خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الإخلاص

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية الإخلاص

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 09.01.09 13:37

    الإخلاص
    فاصل
    إن عدمَ الإخلاص لله تعالى في العمل خسارةٌ لا تقاس بغيرها . فتعبٌ بلا فائدة . وعمل بلا أجر .

    ويُلقي المرءُ بنفسِه في نار جهنم . وقد خَلفَه أهله الصالحون وذهبوا إلى الجنة بطيب أعمالهم . وهو وعمله في النار وذلك هو الخسران المبين .


    في صحيح مسلم أن رسول الله  قال ( إن الله لا ينظرُ إلى صورِكم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .


    وفي صحيح مسلم أيضاً أن رسول الله  قال ( إن أولَ الناس يُقضى يومَ القيامة عليه
    رجل استُشهد فأتى به فعرَّفه نعَمه . فعرفها قال فما عملتَ فيها قال قاتلتُ فيك حتى استشهدتُ قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال فلانٌ جريء فقد قيل . ثم أمر فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار

    ورجل تعلم العلم وعَّلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرَّفه نعمه فعرفها قال فما عملتَ قال تعلمتُ العلمَ وعملتُ به وقرأتُ فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمتَ ليقال عالم . وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئٌ فقد قيل ثم أمُر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار
    ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأُتي به فعرَّفه نعمة فعرفها فقال ما عملتَ فيها قال ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفق فيه إلا أنفقتُ فيه لك قال كذبت ولكنك فعلتَ ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ) .

    فيا من يريد الدنيا بالآخرة ويلتمس رضاء الناس بسخط الله عليه أين أنت من قول الشاعر :


    وكلُّ امرئِ يوماً سيُعرف سعيُه إذا حُصِّلت عند الإله الحصائلُ

    فرويداً بنفسك ورفقا بحالك ويا حريصاً على ثناء الناس عليه وأن يمدحوه بما لا يستحق.

    تدبر قول ربك تعالى ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء والله على كل شيء قدير ) .


    وكن على يقين بأنك مسئول عما تخفيه ، ومحاسب على ما تكتمه وتبديه ، وللآخرةُ خير لك من الأولى .

    والذي عنده أقرب مما في يديك والذي تريد من غيره بعيد عنك ومتعذر عليك ولا تخدعنَّ نفسك بإصلاح عملك الظاهر مع فساد قلبك بحب السمعة والرياء ولا تحسبن الله يجهل حقيقة أمرك ومكنون سرك .

    ( ولقد خلقنَا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوس به نفسك ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ).


    فيا عباد الله :

    زينة المرء علمه ، وثمرة العلم العمل ، وكل عمل لا يقبله الله ولا ينتفع به صاحبه ، ولا يؤدي به المأمور إلا مع الإخلاص وإنه تريدَ بهِِ الله وحده ، وسر النجاح وبلوغ الغاية لأي عامل مهما علت منزلته أو تنوع عمله هو الإخلاص . وما كان لله يتم وما كان لغير فعاقبته الخسران والفشل . ( إنما يتقبلُ الله من المتقين ) .


    فيا عبدالله فلينظر كل منا إلى عمله ولا يتعب نفسه بفعل ولا ترك إلا متى شعر بأنه مخلص وإلا فإنه فاشل في محاولته وخائب في عمله وجزاؤه ضياع مجهوده وشماتة أعدائه ، ويوم القيامة يظهر سُره أو يُهتك ستره .


    ويا عباد الله : لوجوب الإخلاص في كل شيء افترضت النية في الغسل والتيمم والصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف والحج وفي نحو ستين بابا من العبادات غير ما ذكر
    فتبين لنا بهذا أهمية حديث ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) .


    وإنه حديث عظيم جليل القدر كبير الفوائد وقد شرحه شرحاً مستقلاً كثير من العلماء لأهميته منهم شيخ الإسلام بن تيمية والسيوطي وعمر الأشقر وغيرهم من شراح الأربعين .


    فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص ويوفقنا لصالح القول والعمل .


    ولا يتم لك الإخلاص يا عبدالله إلا بالحذر من السمعة والرياء فروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبدالله بن سفيان رضي الله عنه قال قال رسول الله  من سمّع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به .


    فأضر على العبد أن يعمل عملاً أو يقول قولاً لا يريد به وجه الله جميلٌ ظاهره ، فبيحٌ باطنه ، يُسِّر غيّر ما يعلن ويُظهرُ خلاف ما يُبطن . يسُبّح ويهلل ويقرأ القرآن ويخطب ويعلم ويدعو إلى الله بنفسه ، وقلبه غافل ذاهل وبغيره مشغول حسبه من الخير ثناء الناس عليه واستمالة قلوب الجاهلين إليه إذا قرأ جوّد وإذا وعظ بكى وإذا خطب أو درس لم يلحن وجاء بالعجب العجاب فلو أخلص لله لكان المصلح الحكيم والمرشد العظيم ولكن المرء يقول بفيه ما ليس بقلبه ويرائي الناس بعمله ، فكل عمل فيه رياء معدود من السيئات وإن كان صالحاً في ظاهره وما يلبث صاحُبه أن يُظهر سره ويفضح أمره فيحيق به مكره . فعلى الإخلاص وعدمه يترتب حسن الخاتمة وسوءها .


    فجاء في الحديث في الصحيحين : ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )


    وكان مع المسلمين في غزوة أحد رجلٌ يقاتل حتى أعجب به الناس فقال النبي  إنه من أهل النار .
    فاستغرب الناس ذلك وقام أحدهم ينظر أعماله وما يصنع يؤمئذ حتى إذا أثخنته الجراح أخذ سيفه فانتحر به وقتل نفسه . وقيل في ذلك .


    فقال إنه كان يقاتل حمية وعصبية وأبى الله إلا أن يموت على نيته .

    واعلموا يا عباد الله أن الرياء فيه تفصيل :


    فإذا كان الحامل للعبد على العمل قصد مراءآة الناس واستمر هذا القصد الفاسد فعمله حابط وهو شرك أصغر و يخشى أن يتذرع به إلى الشرك الأكبر .


    وإن كان الحامل على العمل إرادة وجه الله مع إرادة الناس ومراء آتهم ولم يقلع عن الرياء بعمله فظاهر النصوص أيضاً بطلان هذا العمل وإن كان الحامل للعبد على العمل وجه الله وحده ولكن عرض له الرياء في أثناء عمله فإن دفعه وأخلص لله لم يضره وإن ساكنه واطمأن اليه ونقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإيمان والإخلاص بحسب ما قام به من الرياء .


    والرياء يا عباد الله آفة عظيمة وتحتاج إلى علاجٍ شديد وتمرين النفس على الإخلاص ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والاستعانة بالله على دفعها لعل الله أن يُخلص إيمان العبد ويحقق توحيده .


    ولنعلم يا عباد الله أن الرياء له أسباب وبواعث توقع فيه وتؤدي إليه نذكر بعضاً معها لنعرفها ونجتنبا ونعالجها حتى لا نقع في الرياء فمنها :


    النشأة الأولى : كمن نشأ في بيت ويرى أهله المفاخرة والرياء والسمعة فما يكون منه إلا التقليد والمحاكاة وبمرور الزمن تتأصل هذه الآفة في نفسه .


    وكذلك الصحبة السيئة التي لا هم لها إلاّ الرياء والسمعة وعدم المعرفة الحقيقية بالله هو السبب الباعث على الرياء والسمعة .


    ومن أسباب الرياء الرغبة في الصدارة والمنصب وكذلك الطمع فيما في أيدي الناس وحب المحمدة والثناء من الناس والخوف من قالة الناس ولا سيما الأقران .


    فهذه يا عباد الله هي أهم الأسباب التي توقع في الرياء فا عملوا رحمكم الله جاهدين على معالجتها والابتعاد عنها حتى تصح منكم أعمالكم واحذروا منها لكي لا تقعوا في الرياء و تستحقون آثاره التي منها الحرمان من الهداية والتوفيق والخاتمة السيئة ونزع الهيبة من قلوب الناس والاضطراب والقلق النفسي والإعراض من الناس وعدم التأثر بما تقول أو تفعل والفضيحة في الدنيا وعلى رؤوس الأشهاد يوم القيامة وبطلان العمل والعذاب الشديد في الآخرة كما سمعنا في حديث أول من تسعر بهم النار .


    فبعد أن عرفنا يا عباد الله خطر الرياء وآثاره السيئة ومعرفة أسبابه فتعالوا معي لمعرفة طريق العلاج والتخلص منه .


    فتذكّرْ يا عبد الله عواقب الرياء وانسلخ من صحبة المعروفين بالرياء والسمعة وانخرط في أحضان المخلصين العاملين ، وتعرف على الله حق المعرفة التي تقدر الله حق قدره وجاهد نفسك وهذبها من الغرائز التي تملى عليك الرياء والسمعة وأحذر حب التصدي والطمع فيما في أيدي الناس .


    والتزم بآداب الإسلام في المعاملة فلا غلّو في الاحترام ولا تقصير وإنما هو الأمر الوسط وأكثر من معرفة أخبار المرآئيين وتعرف على عواقبهم وأدم النظر والسماع للنصوص المرغبة في الإخلاص والمحذرة من الرياء وحاسب نفسك أولاً بأول للوقوف على عيوبها ثم التخلص من هذه العيوب والجأ إلى الله تعالى أن يخلصك من الرياء والسمعة ، وأن يهبك الإخلاص واستعن به سبحانه

    وتذكر يا عبد الله أن كل شيء يجري في هذا الكون كله بقضاء الله وقدره ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك

    فعلام الخوف إذن ولماذا الرياء إذن اسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري ومسلم .

    أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم ؛؛؛



    والنقل
    لطفـــــاً .. من هنــــــــا


    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية الاخلاص بركة العلم وسر التوفيق

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 28.09.09 14:05

    الاخلاص بركة العلم وسر التوفيق

    الإخلاص 470674

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين،

    أمّا بعد:


    فإنّ اكتساب مادة كلّ علمٍ ينبغي أن تكون وَفق أسس يبني عليها طالب العلم مسيرته التحصيلية،

    والعلم الشرعيُّ لا يخرج عن هذا المعنى؛ لأنّ الأصل في الإنسان الجهل،

    لقوله تعالى:
    ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78]،

    لكنه مأمور بطلبه في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾ [محمّد: 19]،

    وقوله عزّ وجلّ: ﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 98]،

    وكلّ ما أمر اللهُ عزّ وجلّ به فهو عبادة، فيكون طلب العلم في طليعة العبادات وأجلِّها،

    بل جعله الله قسيمًا للجهاد في سبيل الله(١- قد يفضّل طلب العلم على الجهاد أفضلية مطلقة لا بالنسبة للأشخاص لحاجة الناس كلّهم إليه في كلّ وقت بينما يفضّل الجهاد في القوي

    وكذا الأحوال والأزمنة والأمكنة، لذلك نقل عن الإمام أحمد أنّ: «العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته»،

    وعنه قال: «الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء؛ لأنّ العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كلّ يوم مرة أو مرتين»)،

    وهو منه قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]،

    ذلك لأنّ العلمَ الشرعيَّ سببُ الهداية، وقائدٌ إلى تقوى الله، وسبيلُ النجاة والوقاية من النار، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]،

    ووقاية النفس والأهل من النار إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولا يتمُّ ذلك إلاّ بالعلم الشرعي الصحيح حتى يتمكّن من أدائه والقيام به على الوجه المطلوب شرعًا، لذلك كان من حَظِيَ برزقِ اللهِ له للعلم الشرعي فقد فتح الله عليه به، وأراد اللهُ به خيرًا، ومَنْ مُنِعَ فقد حُرِم الخير(٢-

    قال ابن حجر في الفتح (1/165):
    «ومفهوم الحديث أنّ من لم يتفقّه في الدين -أي بتعلّم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع- فقد حرم الخير»)،

    قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(٣- أخرجه البخاري في «العلم» (1/164) باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومسلم في «الزكاة» (7/128) باب النهي عن المسألة، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه).

    ولما كان العلم الشرعي عبادةً

    فإنه ينبغي طلبه ضمن هيئةٍ راسخةٍ في نفس الطالب ليُؤْثِرَ بها الحقّ والفضيلة، ويرغب في رفع الجهل عنه وإزالته عن غيره، وحبّ المعروف وترسيخه، تلك الهيئةُ المطلوبةُ هي النيةُ الخالصة الصادقة التي تتكيّف بها جميع الأعمال صحّةً وفسادًا تبعًا لها

    إذ «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٤- متفق عليه: أخرجه البخاري في «بدء الوحي»: (1/9) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومسلم في «الإمارة»: (13/35) باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما الأعمال بالنيات، وأبو داود في «الطلاق»: (2/651) باب فيما عني به الطلاق والنيات، والترمذي في «الجهاد» (4/179) باب ما جاء فيمن يقاتل رياءً وللدنيا، والنسائي في «الطهارة»: (1/58) باب النية في الوضوء، وابن ماجه في «الزهد» (2/1413) باب النية، وأحمد: (1/25، 43) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، والنية في الطلب يجب فيها الإخلاص لله سبحانه فهو شرطُ العبادة وركنُ التوحيد، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، وقال تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 2].

    هذا، وسبيل الإخلاص في الطلب إنما يتأتى بنية التقرّب إلى الله تعالى بكلّ ما يستلزم محبّتَه ورضاه، من العلمِ به سبحانه وبصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنـزيهه من العيوب والنقائص، وبمعرفة ما يجب على المكلّف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، ومعرفة حلاله من حرامه، ساعيًا في ذلك بعزمٍ في رفع الجهل عن نفسه، وحفظ شريعة الله تعالى بالتعلّم وضبط حفظه في الصدر وتقييده بالكتابة، والعمل بما حفظه وضبطه امتثالاً لأوامر الشرع والوقوف عند حدوده؛ لأنّ ثمرة العلم العمل، وبقاءُ العلم ببقاء العمل، بل هو من لوازم الإخلاص وسببُ نمائه وزيادتِه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ العَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ»(٥- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»: (2/165، 167)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (7/182)، والشيباني في «الآحاد والمثاني»: (4/293 من حديث جندب بن عبد الله الأزدي رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني)،

    ذلك لأنّ العمل هو شُكْرُ الله على نعمةِ العلم، وقد قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]،

    ومن عمل بما عَلِمَ ورَّثه اللهُ عِلمَ ما لم يعلم، ومن لم يعمل بعلمه لم يكن صادقًا في طلبه وعُوقب بنسيان العلم وضياع معارِفِه وحرمانه من الخير، واستحقّ المقتَ والآفات، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ [المائدة: 13]،

    ويتبيّن من الآية أنّ ترك العمل بالعلم يورِّثُ فشلاً في الطلب ومَحْقًا للبركة ونسيانًا ذِهنيًّا وعمليًّا بترك النهوض به والقيام بلوازمه، قال الثوري: «العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلاَّ ارْتَحَلَ»(٦- الموافقات للشاطبي: (1/75))،

    من أجل ذلك كان الصدقُ خُلقًا مقترنًا بالإخلاص يتحلّى به الطالب قبل العلم ولا يتحقّق الارتقاء في مدارج الكمال والعلم إلاّ لصادق،

    قال الأوزاعي رحمه الله: «تَعَلَّمِ الصِّدْقَ قَبْلَ أَنْ تَتَعَلَّمَ العِلْمَ»،

    وقال وكيع رحمه الله: «هَذِهِ الصَّنْعَةُ لاَ يَرْتَفِعُ فِيهَا إِلاَّ صَادِقٌ»(٧- المجموعة العلمية لبكر: (182)).

    هذا، وكما أنّ من الإخلاص أن ينوي رفعَ الجهلِ عن نفسه أن يستتبِعَه -أيضًا- بنيةِ رفعِ الجهل عن غيره، وذلك بالدعوة إلى الله تعالى بتبليغ العلم للناس وبيانِ ذكر الله وما نزل من الحقّ، ونشرِه ليحصل به النفع والهدى

    مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]،
    وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]،

    ويعمل على حماية جناب التوحيد، وصيانة كمال الدين مما قد يُقحم فيه ما ليس منه، والدفاع عن شريعة الله التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وحِفظها من زيادة المبتدعين، واستدراكات المستدركين.

    فمن صاحبته هذه النية الخالصة الصادقة بالعمل الصالح كان على هُدًى وبصيرة، وخير ونعمة وتقى، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمّد: 17]،

    وفتح الله له أبواب الخير، وأتته الدنيا راغمة، وحصل له ثواب الآخرة، لسلامة قصده وصلاح نيّته،

    قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]،

    وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(٨- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة»: (4/642) باب (30)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجه في «الزهد»: (2/1375) باب الهمّ بالدنيا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2/670)، رقم (949، 950))، وقال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ رحمه الله: «مَنِ ابْتَغَى شَيْئًا مِنَ العِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ آتَاهُ اللهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ»(٩- سنن الدارمي: (1/82)).

    أمّا مَن أُصيبت نيَّتُه في صميم صِدْقِ طَلَبِ العلم بِكَدَرٍ وَزَغَلٍ، وجعل تحصيلَه له مطيةً لأغراض وأعراض: مِن طلب الدنيا والمالِ والرئاسةِ والظهورِ والتفوّقِ والسمعةِ والرياء والمحمدة وغيرها من المقاصد السيّئة

    فإنّ إرادته تشوبها شوائبُ الفساد والبطلان، وتزول من جرائها بركة العلم وترتفع خيريته،

    قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن تَعلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى، لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ»(١٠- أخرجه أبو داود في «العلم» (4/71) باب طلب العلم لغير الله تعالى، وابن ماجه في «المقدمة»: (1/92) باب الانتفاع بالعلم والعمل به، وابن حبان: (1/279 (78))، والحاكم: (1/160 (279)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في صحيح «الترغيب والترهيب»: (1/153) برقم: (105)) يعني: ريحها. وفي حديث آخر: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ»(١١- أخرجه الترمذي في «العلم» (5/32)، باب ما جاء فيمن يطلب بعلمه الدنيا، وابن أبي الدنيا في «كتاب الصمت»: (1/105 (141)) و«كتاب الغيبة والنميمة»: (1/15 (3)) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: (1/153) برقم: (106))،

    وقد ينال بعلمه ما يبتغيه بنيته الفاسدة في إحراز دنياه، ولا يحصل منها إلاّ ما كُتب له، لكنّ جزاءَه الفقرُ والتشتيتُ والغفلةُ والضياع في الدنيا، وكان عاقبة أمره خُسرًا، قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15]،

    فمن جرَّد قصده إلى الدنيا يعطه الله تعالى بعمله ثواب الدنيا إذا شاء سبحانه كما جاء تقييد الآية في قوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ [الإسراء: 18]،

    وليس له أن يطلب بالعلم الشرعي أمرًا غير ما شرع له؛ لأنه عبادة، ومن ابتغى بالعبادة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وجزاء من ناقضها بطلان العمل، وقد يعامل بنقيض مقصوده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَدْ قُدِّرَ لَهُ»(١٢- تقدم تخريجه)

    ، قال الحسن بن أبي الحسن البصري -رحمه الله-: «مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ هَذَا العِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللهِ يُدْرِكْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ حَظُّهُ مِنْهُ»(١٣- «سنن الدارمي»: (1/80))،

    ذلك لأنه استعمل العبادة فيما لم تشرع لأجله، واتخذها مطية لتحصيل غرضه، فكان ظلمًا لله في حقِّه على عباده، وتلاعبًا بالشريعة بوضع الأمور في غير مواضعها، فاستوجب أن يكون أوّلَ الناس يُقضى يوم القيامة: ثلاثة أجهدوا أنفسهم في الطاعات والعبادات ولم تنفعهم طاعتهم وعبادتهم

    وإنما صارت عذابًا، لأنهم لم يبتغوا بها وجه الله تعالى، فمن هؤلاء: «…وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ: قَارِئٌ، فَقَدِ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»(١٤- أخرجه مسلم في الإمارة: (13/50) باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، والنسائي في «الجهاد»: (6/32) باب من قاتل ليقال فلان جريء، والحاكم: (1/107، 2/110)، والبيهقي: (9/168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).

    وصنف آخر تعيَّنت دوافعُ طلبه في غير المقاصد الدنيوية، وإنما قَصَرَ نِيَّةَ الطلب على تحصيل العلم في ذاته، والظفرِ بالحكمة مجرّدةً عن العمل،

    وهذا -أيضًا- يشوب صفاء الإخلاص بِكَدَرٍ؛

    لأنه لم يخلص لله تعالى من جهة، وجعل طلبَ العلم وسيلةً لعبادة لم تُقِرَّها الشريعة،

    إذ لا يخفى أنّ العلم المطلوبَ الذي نحتاج إليه وأخبرنا الله تعالى به، وعلّمنا إياه، هو: ما كان وسيلةً إلى العمل به، والعملُ بما يقتضيه العلم من الإيمان به والإقبال على الطاعات والقيام بها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغيرها من الأعمال،

    فإنّ ذلك العلم مطلوبٌ لا في ذاته ولكن لثمرته وهي العملُ به، فمن عَلِمَ ولم يَعْمَلْ فقد شابَه اليهود المغضوبَ عليهم، ومن عَمِلَ بلا علم فقد شابَه النصارى الضالين،

    ومن جمع بين العلم النافع والعمل الصالح واتصف بهما
    ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]،

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
    «ونظير هذا ما يُذكر أنّ بعض الناس بَلَغَه أنه: «مَنْ أَخْلَصَ للهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ»(١٥- أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب»: (1/285) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، وأبو نعيم في «الحلية»: (5/189) من حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا. والحديث ضعّفه الألباني في «الجامع الصغير وزيادته»: (5/155 (5375)) وفي «ضعيف الترغيب والترهيب»: (1/20) برقم: (6)، وفي «السلسلة الضعيفة» (1/55) برقم: (38))

    فأخلص في ظنِّه أربعين صباحًا لينال الحكمة فلم ينلها، فشكى ذلك بعضَ حكماء الدِّين فقال: إنك لم تخلصْ لله سبحانه وإنما أخلصتَ للحكمة، يعني أنّ الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادةُ وجهه،

    فإذا حصل ذلك حَصَلت الحكمة تبعًا، فإذا كانت الحكمةُ هي المقصودةُ ابتداءً لم يقع الإخلاص لله سبحانه وإنما وقع ما يظنّ أنه إخلاصٌ لله تعالى،

    وكذلك قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهَ»(١٦- أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب»: (16/141) باب استحباب العفو والتواضع، والترمذي في «البر والصلة» (4/376)، باب ما جاء في التواضع، وابن خزيمة في «صحيحه»: (4/97)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (4/187) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعًا فإنه يكون مقصوده الرفعة وذلك ينافي التواضع»(١٧- الفتاوى الكبرى لابن تيمية: (6/272)).

    هذا،
    ومن أقوال بعض السلف في باب العمل بالعلم وحسن النية فيه

    قول معاذ بن جبل رضي الله عنه: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللهُ بِالعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا»(١٨- أخرجه الدارمي في «سننه»: (1/81)، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه)،

    وقول أبي الدرداء رضي الله عنه: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لاَ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ»(١٩- المصدر السابق الجزء نفسه (ص: 82))،

    وقال أيضًا: «مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ يُقَالَ لِي: مَا عَلِمْتَ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي مَاذَا عَمِلْتَ؟»(٢٠- المصدر السابق الجزء والصفحة نفسها، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» بهذا المعنى في باب العلم: (10/238) عن أبي الدرداء رضي الله عنه).

    ومع ذلك فإنّ مبتغي العلمِ المحبَّ له الطامعَ في تحصيله قد يَرُدُّهُ العلم إلى النية الصالحة فيفتح الله تعالى عليه باب العمل والخير والنفع، فقد جاء عن مجاهدِ بنِ جَبْرٍ -رحمه الله- قوله: «طَلَبْنَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ بَعْدُ فِيهِ نَيَّةً»(٢١- أخرجه الدارمي في «سننه»: (1/101) باب من طلب العلم بغير نية فرده العلم إلى النية)،

    وقال مَعْمَر بن راشد -رحمه الله-: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِ العِلْمُ حَتَّى يَكُونَ للهِ»(٢٢- أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه»: (10/239) باب العلم برقم: (20642)).

    وقد ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تمثيل الانتفاع بالهدى والعلم الذي جاء عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ممَّن لا ينتفع به بما يقرب شَبَهًا بأصحاب النِّيات على اختلاف البواعث والدوافع في تحصيل العلم الشرعي،

    فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ(٢٣- جمع قاع، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. (النهاية لابن الأثير: 4/133 لسان اللسان لابن منظور: 2/429)) لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»(٢٤- أخرجه البخاري في «العلم»: (1/175)، باب فضل من عَلِمَ وَعَلَّمَ، ومسلم في «الفضائل»: (15/45-46) باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهدى والعلم، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).

    قال ابن حجر: «قال القرطبي وغيرُه: ضَرَب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العامّ الذي يأتي الناسَ في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أنّ الغيث يحيي البلدَ الميت فكذا علومُ الدين تُحيي القلب الميت، ثمّ شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينـزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلِّمُ فهو بمنـزلة الأرض الطيِّبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرَها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقّه فيما جمع لكنه أدّاه لغيره، فهو بِمَنْزلة الأرض التي يستقرّ فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَءًَا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»(٢٥- أخرجه أبو داود في «العلم»: (4/64) باب فضل نشر العلم، والترمذي في «العلم»: (5/33) باب ما جاء في الحثّ عن تبليغ السَّماع، وابن ماجه في «المقدّمة»: (1/84) باب من بلغ علمًا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» برقم: (3660) وفي «صحيح الترغيب» برقم: (90))، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو ِبمَنْزلة الأرض السَّبْخَة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها، وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها»(٢٦- انظر «فتح الباري» لابن حجر: (1/177)).

    هذا، ومن علامات محقِّق الإخلاص والصدق:

    • حُبّه للدين والتواصي بالحقّ والصبر عليه، وإذا ما خيّر بين أمرين عُرضا عليه: أحدهما لله، والآخر للدنيا، اختار نصيبه من الله وآثره على الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة، وهو يعلم أنّ الباقية خير من الفانية، ﴿وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى﴾ [الضحى: 4]، ﴿وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]، ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [النساء: 77]، ومن علاماته:

    • أن ترضيه كلمة الحقّ له أو عليه، وتغضبه كلمة الباطل له أو عليه، فهو لا يعمل لنفسه، وإنما يسعى لإرضاء ربه سبحانه، ولو أدّى ذلك إلى سخط الناس عليه وسقوط قدره في قلوبهم، وصغره في أعينهم من أجل إصلاح قلبه مع الله تعالى، «والجزاء من جنس العمل»، و«المعاملة بنقيض القصد»، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَسْخَطَ اللهَ بِرِضَى النَّاسِ، وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»(٢٧- أخرجه ابن حبان في «الإمارة» برقم: (1541) باب فيمن يرضي الله بسخط الناس، والبغوي في «شرح السنة» في «الرقاق»: (14/412) باب: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ من حديث عائشة رضي الله عنها والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (5/392) برقم: (2311))، قال ابن القيم -رحمه الله-: «لما كان المتزين بما ليس فيه ضدّ المخلص، فإنه يظهر للناس أمرًا، وهو في الباطن بخلافه، عامله بنقيض قصده، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعًا وَقَدَرًا، ولما كان المخلص يُعجّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبّة في قلوب العباد، عُجِّل للمتزيِّن بما ليس فيه من عقوبته أن شانه اللهُ بين الناس، لأنّه شان باطنَه عند الله، وهذا مُوجِب أسماء الربِّ الحُسنى وصفاتِه العُلْيَا وحِكمته في قضائِه»(٢٨- «أعلام الموقّعين» لابن القيم: (2/180)).


    -----------------------------------------
    ------------------------
    ----------
    ----
    -

    ۱- قد يفضّل طلب العلم على الجهاد أفضلية مطلقة لا بالنسبة للأشخاص لحاجة الناس كلّهم إليه في كلّ وقت بينما يفضّل الجهاد في القوي وكذا الأحوال والأزمنة والأمكنة، لذلك نقل عن الإمام أحمد أنّ: «العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته»، وعنه قال: «الناس يحتاجون إلى العلم مثل الخبز والماء؛ لأنّ العلم يحتاج إليه في كل ساعة، والخبز والماء في كلّ يوم مرة أو مرتين».

    ۲- قال ابن حجر في الفتح (1/165): «ومفهوم الحديث أنّ من لم يتفقّه في الدين -أي بتعلّم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع- فقد حرم الخير».

    ٣- أخرجه البخاري في «العلم» (1/164) باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومسلم في «الزكاة» (7/128) باب النهي عن المسألة، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

    ٤- متفق عليه: أخرجه البخاري في «بدء الوحي»: (1/9) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومسلم في «الإمارة»: (13/35) باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما الأعمال بالنيات، وأبو داود في «الطلاق»: (2/651) باب فيما عني به الطلاق والنيات، والترمذي في «الجهاد» (4/179) باب ما جاء فيمن يقاتل رياءً وللدنيا، والنسائي في «الطهارة»: (1/58) باب النية في الوضوء، وابن ماجه في «الزهد» (2/1413) باب النية، وأحمد: (1/25، 43) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    ٥- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»: (2/165، 167)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (7/182)، والشيباني في «الآحاد والمثاني»: (4/293 من حديث جندب بن عبد الله الأزدي رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني.

    ٦- الموافقات للشاطبي: (1/75).

    ٧- المجموعة العلمية لبكر: (182).

    ٨- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة»: (4/642) باب (30)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجه في «الزهد»: (2/1375) باب الهمّ بالدنيا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2/670)، رقم (949، 950).

    ٩- سنن الدارمي: (1/82).

    ١٠- أخرجه أبو داود في «العلم» (4/71) باب طلب العلم لغير الله تعالى، وابن ماجه في «المقدمة»: (1/92) باب الانتفاع بالعلم والعمل به، وابن حبان: (1/279 (78))، والحاكم: (1/160 (279)) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في صحيح «الترغيب والترهيب»: (1/153) برقم: (105).

    ١١- أخرجه الترمذي في «العلم» (5/32)، باب ما جاء فيمن يطلب بعلمه الدنيا، وابن أبي الدنيا في «كتاب الصمت»: (1/105 (141)) و«كتاب الغيبة والنميمة»: (1/15 (3)) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: (1/153) برقم: (106).

    ١٢- تقدم تخريجه.

    ١٣- «سنن الدارمي»: (1/80).

    ١٤- أخرجه مسلم في الإمارة: (13/50) باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، والنسائي في «الجهاد»: (6/32) باب من قاتل ليقال فلان جريء، والحاكم: (1/107، 2/110)، والبيهقي: (9/168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    ١٥- أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب»: (1/285) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، وأبو نعيم في «الحلية»: (5/189) من حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا. والحديث ضعّفه الألباني في «الجامع الصغير وزيادته»: (5/155 (5375)) وفي «ضعيف الترغيب والترهيب»: (1/20) برقم: (6)، وفي «السلسلة الضعيفة» (1/55) برقم: (38).

    ١٦- أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب»: (16/141) باب استحباب العفو والتواضع، والترمذي في «البر والصلة» (4/376)، باب ما جاء في التواضع، وابن خزيمة في «صحيحه»: (4/97)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (4/187) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    ١٧- الفتاوى الكبرى لابن تيمية: (6/272).

    ١٨- أخرجه الدارمي في «سننه»: (1/81)، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه.

    ١٩- المصدر السابق الجزء نفسه (ص: 82).

    ٢٠- المصدر السابق الجزء والصفحة نفسها، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» بهذا المعنى في باب العلم: (10/238) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

    ۲۱- أخرجه الدارمي في «سننه»: (1/101) باب من طلب العلم بغير نية فرده العلم إلى النية.

    ٢٢- أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه»: (10/239) باب العلم برقم: (20642).

    ٢٣- جمع قاع، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. (النهاية لابن الأثير: 4/133 لسان اللسان لابن منظور: 2/429).

    ٢٤- أخرجه البخاري في «العلم»: (1/175)، باب فضل من عَلِمَ وَعَلَّمَ، ومسلم في «الفضائل»: (15/45-46) باب بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهدى والعلم، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

    ٢٥- أخرجه أبو داود في «العلم»: (4/64) باب فضل نشر العلم، والترمذي في «العلم»: (5/33) باب ما جاء في الحثّ عن تبليغ السَّماع، وابن ماجه في «المقدّمة»: (1/84) باب من بلغ علمًا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» برقم: (3660) وفي «صحيح الترغيب» برقم: (90).

    ٢٦- انظر «فتح الباري» لابن حجر: (1/177).

    ٢٧- أخرجه ابن حبان في «الإمارة» برقم: (1541) باب فيمن يرضي الله بسخط الناس، والبغوي في «شرح السنة» في «الرقاق»: (14/412) باب: قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ من حديث عائشة رضي الله عنها والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (5/392) برقم: (2311).

    ٢٨- «أعلام الموقّعين» لابن القيم: (2/180).

    الشيخ أبي عبد المعز محمد فركوس حفظه الله ورعاه .

    والنقل
    لطفـاً .. من هنـــــا
    http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=96534

      الوقت/التاريخ الآن هو 19.05.24 22:49