منهج السلف في الإفتاء
للعلامة الدكتور : عبد الكريم الحضير
- حفظه الله تعالى .
[size=28]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالموضوع المختار لهذا الدرس كما سمعتم: (هدي السلف)
هدي السلف المراد بهم من تقدم في صدر هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان من غير تغيير ولا تبديل، هدي السلف في الفتوى
وهذا موضوع عظيم، وموضوع في الوقت نفسه خطير؛ لأن الإنسان يخشى وهو يذكر شيئاً مما عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، في قول نظري طبقه سلف هذه الأمة، إقداماً في مجال الإقدام وإحجام حينما يقتضي الأمر الإحجام.
نعرض لأقوال سلف الأمة ولطريقة السلف في الفتوى، وتهيبهم للفتوى، وتتدافعهم، وتدارئهم الفتوى، حتى قد كانت الفتوى تمر على العدد الكبير من سلف هذه الأمة ثم تعود إلى الأول، يتدافعونها، ويتدارؤنها .
ثم بالمقابل من يتكلم عن هديهم تعرض عليه الأسئلة فلا يسلك مسلكهم، فالذي يخشى منه أن يكون العمل مكذباً للقول،
ولا شك أن مثل هذا مزلق خطير .
والمسألة عن الفتوى فيها النصوص الكثيرة التي منها ما يدعو إلى الإقدام ويشدد فيه، ويجعل من لا يقدم عليه ممن يكتم العلم وله الوعيد الشديد في نصوص الكتاب والسنة،
وبالمقابل من يجرؤ عليه، له بالمقابل وعيد شديد
فمن المأمور، ومن المنهي؟
من المأمور بالفتوى، ومن المنهي والمحذر منها؟
نحتاج إلى مثل هذا الموضوع في هذا الوقت، وفي هذا الظرف الذي نعيشه، وكثير ممن يتصدى للفتوى ليسوا ممن عرف بعلم ولا عمل، أصلاً، فضلاً عن كونهم لم يتأهلوا الأهلية التامة في هذا الشأن
وموقف السلف كما هو معلوم من نصوص الأمر بالفتوى، وعدم الإحجام عنها، وعدم كتم العلم لمن طلبه، تصدى له أناس عرفوا بالفتوى، من الصحابة ما يزيد على المائة تصدوا للفتوى، ومنهم من جمعت فتاواه في مجلدات،
وعلى كل حال منهم المقل، ومنهم المكثر، وهم موجودون مطبقون لهذه النصوص
ومنهم من أحجم، منهم من أحجم ورأى أن التبعة عظيمة، والموقف خطير، ومزلة قدم؛ لأن هذا الموضوع يحتاج، علماً بأنه قد يخفى الأمر على الشخص نفسه أمر الشخص يخفى عليه نفسه، هل هو ممن أمر بالفتوى، أو هو ممن حذر منها ؟
الشخص نفسه قد لا يستطيع تحرير واقعه، هل هو ممن أمر بها أو حذر منها، والسائل العامي الذي فرضه سؤال أهل العلم، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل:43]، قد لا يستطيع التحرير فيمن يسأل هل بلغ مقام من يسأل أو لم يبلغ؟
قد لا يستطيع أن يميز بين من يسأل ومن لا يسأل
فالمسألة تحتاج إلى مزيد عناية وتحرير دقيق، لا سيما وأن المجال الآن والفضاء مفتوح لكل أحد
حتى سمعنا من يستفتي رعاع الناس عن مسائل علمية فيها نصوص شرعية، ويجعل الراجح من يدعمه من الأصوات أكثر، في مجتمع لا يمت إلى الالتزام فضلاً عن التدين، فضلاً عن العلم، هذه مسائل خطيرة،
وهناك شيء أو نصوص فيها إرهاص من مثل هذه التصرفات التي نعيشها، ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))
يعني بعض الناس ممن يتصدى للفتوى قد يكون ممن أعطي بياناً، يمرر به كلامه على السذج، بحيث يتناقلونه ويتداولونه، والبيان من هذا النوع جاء فيه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن من البيان لسحراً))،
وهذا على سبيل الذم، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إنه على سبيل المدح لكن السحر مذموم، ((إن من البيان لسحراً))
فمثل هؤلاء الذين يمررون هذه الأقوال ويتدخلون في أمور الدين، وفي قضايا الأمة العامة من غير اعتماد على نص من كتاب ولا سنة،
وإذا تصدر للفتوى من لا علم له بالكتاب والسنة لا شك أنه سوف يضل بنفسه، ويضل غيره، وإذا كان من يحتاج إلى الكتاب والسنة من غير المختصين في العلم الشرعي من الأدباء أو من المؤرخين،
تجد لهم، لبعضهم عناية فائقة بالنصوص، نصوص الوحيين، فإذا كان هذا في مؤرخ أو أديب، تجده، يرى أن معرفة النصوص حتم لازم لإتقان الفن الذي يريده، فابن الأثير مثلاً صاحب المثل السائر، يقول: إنه استعان على نشر أو على تحقيق ما يطمح إليه من الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدباً، إنما هو بعد حفظه للقرآن، وبعد حفظه لثلاثة آلاف حديث، وصار يردد هذه الأحاديث على مدى عشر سنوات، يختمها في كل أسبوع
، الأديب يحتاج إلى النصوص، حاجة ماسة، المؤرخ يحتاج إلى النصوص، وإلا فسوف يقع الخلط في كلامه، يعني فرق بين أن تقرأ في التاريخ لمفسر محدث كابن كثير، وبين أن تقرأ لمحلل لا يعتمد على النصوص كثيراً،
فإذا كان هذا في جانب التاريخ والأدب، الحاجة داعية إلى العناية بنصوص الكتاب والسنة، فكيف بمن يتصدى لإقراء الناس، وتعليم الناس، وإفتاء الناس، وليست له عناية بالكتاب والسنة؟ ونرجو ألا يكون مثل هذا الكلام حجة علينا.
إذا عرفنا هذا فقد جاء الوعيد الشديد في حق من كتم العلم
وفي حق من جرؤ على العلم، وقال فيه بغير مستند، ولا دليل، ولا برهان من الكتاب والسنة.
يقول الله -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف:33].
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- تعالى:
"رتب المحرمات أربع مراتب"
، يعني جعل المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، قد يقول قائل: إن هذه الجمل الأربع عطفت بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، فلماذا يقول ابن القيم وغير ابن القيم أن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك؟
لأننا إذا قلنا أنها رتبت على سبيل الترقي وأن هذه المراتب كل مرتبة منها أعظم من التي قبلها كما يقرر جمع من أهل العلم، ومنهم الإمام ابن القيم يقول: "رتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم".
يعني طالب العلم إذا سمع مثل هذا الكلام المفترض أن يحسب له ألف حساب، وأنه إذا سئل عن مسألة يحسب لها وللخلاص منها بين يدي الله -جل وعلا- ألف حساب، يعني وما يضيرك أن تقول: لا أدري
وإذا كان الأئمة على ما سيأتي كثر في أجوبتهم قول: لا أدري، وإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يُسأل فيسكت، لماذا يسكت؟ ينتظر الوحي، ينتظر الوحي
ومن أهل العلم من يقول: أنه يسكت ليربي المفتين؛ لئلا يتسرعوا في الجواب؛ لأن بعض الناس إذا سئل لا يترك السائل يكمل الجواب، بل يبادر بالجواب قبل إكمال السؤال، وما الذي ترتب على ذلك؟ ترتب عليه مثل قول من أجاب السائل، السائل يقول: إن ابني يضربني، ابني يضربني، فأرجو توجيه كلمة لهذا الابن، وما حكم هذا الفعل؟
ومن هذه القبيل، قال السائل: ضرب الوالد لولده شرعي، الضرب شرعي، والأدب شرعي، هل فهم المجيب السؤال، عكس، عكس المراد، لكنه لو تأمل بان له المراد، ومثل هذا قد يحتاج السؤال إلى شيء من الاستفصال من السائل؛ لأن السؤال يحتمل وجوه، وحينئذ على المفتي أن يستفصل من هذه الوجوه.
"ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".
يقول الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل:116- 117].
يقول الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل:116- 117].
متاع قليل، يعني الدنيا وإن طالت وإن كثرت متعها فإنها قليلة، فإذا تصورنا أن ركعتي الصبح خير من الدنيا وما فيها فالعجب كل العجب ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا، تجده يسابق ويسارع، في القرابين من الدين، من أجل أن يكسب شيئاً من عرض الدنيا الزائل.
يقول: "فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه، إلا بما يعلم أن الله سبحانه أحله وحرمه".
إذا قرنا هذا وعرفنا أن القول على الله بلا علم كذب، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، إيش معنى كذب؟ كذب يعني أنه غير مطابق لما عند الله -جل وعلا- من حكم، وغير مبني على وسائل شرعية يستنتج منها الحكم
وهذا حال الجاهل الذي يفتي بغير علم، الذي أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يضل ويضل، هذا كافر، فإذا قرنا هذه الآية بقوله -جل وعلا- في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [سورة الزمر:60]، هذه مثل هذه الآيات ترتعد منها الفرائص، ما دام كذب، يعني المقدمة ما دام القول على الله بلا علم كذب، والفتوى بلا علم كذب على الله، وافتراء، والذي يكذب على الله يأتي يوم القيامة مسود الوجه، نسأل الله السلامة والعافية، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر:60]، ما الذي يمنعه من قول لا أدري، هذا الجاهل إذا سئل وافترى على الله الكذب وقال: حلال أو حرام، مع مخالفة الحكم الصحيح مثل هذا ما الذي يمنعه من قول: لا أدري؟ لا شك أنه الكبر نسأل الله العافية.
وفي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: "من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ بيتاً في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على، أو من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه".
يقول ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطره أعظم من جهة، يعني خطر المفتي أعظم من جهة، وخطر القاضي أعظم من جهة".
كيف يكون خطر القاضي أعظم من خطر المفتي؟ لأنه؛ لأن القضاء بيان الحكم مع الإلزام، فيلزم الخصمين، والمفتي لا يلزم، لكن القاضي يقضي في مسألة واحدة معينة، والمفتي إذا أفتى بحكم شرعي اطرد، اطرد
فلو قال شخص: ما حكم كذا، لهذا الذي يفتي، قال: الجواز، أو التحريم، ثم وقعت نظائر لهذه المسألة قيل: إن الشيخ فلان أفتى بكذا، ولا يحتاج أن يسأل مرة ثانية، يقول: "وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ولكن خطره أعظم من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتى وغيره". تتعلق بالمستفتى وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه، وله فالمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً أن من يقول: كذا، ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين فقضاؤه خاص لكنه ملزم، وفتوى العالم عامة لكنها غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير".
جاء في الحديث وفيه كلام لأهل العلم رجحوا إرساله: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار))، ثم رجح إرساله، يعني لا يثبت صحيحاً، وإن كان بعضهم يحسنه، لكنه قد لا يصل إلى درجة التحسين.
يقول المناوي في شرح الجامع الصغير في شرح هذه الحديث: ((أجرؤكم)) يعني أقدمكم، يعني أسرعكم إقداماً على إجابة السائل عن حكم شرعي من غير تثبت وتدبر، والإفتاء بيان حكم المسألة ((أجرؤكم على النار)) أقدمكم على دخولها؛ لأن المفتي مبين على الله حكمه، فإذا أفتى على جهل أو بغير علم أو بغير ما علمه أو تهاون في تحريره، أو استنباطه فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار، {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس:59]، هذه فرية على الله -جل وعلا-.
[/size]
عدل سابقا من قبل الشيخ إبراهيم حسونة في 06.09.08 12:49 عدل 2 مرات