خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    أركان العبادة

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أركان العبادة Empty أركان العبادة

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 12.01.09 11:24

    أركان العبادة

    فاصل
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

    أما بعد:
    في هذه الحلقة نذكر أموراً أخرى تتعلق بالعبادة، التي شمل معناها الوجود، وعمت كل موجود، سوى الله تعالى، فالكل يعبد الله كما قال –تعالى-:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء.
    ومن الأمور التي سنتحدث عنها: ركنا العبادة.


    للعبادة ركنان أساسيان لا تقوم إلا عليهما جميعاً، فإن انتقض ركن فسدت العبادة، ولا يقبل الله إلا ما توفر فيه ذانك الركنان:


    الأول: الإخلاص لله تعالى.


    الثاني: اتباع الشرع في جميع العبادات من غير ابتداع.

    البسملة


    والأول هو أساس الدين الذي قال الله عنه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (5) سورة البينة ) ومعنى الإخلاص: تصفية الإرادة والتوجه إلى الله –تعالى- بالعمل، وتخليص العبادة من شوائب الرياء، وحب الفخر، والسمعة.. ومن الإخلاص-أيضاً- احتقار العبد عمله أمام نعم الله عليه، فمن أعجب بعمله أحبط وهو لا يشعر! ولهذا كان العجب بالأعمال وتضخيمها في النفس من محبطات الأعمال، وقد أطلق بعض السلف على ضرورة تجنب العجب قوله: إخلاص الإخلاص، أي أن الإخلاص يحتاج إلى تخليصه من العجب بالعمل، فلو أن عبداً صلّى في غرفة مغلقة مظلمة لا يراه إلا الله فهذا لا شك أنه إخلاص؛ لأن العمل كان مقصوداً به الله، دون حب الرؤية من أحد، ولكن بقي شيء هام جداً، وهو ألا يعجب العبد بعمله هذا، وتوسوس له أنه من عباد الله المقربين، وأنه قد عمل عملاً كبيراً!! بل يحمد الله ويستغفر بعد هذا العمل، ويعلم أنه لو بات الليل ساجداً، والنهار صائماً، لما وفى حق نعمة من نعم الله -عز وجل- فكيف بركعة أو ركعتين؟!


    ولهذا قال بعض السلف الصالح: لأن أنام الليل إلى الفجر فأصبح مستغفراً خير من أن أقوم الليل كله فأصبح معجباً -أي معجباً بالعمل-.. وليس معنى هذا دعوة للنوم عن العبادة!! لكن فيه تنفيراً وزجراً عن العجب بالنفس – والعياذ بالله-.


    وقد جاء في الإخلاص أحاديث كثيرة تبين أنه ركن وأساس في العبادة فعنأبي هريرة t في وصف أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه))رواه البخاري،وفي الصحيحين من حديث عتبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ))


    وجاء في حديث الأعمال بالنيات ما يبين أهمية ذلك الأساس ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).. الحديث, متفق عليه.


    وكان عمر بن الخطاب يقول: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد شيئاً).


    وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الركن العظيم لا تحصى كثرةً واستفاضةً، وهم قد حققوا ذلك واقعاً في حياتهم – رضي الله عنهم جميعاً-.



    البسملة


    الركن الثاني: إتباع الشرع في العبادات


    والمقصود بهذا أن يأتي الإنسان بالعبادات موافقة للشريعة الإسلامية اتباعاً لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يقبل الله –تعالى- أي قربة أو عبادة تخالف شريعة الله، وإن ظن صاحبها أنها قربة فهي وبال عليه وكربة؛ لأن التقرب يكون بما شرع الله – عز وجل- ولهذا يقول –تعالى- في بيان أهمية هذا الركن وما قبله:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكه
    ف، والعمل الصالح هو الموافق للشرع، وما خالفه فهو الفاسد، وقوله: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاً) نفي الشرك عن العبادة، وهو معنى الإخلاص ..

    وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من زاد في الدين أو أحدث عبادة يظنها قربة وطاعة، وبين أنها مردودة عليه فقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم.


    وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته يوم الجمعة : ((أما بعد: فإن خير الحديث كتابالله وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة))خرجه مسلم في صحيحه.


    وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا ؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد )) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.


    وقال الله عن أهمية اتباع الرسول في شرعه:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران.


    فتبين بهذا أن العبادة لا تصح إلا بهذين الركنين العظيمين وهما الإخلاص والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.


    وقد جاء عن السلف الصالح ما يبين اشتراط ذلك للعبادة في كلامهم، وأن العبد لا تقبل منه العبادة إلا بهذين الأساسين العظيمين، يقول الفضيل بن عياض في قوله الله:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاُ} قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟! قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة).


    كمال المخلوق في تحقيق العبودية لله:


    كلما كان العبد قريباً من الله –تعالى- محباً لطاعته وعاملاً بها، كان إلى الكمال البشري أقرب

    ولما كان الأنبياء -عليهم السلام- هم أقرب الناس من ربهم تعبداً وتألهاً وحباً وخوفاً ورجاءً، وصفهم الله بالعبودية في مواضع مختلفة، ولهذا قال الله عن المسيح:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } (59) سورة الزخرف
    ولما ادعت النصارى أنه ابن الله رد الله عليهم بأعلى درجات البشرية وهي القرب من الله والعبودية لله، وليس كما زعموا أنه ابن الله..


    وكما سبق فقد وصف عباده المقربين من الملائكة الكرام بالعبودية فقال: (بل عبادٌ مكرمون * لا يسبقونه بالقول) الآية.
    وقال: (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون).


    البسملة


    وبين أن الاستكبار عن العبودية والطاعة لله من أرذل صفات العبيد، وأن مقام العبادة من أشرف المقامات

    فقال –تعالى-:{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (172-173) سورة النساء.

    وقال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر .


    البسملة



    وقد وصف الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية في أعلى المقامات، فوصفه في مقام الإسراء، وهو مق
    امٌ عظيم، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء .
    ووصفه بها في مقام الوحي:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (10) سورة النجم .


    ووصفه بها في مقام الدعاء:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (19) سورة الجن .


    فهذه من أعظم المقامات فاستحق نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يحوز الكمال البشري بالتقرب إلى الله تعالى.


    وهذا الأمر مفتوح للناس إلى يوم القيامة فعلى قدر ما يحقق العبد من العبادة يكون قدره وكماله عند الله - الكمال النسبي- فيحصل له من أنس المناجاة، وقرب المناداة ما ضيعه كثير من البشر التائهين في دياجير الأماني والأحلام، وبالله المستعان..


    البسملة

    العبادة مبنية على الحب والخوف والرجاء..


    ليست العبادة كما يزعمها كثير من الفلاسفة، وكما يحس بها كثير من الكسالى: مجرد تكاليف شاقة وثقيلة على النفس، إنه لم يأت هذا المفهوم إلا بسبب البعد عن حقيقة العبادة ومغزاها وما تهدف إليه.. إن العبادة في كل أنواعها تعني القرب من الله، والأنس به، وحبه، ومناجاته، وكذا الخوف من التقصير في جنبه عز وجل..


    لقد تلذذ المتلذذون بالعبادة، فأعطوا الفوز والريادة، ولما اقتربت قلوبهم وأجسامهم من الله، استشعروا أن العبادة غذاء الأرواح والأبدان. أما والله! ما أصحبت الشريعة تكاليف شاقة إلا بعد ما تكدرت القلوب، ورانت عليها الذنوب، فأهمل جناب علام الغيوب... (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم) هكذا يقول عثمان -رضي الله عنه-.

    إن العبادة للعبد لا يقارنها شيء في احتياج الأشياء إلى بعضها، فلو قارناها بالأكل في حاجة الجسم إليه لما صحت تلك المقارنة؛ لأن بفقدان الروح والإيمان خسران الدنيا والآخرة، وبفقدان الجسد قد لا يكون ذلك الخسران، بل كم مات من أناس جوعاً، وهم شهداء في سبيل الله

    وكم من بطون ممتلئة بأصناف المأكولات! لكن قلوبهم فارغة من القرب والأنس بالله! فحين الموت كانت تلك النفس من أخبث النفوس!! أليس في هذا دليل على أن حب الله والقرب منه أساس كل شيء!!


    ولا بد في العبادة من اجتماع الأمور الثلاثة: الحب والخوف والرجاء، فنعبد الله حباً له لما فطرنا عليه من الميل إليه والأنس به، ونعبد الله رجاءً في رحمته وجنته العظيمة، ونعبد الله ونحن نخاف من إحباط أعمالنا أو الوقوع في معصية فننال عقاب الله! فمن عبد الله بأحد هذه الأمور دون بعضها تزندق..


    (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري- أي خارجي-ومن عبده بالخوف و الحب و الرجاء فهو مؤمن موحد ).وهذه العبارة وردت عن بعض السلف الصالح.


    ويرجع السبب في ضرورة اجتماع الثلاث الخصال في العبد؛ أن من عبد الله بأحدها فسوف يحصل خلل في حياته.. فإذا غلَّب العبد الخوف فإنه سيصاب باليأس والإحباط، ولربما -والعياذ بالله- قد يكون ذلك سبباً في انحرافه.


    ومن غلَّّب جانب الرجاء قاده إلى التهاون بكثير من الواجبات، وانتهاك المحرمات، والاعتماد على رحمة الله، دون عمل بالأسباب، ولهذا لا بد من اليقين والجمع بين المعنيين في قوله –تعالى-: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذابُ الأليم).


    وهكذا.. فكثير من الآيات تبين ضرورة التوازن في حياة العبد، فهو يعبد الله راجياً رحمته، ولا يعصيه؛ لأنه يخاف عقابه، ويعبده حباً له وقرباً منه عز وجل...


    البسملة


    العبادة والاستعانة:


    جمع الله –تعالى- بين العبادة والاستعانة في أعظم سورة هي سورة الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

    فالعبادة هي الخضوع والذل لله –تعالى-، والاستعانة طلب العون من الله

    وهذا العون إما لجلب نفع أو دفع شر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرشد المسلمين إلى أن تكون استعانتهم بالله –تعالى- فيما لا يقدر عليه إلا هو، كما قال لابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ..)) الحديث رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.


    ومن طلب العون من الله على قضاء الأمور, ودفع الشرور، فقد استعان بعظيم قوي قادر فعّال لما يريد، يقول للشيء كن فيكون.

    والاستعانة تقتضي أن يوكل العبد أموره إلى الله؛ لأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، والتوكل قد جاء مقروناً مع العبادة والإنابة في آيات كثيرة
    كقوله –تعالى-:{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (123) سورة هود
    وقوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (10) سورة الشورى
    {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (30) سورة الرعد.


    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله

    ولهذا قال من قال من السلف:

    إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد

    كما جاء في الحديث الصحيح الذي في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يقول الله سبحانه وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبد ما سأل)

    قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، ويقول: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل).

    فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب، وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه وما للعبد).
    1

    وسبب الجمع بينهما هنا وفي غيرهما من الآيات؛ لأن العبد يطلب العون من الله في التوفيق للعبادة والثبات عليها حتى الموت، مع أن العبادة اسم جامع تدخل تحتها الاستعانة والتوكل؛ وأفردت في هذا المقام وذكرت مع العبادة؛ لأنها الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة.

    فالعبد لا غنى له عن سيده وربه –تعالى- طرفة عين فلا هادي إلا الله، وكما قال تعالى:{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (97) سورة الإسراء.

    هذا ونسأل الله أن يهدينا إلى طاعته وعبادته وأن يحببها إلى قلوبنا، ويجعلها أحب إلينا من أموالنا وأولادنا ومن كل شيء.. آمين يارب العالمين...

    وسيأتي في الحلقة الرابعة – إن شاء الله- مفهوم العبادة الشامل، وأنواع العبادة، وأخطاء في مفهوم العبادة، والعبادة لله تحرر العبد من عبودية ما سواه...

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..


    _________ الحاشية _________


    1- التحفة العراقية ص315- 316. تحقيق د/ يحيى الهنيدي.

    والنقل
    لطفـــــــاً .. من هنــــــــــــــا
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أركان العبادة Empty رد: أركان العبادة

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 12.01.09 11:46

    العبادة ومفهومها
    (1-4)

    فاصل

    الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً
    وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً
    وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً

    وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين
    خلق الخلق ليعبدوه، ويسر لهم سبل الهدف الأكبر من خلقهم
    فجعل لهم الليل سكناً والنهار معاشاً والأرض فراشاً وقال لهم بعد كل تلك النعم:
    {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه{

    وأشهد أن محمداً رسول الله
    خير من صلّى وسجد، وصام وعبد، ووضح العبادة كما هي
    وأفردها لله عن الشريك والنديد- صلى الله عليه وسلم- تسليماً كثيراً

    أما بعد:-

    فمن نظر في آيات الله الكونية وما خلق الله –تعالى- مما يراه بأم عينيه، وجد أن ذلك الخلق كائن من قوة عظيمة فاعلة، لها القوة المطلقة، والقدرة الكبيرة على التصرف في هذا الكون، وهو الله جل في علاه.

    {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

    {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}

    ولما كان الله –تعالى- هو صاحب القدرة المطلقة، التي لا يقف دونها شيء اقتضى العقل الصحيح باتفاق مع النقل الصحيح الصريح أن يكون هو المعبود المطاع

    لأنه أعلم بخلجات قلوب الكائنات في هذا الكون الفسيح...

    وعبادة الله هي الغرض من خلق الجن والإنس في هذا الكوكب الصغير..

    فكان لا بد من بيان العبادة، وما مفهومها ؟

    وكيف أصبح الناس تجاهها بين سابق إلى الخيرات، ومقتصد، وظالم لنفسه..

    ولا حول ولا قوة إلا بالله..

    وقبل أن نشرع في بيان أنواع العبادات لا بد أن نفهم : ما هي العبادة ؟

    هل هي ما يظنه كثير من الناس اليوم من صلاة وصيام وزكاة وحج، أم أن لها مدلولات إضافية أخرى..

    وهل هي محصورة في ما سبق، أم أنها تشمل كافة مناحي الحياة ؟!

    كل ذلك ما سنعرفه في السطور القادمة..



    البسملة


    تعريف العبادة: لغة:

    الخضوع والذل والانكسار

    يقال: طريق معبَّد، أي مذلّل للمارين عليه، ومنه سمي الأسير من الكفار عبد؛ لأنه ذليل

    قال ابن منظور:
    ( والعبادة: الطاعة، وقوله تعالى:{وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي دائنون، وكل من دان لملك فهو عابد له

    قال ابن الأنباري:
    فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره، وقوله -عز وجل-:{اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} أي أطيعوا أمره، والمتعبد: المنفرد بالعبادة).[1]

    قال الزبيدي:
    ( والعبادة الطاعة، وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب).[2]

    يقول ابن فارس
    - وهو من أقدم من ألف في المعاجم العربية، وهو قبل ابن منظور والزبيدي-:

    (عبد: العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصليين يدل على لين وذُلّ، والآخر على شدة وغِلط

    قال الخليل:
    وأما عبد يعبد عبادة فلا يقال إلا لمن يعبد الله تعالى، يقال منه: عبد يعبد عبادة، وتعبَّد يتعبَّد تعبداً، فالمتعبِّد: المتفرد بالعبادة، واستعبدتُ فلاناً: اتخذته عبداً..

    ثم قال ابن فارس رحمه الله:
    ومن الباب البعير المعبَّد أي المهنوء – المطلي- بالقطِران، وهذا أيضاً يدل على ما قلناه؛ لأن ذلك يُذله ويخفض منه، قال طرفة بن العبد:

    إلى أن تحامَتْني العشيرة كلها وأُفرِدتُ إفراد البعير المعبَّد

    والمعبَّد؛ الذلول، يوصف به البعير أيضاً، ومن الباب: الطريق المعبَّد، وهو المسلوك المذَلّل...)[3]، ثم ذكر الأصل الآخر الذي يدل على الصلابة والقوة.

    من خلال ما سبق يتبين لنا المعنى اللغوي لكلمة (عبادة) وعبودية، وهي مشتقة من أصولها الثلاثة (عبد) التي تدل على الذل واللين والخضوع، وهذا المعنى هو المستعمل في عامة المفردات.


    البسملة


    العبادة شرعاً:

    لا نطيل في ذكر المعاني الشرعية للعبادة؛ لأن الشيء يعرف من أصله، فإذا عرفنا أصل معنى العبادة أنه الخضوع والذل...

    فمعناها في الشرع:

    الخضوع والذل الكامل لله –تعالى- في كافة شؤون الحياة، وبجميع الآلات: القصد، والكلام، والفعل، حباً وخضوعاً ورجاءً وخوفاً من الله تعالى..

    ومن هذا المعنى نأخذ أنه لا يجوز أن نخضع خضوع الذلة والمسكنة والعظمة إلا لله عز وجل..
    وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- العبادة تعريفاً جامعاً مانعاً يدل على فقه الرجل ومعرفته بعامة العلوم الشرعية، يقول:

    البسملة

    العبادة:
    هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة

    فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة).[4]

    وعدد أنواعاً أخرى من العبادة..

    وبهذا التعريف يتضح لنا أن الحياة كلها لله،

    مصداقاً لقوله –تعالى- عن إبراهيم:
    {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
    (79) سورة الأنعام

    وقوله في آخر السورة:
    {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}
    (162-163) سورة الأنعام.


    ومن عظمة هذا التوجه الشامل لنبينا إبراهيم -عليه السلام- كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يجمع بين هذه الآيات في دعاء الاستفتاح؛


    حيث ورد في الحديث:
    (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين).
    رواه مسلم وأحمد.

    وفي رواية:
    (وأنا أول المسلمين)
    كما في الآية.

    والمقصود

    أن العبادة شاملة لجميع حياة الإنسان

    وذلك يظهر من قوله - تعالى-:
    {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

    فجعل البداية (محياي) والنهاية (مماتي) وما بينهما كله لله رب العالمين..

    وسيأتي بيان ذلك واضحاً جلياً – إن شاء الله- في فصل مفهوم العبادة الشامل...

    وشيخ الإسلام قد قال :
    اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة..

    فالأقوال
    هي عبادات اللسان كالذكر والدعاء..

    والأعمال الظاهرة
    كالصلاة والصيام والحج وغيرها ..

    والأعمال الباطنة هي
    أعمال القلب كالحب والخوف والرجاء وغيرها..

    فجمع التعريف كل ما تقوم به العبادة من : القلب واللسان والجوارح ...


    البسملة

    حاجة الناس إلى العبادة:

    حاجة الناس إلى العبادة متعلقة بأن العبد مفطور على حب الله وعبادته واللجوء إليه

    ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم :
    ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)
    متفق عليه

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أركان العبادة Empty رد: أركان العبادة

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 12.01.09 11:47

    فالأصل أن الناس مفطورون على حب الله وعبادته
    {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
    (30) سورة الروم.
    [/b]

    وكذا يتضح لنا حاجة الناس إليها من خلال تكوين العبد الخلقي، فهو مكون من جسد وروح

    فالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة، وغذاؤه الأكل والشرب ، والروح لا بدَّ له من غذاء، وغذاء الروح هو الغذاء الإلهي التعبدي

    ولهذا لما كان الجسد من الطين الدال على السفل والدنو والثقل، كان غذاؤه من الأسفل ومن الطين

    ولما كانت الروح من أمر الله ومن روحه كان الغذاء لا بد أن يأتي من علو من عند الله –تعالى-

    فإذا اجتمع الأمران وامتزجا في بدن العبد حصلت الصحة والاعتدال والراحة في الإنسان

    وإذا اختل الغذاء الروحي الإيماني تكدرت الحياة، وأصبحت جحيماً لا يطاق!!


    وإذا ارتفع الغذاء الروحي وبلغ ذروته فإن قلة أو ضعف الغذاء الجسدي يعوضه ذلك الغذاء الروحي..

    ومن هذا يتضح لنا السبب في كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسك عن الأكل ويواصل صيامه يومان فأكثر،

    ولما سأله الصحابة عن ذلك قال:
    ( وأيكم مثلي! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)
    رواه مسلم

    ولهذا كان كثير من العارفين بالله يصومون جل أيام عمرهم، ولا يأكلون إلا قليلاً، ومع هذا يجدون من لذة الذكر والقرآن لذة لا تقارنها لذة أصلاً!!

    فقلة الغذاء الجسدي ناب عنه الغذاء الروحي الإلهي

    لكن المشكلة عندما يضعف أو يعدم الغذاء الروحي الإلهي فإن الحياة تتكدر على العبد، بقدر ما نقص من ذلك الغذاء العظيم.

    فعلى قدر قوة ذلك الغذاء الإلهي في قلب العبد وجسمه توجد السعادة والحياة الطيبة، فلو ضعف ذلك الزاد تكدرت الحياة بقدر الضعف..

    فتجد العبد تصيبه الهموم والمشاكل النفسية..

    والناس درجات ودركات في ذلك، فمنهم من يصيبه الهم والغم ولكنه يتذكر لذلك؛ فإذا استخدم من الغذاء الروحي حظه ونصيبه رفع عنه ذلك الهم والغم

    ولهذا أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم- من أصابه الهم والغم والكرب أن يذكر الله، وهو بهذا يستخدم السلاح الإلهي لدفع الهم والغم-

    فعن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏"‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
    ‏( ما أصاب عبداًهم ولا حزن فقال‏:‏ اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمكعدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمتهأحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي،ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانهفرحاً‏)
    ‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نتعلمهن‏؟‏
    قال‏:‏ (بلى! ينبغي لمن سمعهن أنيتعلمهن‏)‏‏
    .رواه أحمد وأبو حاتم وصححه الألباني.

    سبحان الله..

    إنه يذكِّر العبد بانحرافه عن الهدف العظيم في جزئية من حياته، فكان ذلك هو السبب في الهم والغم، فأراد أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يعيد الغذاء إلى الجسد بالاعتراف بحقيقة الأمر والشأن، وهو عبودية الإنسان لله، ولجوئه إلى الذي لا يستغني عنه طرفة عين-سبحانه وتعالى-.

    ومن الناس من يصيبه الهم والغم فلا يتذكر ولا يتفكر في سببه، فيعالجه باللجوء إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً! فيزداد الأمر سوءً، حيث يذهب العبد إلى أطباء الأمراض النفسية – مع أنه لا حرج في ذلك من حيث العموم – لكنه لو رجع إلى بارئه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته من أول الأمر لاستدرك ما فاته من خير اللجوء والأوبة والتوبة..

    ولا غرابة ولا عجب أن نرى كثيراً من أمم الأرض اليوم تصاب بالاكتئاب والقلق الدائم، والجحيم الذي لا يفارق أنفاسهم لحظة من الزمن..
    فإنهم قد غلطوا غلطاً كبيراً، حيث انحرفوا عن هذا المبدأ العظيم، وهذا الأصل الكبير في الحياة

    وهو
    حتمية الجمع بين الغذاءين ولا بد..

    فإن من أعرض عن غذاء الروح تكدرت عليه حياته مهما ملك من الأموال، ومهما فرح بكثير من الأحوال، فإن الهم والقلق لا يفارق قلبه، ولا قوة إلا بالله..

    ولهذا يلجأ كثير من هؤلاء المعرضين عن الله إلى (الإنتحار)، ومحاولة الخروج من هذا الإحباط والقلق الدائم بأي طريقة كانت! حتى لو وصل الحد به إلى قتل نفسه، وكم من حوادث مؤلمة نسمع عنها!!..


    وهذا يدلنا على أن هؤلاء فقدوا عنصراً كبيراً وخطيراً في الحياة، وهو الفطرة التي فطروا عليها وهي حاجتهم إلى عبادة الله، وميلهم الفطري إليها

    فاصل

    وعلى هذا الأساس فليعلم كل عبد رزقه الله الفقه والفهم في أمور دينه:

    أن كل ما يصيب الناس من مشاكل وقلق وهموم، سببها نقص في هذا الأصل

    إما نقص جزئي
    أو كلي

    حيث يصبح العبد كالبهيمة

    فعليه أن يعالج هموم نفسه بالرجوع إلى الله، وتحقيق ما اختل من العبادة التي هو محتاج إليها كل حين ..

    ولهذا صدق الله العظيم القائل :
    { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
    (124) سورة طـه

    والقائل:
    {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (125) سورة الأنعام

    وهذا كناية عن ضيق النفس وتكدر الحياة..

    وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حاجة العبد إلى عبادة الله فقال:
    ( واعلم أن فقر العبد إلى أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب وبينهما فروق كثيرة..
    فإن حقيقة العبد قلبه وروحه[5] وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره)

    ثم شرع ابن تيمية يبين سبب ذلك اللجوء والاحتياج إلى عبادة الله وطاعته


    وقد ذكر ذلك في عدة وجوه وأسباب فقال:
    (أحدها:[6] أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقُوْتُه وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن..)


    ثم ذكر نفي المشقة والتكليف وإطلاق ذلك على العمل الصالح والإيمان، وأن السلف لم يطلقوا ذلك عليهما، وإنما أطلقه المتكلمون

    وقد ذكر في القرآن بالنفي:
    {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}

    قال:
    (أي وإن وقع في الأمر تكليف فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذات الأرواح، وكمال النعيم).[7]

    ثم قال:

    (الأصل الثاني: أن النعيم في الدار الآخرة أيضاً به – أي بالله وبعبادته- مثل النظر إليه..)

    كما في الدعاء المأثور
    (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) رواه النسائي وصححه الألباني[8].

    وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
    (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار! قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه سبحانه! فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة).

    والمقصود بالزيادة ما ذكر في قوله - تعالى- : {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}

    ثم قال ابن تيمية:
    ( فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه).

    ثم ذكر أن هذين أصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان قاطبة..

    والمقصود أن العبد محتاج إلى عبادة الله والقرب منه، والاستئناس بجواره-عز وجل- فمن فقد ذلك شقي، وهو الضنك المذكور في قوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

    قال:
    (الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء، ولا هدى، ولا ضلال، ولا نصر، ولا خذلان، ولا خفض، ولا رفع، ولا عز، ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه، ورزقه، وبصّره، وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر لم يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه..)
    انتهى كلامه.

    وخلاصة القول هنا:
    أن الله خالق العبد والمتصرف في أموره، فالحاجة تجعل العبد يرجع إلى الله، وينيب إليه في كثير من مشاكل الحياة، حتى أنك لترى كثيراً من الناس إذا أصيبوا بكارثة رفعوا أيديهم إلى الله -عز وجل...

    حتى أني سمعت قصة عجيبة عن رجل روسي وكان يتدرب على القفز المظلي (من الطائرة) فلما قفز من الطائرة لم تنفتح المظلة وهو يهوي في السماء وهي مغلقة، فدعا بلغته : يا الله! فانفتحت ونزل إلى الأرض بسلام، فهذا مع بعده عن الله، وكفره بآيات الله قبل ذلك في دولة اشتراكية ملحدة، لما ضاقت السبل وانقطعت الأسباب البشرية الضعيفة التي تشبه خيوط العنكبوت في الهوان نادى: يا الله!

    اتجهت الفطرة إلى الله -سبحانه وتعالى-.. وهكذا فالعبد مجبول على عبادة الله، وحبه، ودعائه

    ولكن كما جاء في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..)
    رواه مسلم.

    ثم قال ابن تيمية -رحمه الله-:
    (الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس)
    انتهى كلامه..

    يقول حاجة العبد إلى المخلوق قليلة وآنية، وحاجته إلى عبادة الله وطاعته دائمة، كما في الحديث:
    (أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه،واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)

    رواه الطبراني وحسنه الألباني.

    ثم ذكر الوجه الخامس من وجوه وأسباب حاجة العبد إلى عبادة الله فقال:
    أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل) انتهى كلامه..

    ونحن نجد هذا واقعياً..
    فرحم الله ابن تيمية على إبراز هذا المعنى، حيث نجد كثيراً من الذين كان لهم العباد نصراء ووزراء أول من يخذلونهم..
    فنحن نجد على سبيل المثال ابن العلقمي الذي كان الخليفة العباسي يقربه ويدنيه منه
    كان أول من خذله! وأشد من قتله!!
    وهكذا على مدى التاريخ، كم من هزائم ونكبات كانت بسب أقرب المقربين!


    وفي العصر الحديث نجد:
    دولة صدام حسين زالت بسبب الخيانة الكبرى من أقرب أقربائه كما علم ذلك، وانتشر بين الناس...

    فسبحان الله ما أعظم وما أعزّ من استنصر به ولجأ إليه، وما أسرع خذلان من اعتز وعبد ولجأ إلى غيره!.


    ثم ذكر وجوهاً إلى أن قال:
    (الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك
    فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك ولا خوفك

    قال تعالى:
    {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }انتهى.


    فهذه الوجوه والأسباب وغيرها اقتضت أن يكون العبد محتاجاً إلى الله: أُنساً به، وقرباً منه، ورجوعاً إليه وعبادة له -عز وجل-.

    إلى هنا ننهي حديثنا عن هذه الفقرة..
    وسيأتي في الدروس القادمة -إن شاء الله- ذكر ما يتعلق بالعبادة من مفاهيم وتاريخ حولها..


    فاصل


    ======== الحاشية =========

    [1]- لسان العرب 3/372-374.
    [2]- تاج العروس باب (عبد)
    [3]- معجم مقاييس اللغة (4/205-206). ط/ دار الجيل.
    [4]- العبودية ص38. ط/ المكتب الإسلامي/ الخامسة 1399هـ.
    [5]- وهذا كما قال زهير بن أبي سلمى: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
    [6]- ذكر في الأصل (أحدهما) فهو ذكر وجهين ثم ذكر بقية الوجوه بعدهما، ونحن قلنا: ( أحدها ) للجمع، على ما سيأتي..
    [7]- قاعدة جامعة في التوحيد (ص34-36). ط/ دار العاصمة – السعودية.
    [8]- صحيح سنن النسائي (1237).
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أركان العبادة Empty رد: أركان العبادة

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 12.01.09 11:57

    العبادة

    فاصل

    (2-4)
    عبادة العالمين

    فاصل

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

    أما بعد:[/size]
    [size=21]غير خاف على ذي لب من المؤمنين أنه لابد في العبادة من معرفة أصلها اللغوي ومعناها الشرعي علماً وعملاً، واضطرار الناس إليها ، وأنه لا غنى لأحد عنها طرفة عين ، وأن من ظن أنه يستغني عن الله وعبادته في الدنيا فقد أفحش الوهم ، وأعرق في الجهل ، ونصيبه في الدنيا الهموم والأكدار والضنك وفي الآخرة عذاب أليم شديد..!

    فاصل
    الخلق كلهم عبيد الله:
    فالخلق كلهم عبيد الله مؤمنهم وكافرهم، حتى من عصى الله وكفر به وحجد هذه العبودية ، فإنَّ حاله يشهد بأنه عبد مذلل لله، إليه يرجع، لا مفر له منه إلا إليه –سبحانه- وبهذا الاعتبار (أي أن العبد يراد به المعبَّد المذلل لله ، فالمخلوقون كلهم عباد الله: الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا، وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال –تعالى-: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران, فهو سبحانه رب العالمين، وخالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق لهم إلا هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك، وآمنوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له، مستكبراً على ربه، لا يُقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه، فالمعرفة بالحق إذا كان مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه؛ كما قال –تعالى-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل. وقال –تعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة. وقال –تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} (33) سورة الأنعام. فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه، عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله) أ.هـ من كتاب العبودية لشيخ الإسلام ص47.
    فاصل

    اتصاف الأنبياء بالعبادة ودعوتهم إليها:-
    ووهذه العبودية هي عبودية الطاعة والانقياد وخير من اتصف بها من الناس الأنبياء عليهم السلام ، فكلهم اتصف بها ووصفهم الله بها ودعوا إليها وحققها :
    1.آدم عليه السلام:


    أبو البشر، وهو أول من حقق ذلك، حيث خلق الله آدم عليه السلام وذريته لعبادته، ومن عبادته لجوؤه إلى الله بعدما أزله الشيطان وزوجته، حيث قال الله عنه:{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف. فالدعاء والتوبة من أنواع العبادة وأجلها... والأنبياء جميعاً كانت لهم عبادات يتقربون بها إلى الله من صلاة وصيام ، كما قال تعالى في الصوم أنه كان مكتوباً على الذين من قبلنا، فدخل فيهم آدم وبنيه عليهم السلام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.

    2.نوح عليه السلام:

    وقد دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادة الله حيث جاء في كثير من آيات القرآن قوله –تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف, وكذا قوله في سورة نوح:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} ودعا ذريته بأصل العبادة وهي كلمة التوحيد ، فعن سليمان بن يسار رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال نوح لابنه إني موصيك بوصية وقاصرها لكي لا تنساها أوصيك باثنتين وأنهاك عن اثنتين أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه وهما يكثران الولوج على الله أوصيك بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما ولو كانتا في كفة وزنتهما وأوصيك بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة الخلق وبهما يرزق الخلق وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وأما اللتان أنهاك عنهما فيحتجب الله منهما وصالح خلقه أنهاك عن الشرك والكبر رواه النسائي واللفظ له والبزار والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وقال الحاكم صحيح الإسناد 1.

    ولقد ذكر الله تعالى منتّه على أنبياءه بالعبودية وأنها من أجل نعمه على هؤلاء الانبياء -عليهم السلام- بعد أن عدد صفات من اجتباهم من الأنبياء مادحاً لهم فقال بعد ذلك :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم . فهؤلاء المشار إليهم ومن حققوا تلك العبادات ،في أجل نعمة أنعمها الله عليهم ، وقد جمع الله بين ذكر الذرية وخصِ نوح بالعبودية وبالشكر في قوله:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (3) سورة الإسراء.
    ومما زادني شرفا وتيهــا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
    دخولي تحت قولك يا عبادي .......................

    3.إبراهيم عليه السلام:

    لقد وصف الله الخليل إبراهيم بأنه عبد من عباده المؤمنين، فقال:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (111) سورة الصافات، وقال-تعالى-:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} (45-46) سورة ص . وإبراهيم هو أبو الأنبياء وقدوتهم في التوحيد والعبادة... وكما جاء في الآية السابقة :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم .


    4.إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (54-55) سورة مريم . والصلاة والزكاة أجل العبادات الظاهرة.

    ومن أظهر العبادات والقربات اللاتي عملها إسماعيل مع أبيه إبراهيم شرف بناء الكعبة، طاعة لله تعالى في أمره عز وجل.

    وموسى-عليه السلام- كان من عباد الله المقربين وأنبيائه المخلصين، حيث قال الله عنه وعن هارون: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(120-122) سورة الصافات

    وهكذا جميع الرسل من عهد آدم إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا عباداً لله مخلصين. شرع الله لكل منهم عبادة وشرعة تناسب زمانه ومكانه وقومه؛ كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة

    فكانت العبادة هي الزاد العظيم للأنبياء والمرسلين في حياتهم قاطبة وما يواجهون به أعداءهم وأزماتهم، وقد حققوها وقاموا بها أتم قيام، ودعوا قومهم إليها، وأدوا الأمانة فيها فآمن من قومهم من آمن وكفر منهم من كفر.. وهكذا الحال في خاتم الأنبياء -عليهم السلام- محمد بن عبد الله -صلوات الله عليه وسلامه- فإنه كان أعظمهم تحقيقاً للعبادة، وحياته وسيرته في بطون الكتب تبين لنا الغاية العظمى التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في تحقيق عبادة ربه سبحانه، ويكفينا من ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم، أو تنتفخ قدماه ويقول : (أفلا أكون عبدا شكورا). صحيح البخاري 1062
    فاصل
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    أركان العبادة Empty رد: أركان العبادة

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 12.01.09 11:58

    اتصاف الملائكة بالعبادة:

    والملائكة خلق من خلق الله الكبير المتعال –سبحانه-. وقد خلقهم الله من نور، كما أنه خلق الجن من نار، والإنس من طين.. ، وهم عباد الله المقربون الذين يسبحون له الليل والنهار لا يسأمون من تلك العبادة؛ لأنهم ركبوا وخلقوا على تلك الغاية، ولم تخلق فيهم شهوة، ولا تعرض لهم شبهة، فعبادتهم متواصلة لا يعصون الله -عز وجل- ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم قيام بما وكلوا به من المهام والوظائف ؛

    منهم الموكل بنفخ الأرواح ، ومنهم الموكل بقبضها وهو ملك الموت، ومنهم الموكل بكتابة أعمال العباد {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ومنهم الموكل بحفظ الإنسان من بين يديه ومن خلفه{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ}

    وقد قال علماء التفسير :هم الملائكة ، ومنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء وهو جبريل الروح الأمين عليه جميع الملائكة السلام .. وهكذا فكل ملك من الملائكة الكرام الطيبين له وظيفة هي عبادته وقربته التي يتقرب بها إلى الله –تعالى- وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن العظيم بأنهم { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (19-20) سورة الأنبياء .
    وقال –تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ*} (206) سورة الأعراف ).
    وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ* }سورة الأنبياء.
    وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.وقال –سبحانه-: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ*}.وغيرها من الآيات

    أما الأحاديث النبوية ، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
    ( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيهاموضع قدر أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله ، والله لو تعلمون ما أعلملضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلىالصعدات تجأرون )2,
    وغيره من الأحاديث التي تصف لنا عبادة الملائكة لله عز وجل ، وتحقيقهم لها كما أراد الله تعالى منهم، كل بحسب قربته وطاعته - عليهم سلام الله-.
    فاصل
    الجن والعبادة:


    الجن خلق من خلق الله –تعالى- وهم أيضاً عالم آخر غير عالمنا لا نراه، ولهم خصوصياتهم وسلوكياتهم ، وهناك شبه كبير بين عالمهم و عالم الإنس، مع أن هيئتهم وصفة خلقتهم تختلف تماماً عن بني آدم، وهم عالم خفي لا نراه كما قال –تعالى-:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف, فقد منحهم الله القدرة على التشكل بصور وأشكال مختلفة, في صورة حيوانات ، أو حتى في صورة الإنس..

    ولولا حفظ الله –تعالى- للإنسان وحراسته بالملائكة كما قال:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} (11) سورة الرعد، لسعت المشياطين في إكمال تخطفها لنا في كل طريق وفي كل شارع وسهل وجبل، لكن من تمام حكمة الله ورحمته وعدله أن جعل في مخلوقاته موازنة عجيبة ! فإذا كان الجن يروننا ولا نراهم، وذلك أقرب إلى الإيقاع والإضرار بنا؛ فإن الله جعل للعبد حفظا كلاء يحفظه ويكلؤه به من ملائكة وأوراد وأذكار وآيات ونحوها ...

    والجن مأمورون بالعبادة كذلك كما أمر بها الإنس، و مأمورون بتحقيقهاكما حققتها الملائكة -عليهم السلام- قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات , وقد وردت آيات وأحاديث تبين استجابة رجال من الجن لدعوات الأنبياء، منهم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كما قال تعالى :

    {قَالُوايَاقَوْمَنَاإِنَّاسَمِعْنَاكِتَابًاأُنزِلَمِنبَعْدِمُوسَى مُصَدِّقًالِّمَابَيْنَيَدَيْهِيَهْدِيإِلَىالْحَقِّوَإِلَىطَرِيقٍمُّسْتَقِيمٍ}(الأحقاف : 30) :
    أي القرآن وكانوا مؤمنين بموسى قال عطاء كانوا يهودا فأسلموا ولذلك قالوا أنزل من بعد موسى وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى فلذلك قالت : " أنزل من بعد موسى "3
    وقال في الآية قبلها عن محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْصَرَفْنَاإِلَيْكَنَفَرًامِّنَالْجِنِّيَسْتَمِعُونَالْقُرْآنَفَلَمَّا حَضَرُوهُقَالُواأَنصِتُوافَلَمَّاقُضِيَوَلَّوْاإِلَىقَوْمِهِممُّنذِرِينَ} (الأحقاف : 29) وهم

    في استجابتهم هذه فرق وأشتات حالهم كحال الإنس , منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ،كما قالوا هم عن أنفسهم {وَأَنَّامِنَّاالصَّالِحُونَ وَمِنَّادُونَذَلِكَكُنَّاطَرَائِقَقِدَدًا} (لجن : 11)

    قال القرطبي :
    "أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون وقيل: ومنا دون ذلك أي: ومن دون الصالحين في الصلاح وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك كُنَّاطَرَائِقَقِدَدًا أي فرقا شتى قاله السدي . الضحاك : أديانا مختلفة . قتادة : أهواء متباينة ومنه قول الشاعر

    القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

    والمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين منهم كفار ومنهم مؤمنون صلحاء ومنهم مؤمنون غير صلحاء . وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس . وقال السدي في قوله تعالى: كُنَّاطَرَائِقَقِدَدًا ، قال : في الجن مثلكم قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة وسنية وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون منا المؤمنون ومنا الكافرون أي ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح والأول أحسن ؛لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا { إِنَّاسَمِعْنَاكِتَابًاأُنزِلَمِنبَعْدِمُوسَى مُصَدِّقًالِّمَابَيْنَيَدَيْهِ} , وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان وأيضا لافائدة في قولهم نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر .

    والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل أي كنا فرقا مختلفة ويقال القوم طرائق أي على مذاهب شتى والقدد نحو من الطرائق وهو توكيد لها " 4

    وهم مكلفون بشريعتنا لا يخرجون عنها شأنهم شأننا ، وقد ذكر الله –تعالى- ذلك في قوله: { يَاقَوْمَنَاأَجِيبُوادَاعِيَاللَّهِوَآمِنُوابِهِيَغْفِرْلَكُممِّن ذُنُوبِكُمْوَيُجِرْكُممِّنْعَذَابٍأَلِيمٍ( ) وَمَنلاَّيُجِبْدَاعِيَاللَّهِ فَلَيْسَبِمُعْجِزٍفِيالأَرْضِوَلَيْسَلَهُمِندُونِهِأَولِيَاءأُوْلَئِكَ فِيضَلالٍمُّبِينٍ} سورة الأحقاف31- 32.


    قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله : فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال : أجيبوا داعي الله وآمنوا به وقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم ......

    وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ولهذا قالوا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .

    وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي قال حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مؤمنوا الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس ولا تدخل ذرية إبليس الجنة . والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان وفي هذا الاستدلال نظر وأحسن منه قوله جل وعلا ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة .

    وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم5

    وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى ، ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " وما أشبه ذلك

    والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار فمن أجير من النار دخل الجنة لامحالة ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ولو صح لقلنا به والله أعلم " 6

    قال البيضاوي :" والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم "7

    ولذلك لما استمعوا ووعوا ولّوا إلى قومهم منذرين، يبشرونهم بالرسالة والكتاب الجديد، وبالرسول العظيم صلى الله عليه عليه وسلم، دعاة إلى الله عز وجل فائزين بموعود الله تعالى في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فدعوا قومهم إلى عبادة الله، والإيمان به، فرضي الله عنهم وأرضاهم .

    ونفق هنا مكتفين بهذا القدر من الحديث ، وإلى لقاء آخر – إن شاء الله-
    سائلين المولى تعالى أن ينفعنا بما نقول ونسمع ونقرأ
    و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمين ...


    ---------- الحاشية -----------

    1 - صجيج الترغيب والترهيب
    2- صححه الألباني انظر الصحيحة رقم (1722 ).
    3 - تفسير القرطبي 16 /217
    4 - تفسير القرطبي 19 /15
    5 - ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله –تعالى-: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه الترمذي والبزار وابن جرير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وحسنه الألباني صحيح جامع الترمذي 3291.
    6 -تفسير ابن كثير 4 /171 - 172 بتصرف
    7- البيضاوي 5 / 186[/center]

    والنقل
    لطفـــــــــاً .. من هنــــــــــــــا

      الوقت/التاريخ الآن هو 27.04.24 11:06