول





    بكثرة عن فـاعل بـديـل



    وقال في النسب:
    ومع فاعـل وفعَّـال فعـل





    في نسب أَغنى عن اليا فقبل
    .



    .
    فيكون معنى زوّارات القبور: ذوات زيارة القبور على أن الصيغة للنسب. فاتفقت الروايتان على منع النساء من زيارة القبور مطلقاً. فعلى هذا فليس في هذه الرواية دليل على جواز زيارة النساء للقبور إن لم تتكرر، كما يقول به بعض الناس، مع أن صحة رواية "زائرات" كما تقدم نص صريح في أن زوّارات ليست للمبالغة. بل إما أن تكون هذه الصيغة على ما تقدم من أنها بالضم وإما أن تكون للنسب توفيقاً بين الدليلين فإن الجمع بين الدليلين متى أمكن فهو أولى من طرح أحدهما أو دعوى التعارض بينهما، قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كـانت زيارة النساء للقبور مظنة وسبباً للأمور المحرمة والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع" إلى آخر ما سيأتي من كلامه إن شاء اللّه تعالى.
    فإذا استقر وضوح دلالة هذا الحديث على المنع مطلقا وأن اختلاف اللفظين لفظي ليس بينهما فارق على ما ذكرنا فاعلم أن هناك نصوصاً صحيحة تؤيد ما أسلفناه دافعة لتأويـل سنة رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إلى مالا يحتمله النص إلا بتكلف ظاهر، مقررة لذلك المعنى العظيم وتلك القاعدة الشرعية الكبرى التي أجمعت عليها الأمة، وذلك أن سد الذرائع مطلوب ومقدم على جلب المنافع قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}, وفي الحديث الصحيح "ولولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم" مع العلم أنه ليس هناك مصلحة راجحة في زيارتها للقبور كما هو الحـال بالنسبة للرجال والله أعلم.
    7- تفصيل أدلة المنع:
    أولاً: ما تقدم عن ثلاثة من سادات أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مخبرين عنه بلعنه زائرات القبور، وهو إما خبر عن اللّه فهو خبر صدق, وإما دعاء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيا ويل من دعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا اللعن مفيد لحكمين هما: التحريم والوعيد فهذا الوعيد الشديد دليل على أن زيارة النساء للقبور محرمة بل وكبيرة من الكبائر، لأن معنى اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة اللّه تعالى. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)- ما نصه: "إن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم، وإنما خـالف بعضهم في العمل بآحادها في الوعيد خاصة، فأما بالتحريم فليس فيه خلاف معتد به" إلى أن قال: "بـل إذا كان في الحديث وعيد كـان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب".
    ثانيا: روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي في سننهما، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك من حديث ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبُلى عن ع د الله بن عمرو قال: "قبرنا مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوماً، فلما فرغنا انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما حاذينـا به وتوسط الطريق إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت: يا رسول اللّه رحمت على أهل هذا الميت ميتهم، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فلعلك بلغت الكُدَى - يعني: المقابر، بضم الكاف وفتح الدال المهملة مقصورا- قالت: معاذ اللّه وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال: لو بلغت معهم الكُدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. فسألت ربيعة عن الكُدى فقال: القبور".
    ثالثا: روى ابن ماجه والبيهقي عن ع ي رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة. قال: هل تغسلن ؟ قلن: لا، قال: هل تدلين فيمن يدلى؟ قلن: لا، قال فارجعن مأزورات غير مأجورات". وهذا كما قال الإمام ابن القيم رحمه اللّه تعالى "يدل على أن اتباعهن الجنائز وزر لا أجر لهن فيه إذ لا مصلحة لهن ولا للميت في اتباعهن لها، بل فيه مفسدة للحي والميت" اهـ.
    رابعاً: روى البخـاري ومسلم وأحمد وابن جرير وأبو يعلى الموصلي والطبراني عن أم عطية قالت: "لما قدم رسول الله صلى اللّه عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت وفيه ونهانا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".
    والدلالة من الأحاديث الثلاثة المتأخرة- على منع النساء من زيارة القبور- ظاهرة، إذ في منعهن من اتباع الجنائز دليل على منعهن من زيارة المقابر، والعلة بين الحكمين مشتركة وسيأتي ما يشد المنع ويؤيده.
    وفى حديثي عبد اللّه بن عمر وعلي رضي الله عنهم دليل على أن نهي النساء عن اتباع الجنائز في حديث أم عطية نهي تحريم لا نهي تنزيه كما قال به بعض أهل العلم رحمهم اللّه تعالى. وقد رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نساءً في جنازة فطردهن وقال: "واللّه لأرجـع إن لم ترجعن وحصبهن بالحجارة" ، ذكره ابن الحاج في المدخل واللّه أعلم.
    8- أدلة المجيزين والجواب عنها:
    استدل المجيزون لزيارة النساء للقبور بما يلي:
    أولاً: بحديث أم عطية المتفق عليه قال البخاري في صحيحه: حدتنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن خـالد عن أم الهذيل عن أم عطية رضي اللّه عنها قالت: "نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا".
    ثانياً: حديث أنس عند البخاري قال في صحيحه: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتق الله واصبري، قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها إنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت:لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
    ثالثاً: حديث بريدة عند مسلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور. فزوروها فإنها تذكر الموت".
    رابعاً: حديث عائشة عند مسلم والنسائي وفيه قالت: "كيف أقول لهم يا رسول اللّه؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث.
    خامساً: حديث عبد اللّه بن أبي مليكة عند الترمذي في زيارة عائشة رضي اللّه عنها قبر أخيها عبد الرحمن بن أبى بكر قال ابن أبي مليكة: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشى ، فحمل إلى مكة فدفن فيها فلما قدمت عائشة رضي اللّه عنها أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فذكر الحديث وفيه أنها قالت: "لو شهدتك لما زرتك".
    سادساً: رواية البيهقي عن بسطام بن مسلم عن أَبي التياح يزيد بن حميد عن ع د اللّه بن أبي مليكة " أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كـان نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: كان نهى ثم أمر بزيارتها".
    سابعاً: ما رواه الحاكم في مستدركه قال: حدثنا أبو حميد أحمد بن محمد بن حامد العدل بالطابران- حدثنا تميم بن محمد، حدثنا أبو مصعب الزهري، حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، أخبرني سليمان بن داود عن جعفر بن محمد عن أَبيه عن ع ي بن الحسين عن أبيه أن فـاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده.
    قال الحاكم: "رواته عن آخرهم ثقات", وتعقبه الذهبي في تلخيصه فقال: "هذا منكر جداً وسليمان ضعيف".
    هذه جملة ما استدلوا به على الجواز وقد أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية وفصّل الجواب عنها في كثير من كتبه، كما استوفى ذكرها والجواب عنها شمس الدين بن القيم- رحمه اللّه تعالى- وذلك في تهذيبه لسنن أبي داود ونحن إن شاء الله نلخص ما ذكره هذان الإمامان وما ذكره غيرهما مع ما يفتح الله به علينا في هذا المقام واللّه المستعان.
    أما حديث أم عطية رضي اللّه عنها: فمحل استدلالهم من قولها "ولم يعزم علينا"، والجواب عنه كما قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه اللّه قال ما نصه: "وأما قول أم عطية: (ولم يعزم علينـا) فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي وهذا يقتضي التحريم وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي صلى اللّه عليه وسلم لا في ظن غيره". وقال ابن القيم رحمه اللّه تعالى: "وأما قول أُم عطية فهو حجة للمنع وقولها ولم يعزم علينا إنما نفت فيه وصف النهي وهو النهي المؤكد بالعزيمة وليس ذلك شرطاً في اقتضاء التحريم بل مجرد النهي كـاف، ولما نهاهن انتهين لطواعيتهن للّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم فاستغنين عن العزيمة عليهن, وأم عطية لم تشهد في ذلك النهي وقد دلت أحاديث لعنة الزائرات على العزيمة فهي مثبتة للعزيمة فيجـب تقديمها".
    قلت: وفي حديثي عبد اللّه بن عمرو وعلي رضي اللّه عنهم المتقدم ذكرهما ما يدل على أن نهيهن عن اتباع الجنائز نهي تحريم لا تنزيه، وفي ذلك دليل واضح على منعهن من زيارة القبور إذ العلة بين الحكمين مشتركة فصح أن الاستدلال به في جانب المنع أولى وأَرجح واللّه أعلم.
    وأما حديث أنس عند البخاري: "مر النبي صلى اللّه عليه وسلم بامرأَة تبكي عند قبر على صبي لها، فقال: اتق اللّه واصبري" الحديث؛ فهو كذلك حجة للمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرها بل أمرها بتقوى الله ا تي هي فعل ما أَمر به وترك ما نهى عنه ومن جملتها النهي عن زيارة النساء للقبور وقال لها: "اصبري" ومعلوم أن مجيئها للقبر وبكاءها مناف للصبر، فلما أبت أن تقبل منه لأنها لم تعرفه انصرف عنها، فلما علمت أنه صلى الله عليه وسلم هو الآمر لها جاءته تعتذر إليه من مخـالفة أمره . فأي دليل في هذا الحديث على جواز زيارة النساء للقبور ؟ ومع هذا فلا يعلم أن هذه القضية كـانت بعد لعنه صلى اللّه عليه وسلم زائرات القبور، ونحن نقول إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحـاديث المنع، أو تكون دالة على المنع لأمرها بتقوى اللّه فلا دلالة فيها على الجواز، وعلى كلا التقديرين فلا تعارض هذه القضية أحاديث المنع ولا يمكن دعوى نسخها بها والله أعلم.
    وأَما حديث بريدة رضي اللّه عنه: فقد قال المجيزون: إن هذا الخطاب يتناول النساء بعمومه، بل هن المراد به فإنه إنما علم نهيه عن زيارتها للنساء دون الرجال وهذا صريح في النسخ لأنه قد صرح فيه بتقديم النهي ولا ريب في أن المنهي عن زيارة القبور هو المأذون له فيها والنساء قد نهين عنها فيتناولهن الإذن.
    والجواب عن هذا: أَن الصيغة في هذا الحديث هي خطاب للذكور, والنساء وإن دخلن فيه تغليباً فهذا حيث لا يكون دليل صريح يقتضي عدم دخولهن, وأَما حديث التحريم فمن أظهر القرائن على عدم دخولهن في خطاب الذكور، وقد كـان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام قد نهي عن زيارة القبور صيانة لجانب التوحيد وقطعاً للتعلق بالأموات وسدا لذريعة الشرك، التي أصلها تعظيم القبور وعبادتها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فلما تمكن التوحيد من قلوبهم واضمحل الشرك واستقر الدين أذن في زيارة يحصل بها مزيد الإيمان وتذكير ما خلق العبد له من دار البقاء فأذن حينئذٍ فيها فكان نهيه عنها للمصلحة وإذنه فيها للمصلحة. وأما النساء فإن هذه المصلحة وإن كـانت مطلوبة منهن لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام من فتنة الأحياء وإيذاء الأموات والفساد الذي لا سبيل إلى دفعه إلا بمنعهن منها أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة، والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كـانت مفسدته أرجـح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به، فمنعهن من الزيارة من محاسن الشريعة". اهـ، من كلام ابن القيم ملخصاً.
    وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى: "إن الخطاب في الإذن في قوله: فـزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخـا له عند الجمهور فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص، إذ قد يكون قوله: "لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوارات القبور" بعد إذنه للرجال في الزيارة يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج ، ومعلوم أن اتخـاذها المنهي عنه محكم كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة والصحيح أَن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
    الأول: أن قوله صلى اللّه عليه وسلم "فزوروها" صيغة تذكير وصيغة التذكير إنما تناول الرجال بالوضع وقد تتناول النساء أيضا على سبيل التغليب لكن هذا فيه قولان.
    الثاني: أَن النبي صلى اللّه عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر الموت ويرقق القلب ويدمع العين ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف وقلة الصبر، وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة والحكمة هنا غير مضبوطة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كـانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة وكما حرمت الخلوة بالأجنبية وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة فانه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها", إلى أن قال رحمه اللّه: "إن قوله صلى اللّه عليه وسلم "من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان" معلوم أنه أدل على العموم من صيغة التذكير المتقدمة فإن لفظ (من) يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى اللّه عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك لا يدخلن في العموم المتقدم بطريق الأولى... فإذا كان النساء لم يدخلن في عموم اتباع الجنائز مع ما في ذلك من الصلاة على الميت فأن لا يدخلن في زيارة القبور التي غايتها دون الصلاة عليه بطريق الأولى، وعلى هذا فيكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً بالرجال، وخص بلعنه صلى الله عليه وسلم زائرات القبور فيكون من العام المخصوص" اهـ وبمثل هذا قال العلامة النووي في شرح مسلم: "هذا من الأحاديث التي تجمع الناسخ والمنسوخ وهو صريح في نسخ نهي الرجال عن زيارتها، وأَجمع على أن زيارتها سنة لهم، أما النساء ففيهن خلاف لأصحابنا وقدمنا أن مَنْ منعهن قال: النساء لا يدخلن في خطاب الرجال وهو الصحيح عند الأصوليين" اهـ. منه بلفظه.
    وأما حديث عائشة: عند مسلم والنسائي الذي فيه قالت: "كيف أقول لهم" الحديث فالجواب عنه من وجوه:
    أولها: حمل سؤالها للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه إياها على ما إذا اجتازت بقبر في طريقها بدون قصد للزيارة، ولفظ الحديث ليس فيه تصريح بالزيارة عند من خرّجه بل قالت: ماذا أقول لهم؟ ولذلك صرح العلماء- رحمهم اللّه تعالى- بأنه يجوز لها أن تدعو بهذا الدعاء في هذه الحـال، بل ولا تسمى زائرة والحـالة هذه، فكأنها رضي اللّه عنها قالت ماذا أقول إذا جـزت بقبر في الطريق فقال: "قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" الحديث.. ولا أدل على ذلك من قولها في زيارتها لأخيها عبد الرحمن "لو شهدتك لما زرتك" وإلا لما كان لقولها هذا كبير معنى، وإن في حمل الحديث على هذا جمعاً بينه وبين أدلة المنع ودفعاً للتعارض عن سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الجمع بين الدليلين متى أمكن فهو أولى من طرح أحدهما أو دعوى التعارض بينهما قال صاحب مراقي السعود في ذلك:
    والجمع واجب متى ما أمكنا





    إلا فللأخـير نسخ بينـا



    وثانيها: أن حديث عائشة هذا يحتمل احتمالاً قوياً أَنه كـان على البراءة الأصلية ثم نقل عنها إلى التحريم العام فنسخ نهي الرجال عن الزيارة وبقي نهي النساء على عمومه كما أشار إلى ذلك المنذري رضي اللّه عنه بقوله: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور نهيا عاماً للرجال والنساء ثم أذن للرجال في زيارتها واستمر النهي في حق النساء لورود ما يقتضي تخصيصهن في ذلك الحكم من أحاديث اللعن وغيرها".
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه تعالى: وقد قرن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لعننة الزائرات بلعنة المتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أَن اتخاذ المساجد والسرج، لم يقل أحد من العلماء بجوازه فكذلك ما قرن به من لعنة الزائرات واللّه أعلم.
    والثالث: أن عائشة رضي اللّه عنها ليست كغيرها من النساء لمـا تحلت به من الآداب اللائقة بزيارة القبور لقوة إيمانها وعظيم صبرها وكمال عقلها ووفور فضلها، قال اللّه تعالى في عموم نسـاء النبي صلى الله عليه وسلم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (الأحـزاب / 33) وقال عليه الصلاة والسلام: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية وأن فضل عائشة على النسـاء كفضل الثريد على سائر الطعام" أما غيرها من النساء فإنه لا يؤمن ممن زارت القبر لجهالتها وضعف عزيمتها وقرب جزعها أن ترتكب شيئا من المحظورات كالنياحة والجزع والتعديد خصوصا في زماننا هذا الذي انضم إلى ما ذكر كثرة تبرج النساء وارتكابهن فتنة العري والتبرج والاختلاط ، ومن له غيرة في الدين و بصيرة بقواعد الشريعة عرف وجاهة ما ذكر واللّه المستعان.
    الرابـع: حمل سؤالها للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه إياها على أنها مبلغة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومثل هذا في السنة كثير في تعلمها وأخذها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تخبر به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضوان اللّه عليهم مع عدم شرعيته في حق النساء. قال الزركشي- في الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة- أخرج مسلم عن داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال: يا عبد اللّه بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة إنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها نم تبعها حتى تدفن كان له قيراطـان من أجر كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها تم رجع كـان له من الأجر مثل أحد" فـأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجـع إليه فيخبره بما قـالت. وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجـع إليه الرسول فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة. فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة" اهـ.
    وقد لاح لك مما تقدم من الأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لورود النهي الخـاص من النبي صلى اللّه عليه وسلم عن اتباعهن الجنائز فكذلك ما هنا فـاحفظ ذلك وكن به حفيا وتدبر بعين البصير بمرامي الشريعة وقواعدها فسيظهر لك بمعونة الله صحة ما ذكرناه ورجحان ما أبديناه ولا حوله ولا قوة إلا بالله.
    وخلاصة القول أن في حمل الحديث على أحد الوجوه المذكورة جمعاً بعين الأحاديث وتأليفاً لسنن كثيرة نذكر فيها ما يلي:
    أولاً: موافقته للنهي الخاص من النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور كما في أحاديث اللعن وما في معناها كحديثي عبد اللّه بن عمرو وعلي رضي الله عنهم.
    ثانياً: أن في حمل الحديث على ذلك جمعاً بينه وبين قولها المتأخر قطعاً على ذلك - لو شهدتك لما زرتك- وإلا لما كان في قولها هذا كبير معنى.
    ثالثاً: موافقته لحـال الصحابة رضوان اللّه عليهم حيث لم ينقل فيما نعلم أَن نساءهم كن يزرن المقابر، ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكـام الشرعية، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا بالنهي وأقروه على ظاهره كما جاء من غير بحث ولا نظر، وهذا هو مذهب أهل الحديث وأئمة التحقيق كثر اللّه سوادهم، قال الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه اللّه : "وما علمنا أن أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور كما يخرج الرجال" اهـ بلفظه.
    رابعاً: أن المحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة محضة أو راجحة وزيـارة النساء للقبور تشتمل على مفاسد كثيرة في الغالب فالتحريم إذاً ألصق بأصول الفرع ومقاصده.
    خامساً: أن أحـاديث النهي تضمنت حكماً منطوقاً به، وحديث عائشة عند مسلم صحيح غير صريح فيما استدل به عليه، إذ لم تقل ماذا أقول إذا زرت القبور بل قالت ما أقول لهم، وهذا يحتمل الزيارة وغيرها. قال أبو بكر الحازمي في كـتابه الاعتبار: "الوجه الثالث والثلاثون من وجوه الترجيح أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً" اهـ. أي فيجب تقديم ما هو منطوق به.
    سادساً: أن عامة العلماء قد رجحوا الدليل الحـاظر كـحديث اللعن في هذا المقام على دليل الإباحة كحديث عائشة عند مسلم على احتماله، فمن ادعى بعد ذلك أنه أبيح بعد المنع فعليه البيان لاسيما وقد ذكر هذا الوعيد الشديد في جانب المنع فالمسألة إذاً لا مسرح فيها للاجتهاد واللّه أعلم.
    سابعاً: أن مما يرجـح به أحد الحديثين على الآخر كثرة العدد في أحد الجـانبين وهى مؤثرة في باب الرواية لأنها تقرب مما يوجب العلم وهو التواتر كما حكى ذلك الحافظ أبو بكر الحازمي في اعتباره.
    قلت: وقد لاح لك مما تقدم أن عدد جانب المنع أكثر والاستدلال بها أظهر وباللّه التوفيق.

    والجواب عن حديثها في زيارتها لأخيها عبد الرحمن هو كما قال الحافظ بن القيم في تهذيب السنن: "إن المحفوظ في هذا الحديث حديث الترمذي مع ما فيه، وعائشة إنما قدمت مكة للحـج فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه وهذا لا بأس به، إنما الكلام في قصدها الخروج لزيارة القبور ولو قدر أنها عدلت إليه وقصدت زيارته فهي قد قالت: "لو شهدتك لما زرتك" وهذا يدل بالصراحة أن من المستقر المعلوم عندها أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور وإلا لم يكن في قولها ذلك معنى" اهـ.
    وأما رواية الحاكم التي فيها أن عائشة قالت لمن سألها نهى عنها ثم أمر بزيارتها فقد قال الإمام تقي الدين بن تيمية: "لا حجة في حديث عائشة هذا، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ وهو كما قالت رضى اللّه عنها ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة ولكن عائشة بينت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول فلم يصلح أن يحتج به, وهو أن النساء على أصل الإباحة، ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجل ولم تقل لأخيها لما زرتك". وقال ابن القيم رحمه اللّه في هذه الرواية: إنها من رواية بسطام بن مسلم، ولا صح فإن عائشة رضي اللّه عنها تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء في الإذن، والحجة في قول المعصوم لا في تأويل الراوي، وتأويل الراوي إنما يكون مقبولاً حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه وهذا الحديث قد عارضه أحاديث منع زيارة النساء للقبور" اهـ.
    ( تنبيـه ): قول ابن القيم رحمه اللّه تعالى إن هذا الحديث من رواية بسطام ابن مسلم ولو صح قـد يفهم منه أن هذا الحديث ضعيف من جهة بسطام هذا وليس الأمر كما يظن بل بسطام بن مسلم ثقة كما قال الحافظ في التقريب: "بسطام بن مسلم بن نمير العوذي بفتح المهملة وبسكون الواو، بصري ثقة من السابعة" اهـ. و
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 27.02.10 12:23

    بسم الله الرحمن الرحيم

    جُزءٌ في زِيَارَةِ النِسَاءِ للِقُبور

    كشفُ السُتور في نهي النساء عن زيارة القبور 470674

    تأليف الشيخ

    بَكر بن عَبد الله أبوُ زيد

    قام بصفه ونشره

    أبو علي

    مقدمة

    الطبعة الثانية



    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحَيِم



    الحمد لله, وبعد: فهذا الجزء الحديثي الفقهي من أوائل ما كتبت عام 1385هـ, وقد أَنِسْتُ بإعداده, وصياغته, ثم إنه مِن فَضْلِ الله – سبحانه - عَلَيَّ, أن الأُنْسَ به لم يدفعني إلى تقديمه للطبع, ولا تقديم غيره مِمَّا جَرَى إتمامه ( [1]) إلا بعد أن أنهيت جميع مراحل الدراسة النظامية حتى ((العالمية العالية)) .

    وقد كان من خبر هذا الجزء أني لم أطبعه إِلاَّ بَعد عشرين عاماً – تقريباً – من تأليفه, وبعد المذاكرة به مع بعض أهل العلم قبل طباعته وفي دور كتابته ( [2]).

    وهذه لَفْتَةٌ أدعو إليها كُلَّ طالب عِلْمٍ أن لا يسارع إلى التأليف والنشر إلا بعد إتمام المراحل النظامية, ويأنس من نفسه التأهل والرُّشْد لنشر ما كتب, مع إعادة النظر بعد تركه غُفْلاً ( [3]), وإلحاح في سؤال الله – تعالى – الخِيْرَةَ فيما يأتي ويذر. وإعمال المشورة والعرض لما كتبه على من يثق بدينه وعلمه, ويأنس برأيه, فإنه لن يعدم خيراً .

    والله – سبحانه – من وراء كل عبد ومقصوده وقصده ( [4]), والمقصود كونه لله وحده, والقصد هنا إبلاغ من شاء الله من عباده ما دلت عليه شريعته؛ ولهذا صار إعادة طبعه. والحمد لله رب العالمين .



    المؤلف

    بكر بن عبد الله أبو زيد

    1 / 11 / 1414هـ

    * * *

    بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحَيِم

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإنه في العشرين من شهر ذي القعدة عام أربعة وثمانين بعد الثلاثمائة والألف استوطنت المدينة النبوية ( [5]) على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, وقد شاهدت تكاثر النساء لزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما - , وما يحف بذلك؟ فتطلعت إلى معرفة مكانة هذه الزيارة من الشريعة لأنها تعبد, والعبادة لا تكون إلا بدليل, وكنت أرتاد مكتبة العلامة الشيخ حماد بن محمد الأنصاري وأستعلمه عما يشكل عَلَيَّ فكان نِعْمَ العَون بعد الله – تعالى – فتبين أن زيارة النساء للقبور من المسائل المختلف فيها بين العلماء مَا بَيَّن مُبيح, ومَانع, ومُفصل, والحاجة إلى معرفة حكمها تَهُمُّ الجميع, فرأيت من الواجب عَلَيَّ أداءً للنصيحة الخاصة والعامة بيان الحق الذي يجب أن يدين به كل مسلم, بذكر النصوص الصحيحة المانعة من زيارة النساء للقبور على الإِطلاق, مبيناً أن الاستدلال على الجواز برواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) غير مسلم به. كما أن تضعيف رواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)) ليس صحيحاً؛ لما سأذكره عن أئمة الشأن الذين يجب الرجوع إليهم في مثل هذا .

    وقد رتبت هذا الجزء في ((حكم زيارة النساء للقبور)) على العناوين التالية:

    1- اختلاف العلماء في هذه المسألة .

    2- المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً .

    3- تفصيل روايات المخرجين .

    4- سند حديث ((زائرات)) بطريقيه .

    5- الكلام على سَنَدَي هذا الحديث .

    6- ضبط زاي ((زوارات)) .

    7- تفصيل أدلة المنع .

    8- أدلة المجيزين والجواب عنها .

    9- نقل جملة من كلام أئمة التحقيق في هذه المسألة .

    والآن الشروع في المقصود, ومن الله المدد والمزيد .

    1 - اختلاف العلماء في هذه المسألة

    اختلف العلماء في زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن الإِمام أحمد – رحمه الله تعالى - .

    أولاً: الكراهة من غير تحريم كما هو منصوص الإِمام أحمد – رحمه الله تعالى – في إحدى الروايات عنه, واستدل له بحديث أم عطية المتفق عليه: ((نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا)) وإليه ذهب أكثر الشافعية وبعض الحنفية .

    ثانياً: أنها مباحة لهن غير مكروهة, وبه قال أكثر الحنفية والمالكية وهو الرواية الأخرى عن الإِمام أحمد – رحمه الله تعالى – . واستدل له بحديث مسلم عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)). وبحديث عائشة في زيارة أخيها عبد الرحمن, وبحديثها أيضاً عند مسلم: ((ما أقول لهم؟ قال قولي)) الحديث. وبحديث أنس – رضي الله عنه - : ((مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر)) الحديث .

    ثالثاً: التحريم لأحاديث اللعن وغيرها مما يعضدها. وهو مذهب بعض المالكية, والشافعية, والحنفية. وإليه ذهب أكثر أهل الحديث, وهو الرواية الثالثة عن الإِمام أحمد – رحمه الله تعالى – . كما حكاها العلامة علي بن سليمان المرداوي في كتابه ((الإِنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإِمام المبجل أحمد بن حنبل)) قال ما نصه: (( وعنه أي الإِمام أحمد رواية ثالثة: يحرم كما لو علمت بأنه يقع منها محرم, ذكره المجد واختار هذه الرواية بعض الأصحاب. وحكاها ابن تميم وجها)) اهـ. قلت: وهو اختيار شيخ الإِسلام أبي العباس بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم, والنووي في مجموعه, والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب, وكثير من أئمة التحقيق الآتي ذكر أقوالهم بعد – إن شاء الله تعالى - . واعلم أن القائل بالإِباحة مقيد لها بما إذا لم تشمل زيارة النساء للقبور على ما يفعله كثير من نساء زماننا من المنكر قولاً وفعلاً, بل ما يفعله كثير من جهلة الرجال أيضاً, فلا خلاف إذاً في الحرمة كما لا يخفى على المطلع الخبير .

    إذا حصل ما ذكر من بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة. فقد ذهب بعض أهل زماننا إلى جواز زيارة النساء للقبور ما لم تتكرر محتجاً برواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) على أنها للمبالغة مضعفاً رواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)) تقليداً لمن فهم ذلك قبله من غير تحقيق, وهو خلاف لا يُعتد به إذ ليس له حظ من نظرٍ, وقد قيل:

    وليس كل خلاف جاء معتبراً ** إلا خلاف له حظ من النظر

    أي: من نظر صحيح. وسيأتي الجواب عن أدلة الجميع إن شاء الله – تعالى – غير منكرين ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , بل كما قال العلامة شمس الدين ابن القيم – رحمه الله تعالى - , ندين الله بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نجعل بعضه لنا وبعضه علينا, فنقر ما لنا على ظاهره ونتأول ما علينا على خلاف ظاهره, بل الكل لنا لا نفرق بين شيء من سننه, بل نتلقاها كلها بالقبول ونقابلها بالسمع والطاعة, ونتبعها أين توجهت ركائبها وننزل معها أين نزلت مضاربها, فليس الشأن في الأخذ ببعض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بعضها, بل الشأن في الأخذ بجملتها, وتنزيل كل شيء منها منزلته, ووضعه بموضعه والله المستعان وعليه التكلان .

    2 - المخرجون لأحاديث اللعن إجمالاً

    1- أخرج الإِمام أحمد, والترمذي, وابن ماجة حديث النهي عن زيارة النساء للقبور من ثلاثة طرق:

    أولاً: من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه - .

    ثانياً: من طريق أبي صالح عن ابن عباس – رضي الله عنهما - .

    ثالثاً: من طريق عبد الرحمن بن حسان عن أبيه – رضي الله عنهما - .

    2- وأخرجه أبو داود.

    3- والنسائي.

    4- وأبو داود الطيالسي عن ابن عباس فقط.

    5- وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة وابن عباس.

    6- والحاكم عن حسان بن ثابت – رضي الله عنه - .

    3 - تفصيل روايات المخرجين

    أما الإِمام أحمد فقد رواه بلفظين:

    أولاً: رواه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور)).

    وأيضاً: عن حسان مثله .

    ثانياً: عن ابن عباس بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) .

    وأما أبو داود والنسائي وأبو داود الطيالسي فقد أخرجوه كلهم عن ابن عباس مثل لفظ الإِمام أحمد المتقدم عنه. وكذلك ابن حبان فقد رواه عن ابن عباس وأبي هريرة مثله. وأما الترمذي فقد رواه من طريق الإِمام أحمد الثلاثة المتقدمة ولفظه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور. وعن أبي هريرة وحسان بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)). بعد أن ترجم لها بقوله: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء. وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن. ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه من الطرق الثلاثة المتقدمة عن الإِمامين أحمد. والترمذي كلها بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زُوَّارات القبور)). بعد أن بوب لها بقوله: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء للقبور. وقال في الزوائد: إسناد حديث حسان بن ثابت صحيح ورجاله ثقات. فتبين من هذا أن لفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) جاء من الطرق الثلاثة المتقدمة أعني: عن ابن عباس, وثانياً عن أبي هريرة, وثالثاً عن حسان بن ثابت – رضي الله عنهم أجمعين - . وأن لفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)) جاء من طريقين:

    أولاً: عن ابن عباس عند الإِمام أحمد, وأبي داود, والنسائي, والترمذي, وابن حبَّان, وأبي داود الطيالسي.

    وثانياً: عن أبي هريرة عند ابن حبان. والله أعلم .

    4 - سند حديث ((زائرات)) بطريقيه

    وسند الجميع عن ابن عباس ما يلي:

    قال الإِمام أحمد في مسنده: حدثنا يحي, عن شعبة حدثنا محمد بن جحادة, عن أبي صالح, عن ابن عباس فذكره .

    ومثله بإسناده عند من تقدمت الإِشارة إليهم, إلا أن ابن حبان رواه أيضاً بسند آخر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((لعن رسول الله r زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)) فهذا الحديث رُوي عن كُلِّ من أبي هريرة, وابن عباس – رضي الله عنهما – بلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)). وبلفظ: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)). كما صرح به الترمذي في جامعه, وابن ماجة في سننه. فلهذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لكثرة طرقة .

    وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية – رحمه الله تعالى - : هذا مع أنه ليس في الإِسنادين من يتهم بالكذب ومثل هذا حجة بلا ريب, وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي, فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن شاذاً, وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات, هذا لو كان عن صاحب واحد فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب وذاك عن آخر فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف .



    5 - الكلام على سَنَدَي هذا الحديث

    1- وأما أبو صالح الراوي عن ابن عباس, فقد اختُلف في اسمه على قولين:

    القول الأول: أنه ميزان البصري أبو صالح, وبهذا جزم ابن حبان في الصحيح في النوع السادس من الثاني وفي التاسع والمائة من الثاني أيضاً بعد أن أورد هذا الحديث من رواية عبد الوارث, عن محمد بن جحادة, وأقره ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود وقوَّى هذا القول بأنه ((ميزان)) ولكن صُحِّفَ في طبعة مختصر سنن أبي داود بلفظ, (مهران) والصحيح أنه (ميزان) كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر. وميزان هذا قال فيه يحي بن معين – وهو من أشد الناس مقالة في الرجال - : إنه ثقة مأمون. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحاكم في الصحيح: هو ثقة. وقال الحافظ بن حجر في ((تهذيب التهذيب)): إن أبا صالح ميزان روى الترمذي عن طريقه في كتاب الجنائز من طريق عبد الوارث بن سعيد, عن محمد بن جحادة, عن أبي صالح عن ابن عباس, يشير إلى هذا الحديث .

    القول الثاني: أنا أبا صالح هذا هو (باذام مولى أم هانئ) ويقال بالنون (باذان) وجزم بهذا الحاكمُ وعبد الحق الإِشبيلي في ((الأحكام)) وابن القطان, وابن عساكر, والمنذري, وابن دحية, وغيرهم, قاله في ((التهذيب)) .

    فعلى كلا القولين فإن الحديث برواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور)) حديث صحيح سواء كان من رواية (ميزان) أو من رواية (باذام مولى أم هانئ). فقد قال أبو حاتم في ((الجرح والتعديل)): لم أرَ أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً, ولم يتركه سعيد ولا زائدة ولا عبد الله ابن عثمان. وقال يحي بن معين: أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بأس, فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء وإذا روى عنه الكلبي فليس به بأس؛ لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ومرة عن أبي صالح. اهـ .

    وهذا والله أعلم هو أعدل الأقوال في أمر أبي صالح مولى أم هانئ كما أشار إلى ذلك العلامة المحقق الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله تعالى - . قال في حاشيته على مسند الإِمام أحمد: والحق أن أبا صالح مولى أم هانئ ثقة ليس لمن ضعفه حجة وإنما تكلموا فيه من أجل التفسير الكثير المروي عنه, والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي, ودعوى ابن حبان أنه لم يسمع من ابن عباس, غلط عجيب, فإن أبا صالح تابعي قديم روى عمن هو أقدم من ابن عباس كأبي هريرة, وعلي بن أبي طالب, وأم هانئ. والله أعلم .

    2- الطريق الثاني: عن أبي هريرة – رضي الله عنه –

    قال ابن حبان: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة فذكر الحديث. وعمر هذا هو: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف أخو مسلم, مديني الأصل. قال أبو حاتم: هو عندي صالح صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به يخالف في بعض الشيء. وقال الذهبي صَحَّحَ له الترمذي حديث: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)). فناقشه عبد الحق وقال: عمر ضعيف عندهم – فأسرف عبد الحق. وقال ابن معين في رواية أحمد بن أبي خثيمة, عنه, ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في ((التقريـب)): صدوق يخطئ مـات سنة 132هـ . وبكلام الحافظ ابن حجر هذا عرفنا أن عمر المذكور وإن كان يخطئ إذا انفرد كما يشير إليه كلام الحافظ, ولكن مع وجود طريق آخر لهذا الحديث عن (ميزان البصري) على الصحيح, وعن مولى أم هانئ عَلَى قَوْل, يتبين أن عمر في هذا الحديث لم يخطئ فصح على هذا تصحيح الترمذي لهذا الحديث كما صرح بتصحيح الترمذي له الذهبي وبإسراف الإِشبيلي في تضعيفه. فتبين من هذا صحة هذا الحديث من غير مدافعة والله أعلم .



    6 - ضبط زاي زوارات

    هذا مع أن رواية: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)) هي بمعنى زائرات لأن زُوَّارات بضم الزاي المعجمة كما قاله الجلال المحلي في ((شرح المنهاج)) والسيوطي – وأقره السندي, والمنذري, وصاحب ((تنقيح الرواة شرح المشكاة)) قال هؤلاء: الدائر على الألسنة ضم الزاي من زوارات, جمعه زُوار جمع زَائرة سماعاً, وزائر قياساً. وقيل زُوارات للمبالغة فلا يقتضي وقوع اللعن على وقوع الزيارة إلا نادراً. ونوزع بأنه إنما قابل المقابلة بجميع القبور, ومن ثم جاء في رواية أبي داود زائرات بلا مبالغة. انتهى .

    فعلى هذا الضبط فهي بمعنى زائرات لا للمبالغة كما ظنه كثير من طلبة العلم فصيغة المبالغة بفتح الزاي لا بضمها, كما أن الصيغة الدالة على النسب بالفتح أيضاً كقوله – عز وجل - : ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ وذلك معلوم عند أهل التصريف قال ابن مالك في ألفيته:

    فعَّال أو مِفعَال أو فعُـول ** بكثرة عـن فاعلٍ بديل

    وقال في النسب:

    ومع فاعل وفعَّال فعـل ** في نسب أغنى عن اليا فقبل

    والنقل
    لطفا من هنا
    http://www.tunisia-forum.com/vb/archive/index.php/t-9774.html

      الوقت/التاريخ الآن هو 28.04.24 1:19