خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:11

    من بدائع الفوائد لابن القيم
    فاصل
    من أجمل ما قرأت الكتاب القيم لابن القيم رحمه الله والذي اسمه كمسماه (( بدائع الفوائد ))

    ومنه ألتقط هذه الدرر والفوائد ..

    يقول - رحمه الله : " مسألة : (سلام عليكم ورحمة الله) (سلام عليكم ورحمة الله)...

    في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالاً:


    السؤال الأول:
    ما معنى السلام وحقيقته ؟


    السؤال الثاني:
    هل هو مصدر أو اسم ؟

    السؤال الثالث:
    هل قول المسلم سلام عليكم خبر أو إنشاء وطلب ؟


    السؤال الرابع:
    ما معنى السلام المطلوب عند التحية؟ وإذا كان دعاء وطلباً فما الحكمة في طلبه عند التلاقي؟ والمكاتبة دون غيره من المعاني ؟

    السؤال الخامس:
    إذا كان من السلامة فمعلوم أن الفعل منها لا يتعدى ب(على)، فلا يقال سلامة عليك، وسلمت عليك بكسر اللام، وإنما يقال: سلام لك، كما قال تعالى: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [ الواقعة: 91 ].


    السؤال السادس:
    ما الحكمة في الابتداء بالنكرة في السلام مع كون الخبر جاراً ومجروراً وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو في الدار رجل ؟


    السؤال السابع:
    لم اختص المسلم بهذا النظم والراد بتقديم الجار والمجرور على السلام؟ وهلا كان رده بتقديم السلام مطلقاً كابتدائه ؟


    السؤال الثامن:
    ما الحكمة في كون سلام المبتدئ بلفظ النكرة، وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة؟ وكذلك ما الحكمة في ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة وفي آخرها بالمعرفة؟ فيقال: أولاً سلام عليكم، وفي انتهاء المكاتبة والسلام عليكم؟ وهل هذا التعريف لأجل العهد وتقدم السلام أم لحكمة سوى ذلك؟


    السؤال التاسع:
    ما الفائدة في دخول الواو العاطفة في السلام الآخر؟ فيقول أولاً سلام عليكم، وفي الانتهاء والسلام عليكم، وعلى أي شيء هذا العطف ؟!

    السؤال العاشر:
    ما السر في نصب السلام في تسليم الملائكة ورفعه في تسليم إبراهيم؟ وهل هو كما تقول: النحاة أن سلام إبراهيم أكمل لتضمنه جملة إسمية دالة على الثبوت وتضمن سلام الملائكة صيغة جملة فعلية دالة على الحدوث أم لسر غير ذلك ؟


    السؤال الحادي عشر:
    ما السر في نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [ الفرقان: 63 ]، ورفعه من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُم} [ القصص: 55 ]؟ أو ما الفرق بين الموضعين ؟

    السؤال الثاني عشر:
    ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله؟ والسلام إنما هو طلب السلامة للمسلم عليه فكيف يتصور هذا المعنى في حق الله ؟ وهذا من أهم الأسئلة وأحسنها.


    السؤال الثالث عشر:
    إذا ظهرت حكمة سلامه تعالى عليهم فما الحكمة في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة، وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة ؟ فيقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكذلك سلامهم على أنفسهم وعلى عباد الله الصالحين.


    السؤال الرابع عشر:
    ما السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله: {وَسَلامٌ عَلَيْه} [مريم: من الآية15]، وتسليم المسيح نفسه بلفظ المعرفة بقوله: {وَالسَّلامُ عَلَيّ} [ مريم: 33 ]، وأي السلامين أتم وأعم؟


    السؤال الخامس عشر:
    ما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة ؟ {يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [ مريم: 33 ]، خاصة مع أن السلام مطلوب في جميع الأوقات فلو أتى به مطلقاً. أما كان أعم؟. فإن هذا التقييد خص السلام بهذه الأيام خاصة ؟


    السؤال السادس عشر:
    ما الحكمة في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم على من اتبع الهدى في كتاب هرقل بلفظ النكرة، وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة ليطابق القرآن وما الفرق بينهما ؟


    السؤال السابع عشر:
    قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [ النمل: 59 ]، هل هذا سلام من الله فيكون الكلام قد تضمن جملتين طلبية وهي الأمر بقوله: قل الحمد لله، وخبرية وهي سلامه تعالى على عباده وعلى هذا، فيكون من باب عطف الخبر على الطلب أو هو أمر من الله بالسلام عليهم. وعلى هذا فيكون قد أمر بشيئين أحدهما قول الحمد لله، والثاني قول سلام على عباده الذين اصطفى ويكون كلاهما معمولاً لفعل القول وأي المعنيين أليق بالآية؟.


    السؤال الثامن عشر:
    روى أبو داود في سننه من حديث أبي جري الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله فقال: <لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى>، قال الترمذي: حديث صحيح وقد صح عنه في السلام على الأموات فعلاً وأمراً <السلام عليكم دار قوم مؤمنين> فما وجه هذا الحديث وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث الصحيحة ؟


    السؤال التاسع عشر:
    ما وجه دخول الواو في قول النبي صلى الله عليه وسلم: <إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم> وقد استشكل كثير من الناس أمر هذه الواو، حتى أنكر بعضهم من الحذاق أن تكون ثابتة، قال: لأن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الأول وتصديقه كما إذا قلت: زيد كاتب، فقال: المخاطب وفقيه، فإنه يقتضي إثبات الأول وزيادة وصف فقيه. فكيف دخلت في هذا الموضع ؟ وما وجهها ؟


    السؤال العشرون:
    ما السر في اقتران الرحمة والبركة بالسلام دون غيرها من الصفات كالمغفرة والبر والإحسان ونحو هذا ؟


    السؤال الحادي والعشرون:
    لم كانت نهاية السلام عند قوله وبركاته ولم تشرع الزيادة عليها؟.


    السؤال الثاني والعشرون:
    ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن هذه الإضافة؟ ولم لا أضيفت كلها أو جردت كلها؟.

    السؤال الثالث والعشرون:
    ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة؟.

    السؤال الرابع والعشرون:
    ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالمصدر دون الصلاة في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [ الأحزاب: 56 ]، ولم يقل صلوا صلاة؟.


    السؤال الخامس والعشرون:
    ما الحكمة في تقديم السلام عليه في الصلاة على الصلاة عليه؟ وهلا وقعت البداءة بالصلة عليه أولاً، ثم أتبعت بالسلام لتصح البداءة بما بدأ الله به من تقديم الصلاة على السلام ؟


    السؤال السادس والعشرون:
    ما الحكمة في كون السلام عليه في الصلاة بصيغة خطاب المواجهة ؟ وأما الصلاة عليه فجاءت بصيغة الغيبة لذكره باسم العلم.

    السؤال السابع والعشرون:
    وهو ما جر إليه طرد الكلام: ما الحكمة في كون الثناء على الله ورد بصيغة الغيبة في قولنا التحيات الله مع أنه سبحانه هو المناجي المخاطب الذي يسمع كلامنا ويرى مكاننا، وجاء السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الخطاب. مع أن الحال كان يقتضي العكس فما الحكمة في ذلك ؟

    السؤال الثامن والعشرون:
    وهو خاتمة الأسئلة: ما السر في كون السلام خاتمة الصلاة؟ وهلا كان في ابتدائها؟ وإذا كان كذلك فما السر في مجيئه معرفاً؟ وهلا جاء منكراً ؟


    *معنى السلام وحقيقته:


    أما السؤال الأول: وهو ما حقيقة هذه اللفظة ؟ فحقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها، فمن ذلك، قولك: (سلمك الله وسلم فلان من الشر، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم اللهم سلم).
    ومنه سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده، فخلص من ضرر الشركة فيه قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} [ الزمر: 29 ]. أي خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره.


    ومنه السلم ضد الحرب قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [ الأنفال: 61 ]، لأن كلاً من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا يبني منه على المفاعلة فيقال: المسالمة مثل المشاركة.


    ومنه القلب السليم وهو النقي من الغل والدغل. وحقيقته الذي قد سلم الله تعالى وحده. فخلص من دغل الشرك وغله ودغل الذنوب والمخالفات. بل هو المستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته، فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام فإنه من هذه المادة، لأنه الاستسلام والانقياد لله تعالى، والتخلص من شوائب الشرك فسلم لربه، وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به.
    ومنه السلم للسلف وحقيقته العوض المسلم فيه، لأن من هو في ذمته قد ضمن سلامته لربه، ثم سمى العقد سلماً وحقيقته ما ذكرناه.
    فإن قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ سليماً.


    قيل: ليس هذا بنقض له بل طرد لما قلناه فإنهم سموه سليماً باعتبار ما يهمه ويطلبه، ويرجو أن يؤول إليه حاله من السلامة. فليس عنده أهم من السلامة ولا هو أشد طلباً منه لغيرها. فسمي سليماً لذلك وهذا من جنس تسميتهم المهلكة مفازة، لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها أي نجاته فسميت مفازة لأنه يطلب الفوز منها.
    وهذا أحسن من قولهم: إنما سميت مفازة وسمي اللديغ سليماً تفاؤلاً، وإن كان التفاؤل جزء هذا المعنى الذي ذكرناه وداخل فيه فهو أعم وأحسن.


    فإن قيل: فكيف يمكنكم رد السلم إلى هذا الأصل؟
    قيل: ذلك ظاهر، لأن الصاعد إلى مكان مرتفع لما كان متعرضاً للهوي والسقوط طالباً للسلامة راجياً لها سميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه سلماً لتضمنها سلامته. إذ لو صعد بتكلف من غير سلم لكان عطبه متوقعاً. فصح أن السلم من هذا المعنى.


    ومنه تسمية الجنة بدار السلام، وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه. الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام. الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلامة أي دار السلامة من كل آفة ونقص وشر والثلاثة متلازمة. وإن كان الثالث أظهرها فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام. وكان يقال دار الرحمن، أو دار الله، أو دار الملك... ونحو ذلك فإذا عهدت إضافتها إليه.


    ثم جاء دار السلام حملت على المعهود، وأيضاً فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها، أو إلى أهلها:


    أما الأول فنحو: (دار القرار دار الخلد جنة المأوى جنات النعيم جنات الفردوس). وأما الثاني فنحو: دار المتقين ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله في القرآن فالأولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن، وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين:


    أحدهما: أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصاً بها كالخلد والقرار والبقاء. الثاني: أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية، ودار الخلد والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر. فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر.


    *إطلاق السلام على الله تعالى:

    وإذا عرفت هذان فإطلاق السلام على الله تعالى اسما من أسمائه هو أولى من هذا كله، وأحق بهذا الاسم من كل مسمى به لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص، من كل وجد فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وهم، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص. وسلام في افعاله من كل عيب ونقص، وشر وظلم، وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار.


    فعلم أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه به نفسه ونزهه به رسوله.


    فهو السلام من الصاحبة والولد والسلام من النظير والكفء، والسمي والمماثل، والسلام من الشريك، ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها فحياته سلام من الموت، ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أ, عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر. وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة.


    وكلماته سلام من الكذب والظلم بل تمت كلماته صدقا وعدلا. وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما بل كل ما سواه، محتاج إليه وهو غني عن كل ما سواه وملكه سلام من منازع فيه أو مشارك أ, معاون مظاهر أو شافع عنده بدون إذنه. وإلهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو. وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذلك أو مصانعة كما يكون من غيره بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه.


    وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلما أو تشفيا أو غلظة أو قسوة بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه على إحسانه وثوابه ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله وحكمته وعزته فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به من خلاف حكمته.


    وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة. وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة ورحمة ومصلحة وعدل.


    وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز.


    واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه فهو الغني عن العرش، وعن حملته، وعن كل ما سواه فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره، من غير حاجة إلى عرض ولا غيره بوجه ما، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه وسلام مما يضاد غناه.

    وكماله سلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء، تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله، وغناه وسمعه وبصره، سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل.

    وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذلك كما يوالي المخلوق المخلوق بل هي موالاة رحمة وخير وإحسان وبر، كما قال : {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]، فلم ينف أن يكون له ولي مطلقا، بل نفى أن يكون له ولي من الذل. وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تملق له أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوله المعطلون فيها، وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل.

    فتأمل كيف تضمن اسمه السلام كل ما نزه عنه تبارك وتعالى، وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني، والله المستعان المسؤول أن يوفق للتعليق على الأسماء الحسنى، على هذا النمط، إنه قريب مجيب.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:17

    هل (السلام) مصدر أو اسم مصدر؟

    وأما السؤال الثاني وهو هل السلام مصدر أو اسم مصدر؟ فالجواب: أن السلام الذي هو التحية اسم مصدر من سلم، ومصدره الجاري عليه تسليم، كعلم تعليما، وفهم تفهيما ، وكلم تكليما، والسلام من سلم كالكلام من كلم.


    فإن قيل: وما الفرق بين المصدر والاسم؟


    قلنا: بينهما فرقان: لفظي ومعنوي. أما اللفظي فإن المصدر هو الجاري على فعله الذي هو قياسه كالأفعال من أفعل، والتفعيل من فعل، والانفعال من انفعل، والتفعلل من تفعلل... وبابه.


    وأما السلام والكلام فليسا بجاريين على فعليهما، ولو جريا عليه لقيل تسليم وتكليم.


    وأما الفرق المعنوي فهو أن المصدر دال على الحدث وفاعله فإذا قلت: تكليم وتسليم وتعليم... ونحو ذلك دل على الحدث، ومن قام به، فيدل التسليم على السلام والمسلم، وكذلك التكليم والتعليم.

    وأما اسم المصدر فإنما يدل على الحدث وحده فالسلام والكلام لا يدل لفظه على مسلم ولا مكلم بخلاف التكليم والتسليم. وسر هذا الفرق أن المصدر في قولك: سلم تسليما، وكلم تكليما، بمنزلة تكرار الفعل، فكأنك قلت: سلم سلم وتكلم تكلم، والفعل لا يخلو عن فاعله أبداً.


    وأما اسم المصدر فإنهم جردوه لمجرد الدلالة على الحدث، وهذه النكتة من أسرار العربية. فهذا السلام الذي هو التحية.


    وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان:
    أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه، والمعنى أنه ذو السلام ، وذو العدل، على حذف المضاف.


    والثاني أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي السالم كما سميت ليلة القدر سلاما أي سالمة من كل شر، بل هي خير لا شر فيها.


    وأحسن من القولين وأقيس في العربية أن يكون نفس السلام من أسمائه تعالى كالعدل وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرراً منه كقولهم: رجل صوم وعدل وزور وبابه.


    وأما السلام الذي هو بمعنى السلامة فهو مصدر نفسه وهو مثل الجلال، والجلالة فإذا حذفت التاء


    كان المراد نفس المصدر، وإذا أتيت بالتاء كان فيه إيذان بالتحديد بالمرة من المصدر كالحب والحبة فالسلام والجمال والجلال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه تاء التحديد، والسلامة والجلالة والملاحة والفصاحة كلها تدل على الخصلة الواحدة.

    ألا ترى أن الملاحة خصلة من خصال الكمال، والجلالة من خصال الجلال، ولهذا لم يقولوا: كمالة كما قالوا: ملاحة وفصاحة، لأن الكمال اسم جامع لصفات الشرف والفضل، فلو قالوا: كمالة لنقضوا الغرض المقصود من اسم الكمال... فتأمله.


    وعلى هذا جاءت الحلاوة والأصالة والرزانة والرجاحة لأنها خصلة من مطلق الكمال والجمال محدودة فجاءوا فيها بالتاء الدالة على التحديد، وعكسه الحماقة والرقاعة والنذالة والسفاهة، فإنها خصال محدودة من مطلق العيب والنقص فجاءوا في الجنس الذي يشمل الأنواع بغير تاء فجاءوا في أنواعه وأفراده بالتاء، وقد تقدم تقرير هذا المعنى، وأيضاً فلا حاجة إلى إعادته.


    فتأمل الآن كيف جاء السلام مجردا عن التاء إيذانا بحصول المسمى التام، إذ لا يحصل المقصود إلا به، فإنه لو سلم من آفة ووقع في آفة لم يكن قد حصل له السلام فوضح أن السلام لم يخرج عن المصدرية في جميع وجوهه.


    فإن قيل: فما الحكمة في مجيئه اسم مصدر ولم يجيء على أصل المصدر؟ قيل: هذا السر بديع وهو أن المقصود حصول مسمى السلامة للمسلم عليه على الإطلاق، من غير تقييد بفاعل فلما كان المراد مطلق السلامة من غير تعرض لفاعل أتوا باسم المصدر الدال على مجرد الفعل، ولم يأتوا بالمصدر الدال على الفعل والفاعل معاً... فتأمله.


    فصل: هل (السلام عليكم) إنشاء أم خبر؟


    وأما السؤال الثالث: وهو أن قول المسلم سلام عليكم هل هو إنشاء أم خبر ؟ فجوابه: أن هذا ونحوه من ألفاظ الدعاء متضمن للإنشاء والإخبار فجهة الخبرية فيه لا تناقض جهة الإنشائية. وهذا موضع بديع يحتاج إلى كشف وإيضاح. فنقول:


    الكلام له نسبتان نسبة إلى المتكلم به نفسه، ونسبة إلى المتكلم فيه إما طلباً، وإما خبراً، وله نسبة ثالثة إلى المخاطب لا يتعلق بها هذا الغرض، وإنما يتعلق تحقيقه بالنسبتين الأوليين.


    فباعتبار تينك النسبتين نشأ التقسيم إلى الخبر، والإنشاء ويعلم أين يجتمعان وأين يفترقان. فله بنسبته إلى قصد المتكلم وإرادته لثبوت مضمونه وصف الإنشاء، وله بنسبته إلى المتكلم فيه والإعلام بتحققه في الخارج وصف الأخبار، ثم تجتمع النسبتان في موضع وتفترقان في موضع، فكل موضع كان المعنى فيه حاصلاً بقصد المتكلم وإرادته فقط، فإنه لا يجامع فيه الخبر الإنشاء، نحو قوله: (بعتك كذا، ووهبتكه وأعتقت وطلقت) فإن هذه المعاني لم يثبت لها وجود خارجي إلا بإرادة المتكلم وقصده فهي إنشاءات وخبريتها من جهة أخرى، وهي تضمنها إخبار المتكلم عن ثبوت هذه النسبة في ذهنه، لكن ليست هذه هي الخبرية التي وضع لها لفظ الخبر.


    وكل موضع كان المعنى حاصلاً فيه من غير جهة المتكلم وليس للمتكلم إلا دعاؤه بحصوله ومحبته فالخبر فيه لا يناقض الإنشاء، وهذا نحو: سلام عليكم، فإن السلامة المطلوبة لم تحصل بفعل المسلم، وليس للمسلم إلا الدعاء بها ومحبتها فإذا قال: سلام عليكم تضمن الإخبار بحصول السلامة والإنشاء للدعاء بها وإرادتها وتمنيها.


    وكذلك: ويل له، قال سيبويه: هو دعاء وخبر ولم يفهم كثير من الناس قول سيبويه على وجهه، بل حرفوه عما أراده به، وإنما أراد سيبويه هذا المعنى أنها تتضمن الإخبار بحصول الويل له مع الدعاء به، فتدبر هذه النكتة التي لا تجدها محررة في غير هذا الموضع هكذا، بل تجدهم يطلقون تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء من غير تحرير، وبيان لمواضع اجتماعهما وافتراقهما.

    وقد عرفت بهذا أن قولهم سلام عليكم وويل له وما أشبه هذا أبلغ من إخراج الكلام في صورة الطلب المجرد نحو اللهم سلمه.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:18

    معنى السلام المطلوب عند التحية

    وأما السؤال الرابع: وهو ما معنى السلام المطلوب عند التحية؟ ففيه قولان مشهوران: أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم، والسلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى الكلام: نزلت بركة اسمه عليكم، وحلت عليكم، ونحو هذا واختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء لما يأتي في جواب السؤال الذي بعده.

    واحتج أصحاب هذا القول بحجج: منها ما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يقولون في الصلاة: (( السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: <لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام. ولكن قولوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين>.


    فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: السلام على الله، لأن السلام على المسلم عليه دعاء له، وطلب أن يسلم والله تعالى هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، فيستحيل أن يسلم عليه، بل هو المسلم على عباده، كما سلم عليهم في كتابه حيث يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [ الصافات: 180، 181 ]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [ الصافات: 109 ]، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [ الصافات: 79 ]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [ الصافات: 130 ]، وقال في يحيى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ} وقال لنوح: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْك} [ هود:48 ]، ويسلم يوم القيامة على أهل الجنة كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ* سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [ يس: 57، 58 ]، فقولاً منصوب على المصدر، وفعله ما تضمنه سلام من القول لأن السلام قول.


    وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من، حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: <بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوقهم فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم. وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، ثم قرأ قوله: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، ثم يتوارى عنهم فتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم>.


    وفي سنن ابن ماجة مرفوعاً: <أول من يسلم عليه الحق يوم القيامة عمر>، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [ الأحزاب:44 ]، فهذا تحيتهم يوم يلقونه تبارك وتعالى، ومحال أن تكون هذه تحية منهم له، فإنهم أعرف به من أن يسلموا عليه، وقد نهوا عن ذلك في الدنيا، وإنما هذا تحية منه لهم، والتحية هنا مضافة إلى المفعول فهي التحية التي يحيون بها لا التحية التي يحيونه هم بها، ولولا قوله تعالى في سورة يس: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [ يس:58 ]، لاحتمل أن تكون التحية لهم من الملائكة كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [ الرعد: 23 ]. ولكن هذا سلام الملائكة إذا دخلوا عليهم، وهم في منازلهم من الجنة، يدخلون مسلمين عليهم.


    وأما التحية المذكورة في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}، فتلك تحية لهم وقت اللقاء كما يحيي الحبيب حبيبه إذا لقيه فماذا حرم المحجوبون عن ربهم يومئذ ؟


    يكفي الذي غاب عنك غيبته=== فذاك ذنب عقابه فيه
    والمقصود أن الله تعالى يطلب منه السلام فلا يمتنع في حقه أن يسلم على عباده ولا يطلب له، فلذلك لا يسلم عليه.


    وقوله صلى الله عليه وسلم: <إن الله هو السلام> صريح في كون السلام اسماً من أسمائه قالوا: فإذا قال المسلم: سلام عليكم، كان معناها اسم السلام عليكم.


    ومن حججهم ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال: <إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر>، قالوا: ففي هذا الحديث بيان أن السلام ذكر الله وإنما يكون ذكراً إذا تضمن اسماً من أسمائه.
    ومن حججهم أيضاً أن الكفار من أهل الكتاب لا يبدءون بالسلام، فلا يقال لهم: سلام عليكم. ومعلوم أنه لايكره أن يقال لأحدهم: سلمك الله، وما ذاك إلا أن السلام اسم من أسماء الله، فلا يسوغ أن يطلب للكافر حصول بركة ذلك الاسم عليه. فهذه حجج كما ترى قوية ظاهرة.


    القول الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية.


    ومن حجة أصحاب هذا القول أن يذكر بلا ألف ولام، بل يقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك، بل كان يطلق عليه معرفاً كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى، فيقال: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: من الآية23]، فإن التنكير لايصرف اللفظ إلى معين فضلاً عن أن يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعييناً إذا ذكرت أسماؤه الحسنى.
    ومن حججهم أيضاً أن عطف الرحمة والبركة عليه في قوله: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته يدل على أن المراد به المصدر ولهذا عطف عليه مصدرين مثله.


    ومن حججهم أيضاً أنه لو كان السلام هنا اسماً من أسماء الله لم يستقم الكلام إلا بإضمار وتقدير يكون به مقيداً، ويكون المعنى: بركة اسم السلام عليكم، فإن الاسم نفسه ليس عليهم، ولو قلت: اسم الله عليك، كان معناه بركة هذا الاسم، ونحو ذلك من التقدير، ومعلوم أن هذا التقدير خلاف الأصل، ولا دليل عليه.
    ومن حججهم أيضاً. أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء كما يأتي في جواب السؤال الذي بعد هذا، ولهذا كان السلام أماناً لتضمنه معنى السلامة، وأمن كل واحد من المسلم، والراد عليه من صاحبه، قالوا: فهذا كله يدل على أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وحذفت تاؤه، لأن المطلوب هذا الجنس لا المرة الواحدة منه، والتاء تفيد التحديد كما تقدم.


    وفصل الخطاب في هذه المسألة أن يقال الحق في مجموع القولين فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما وإنما نبين ذلك بقاعدة قد أشرنا إليها مراراً وهي أن من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى كأن الداعي مستشفع إليه متوسل إليه به، فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، فقد سأله أمرين وتوسل إليه بإسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه.


    وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: وقد سألته ما تدعو به إن وافقت ليلة القدر: <قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني>.


    وكذلك قوله للصديق وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به: <اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم >، وهذا كثيراً جداً فلا نطول بإيراد شواهده.


    وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله وهو السلام الذي يطلب منه السلامة، فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله كما في حديث ابن عمر، والثاني طلب السلامة، وهو مقصود المسلم، فقد تضمن (سلام عليكم) اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة.


    وقريب من هذا ما روى عن بعض السلف إنه قال في (آمين) إنه اسم من أسماء الله تعالى، وأنكر كثير من الناس هذا القول، وقالوا: ليس في أسمائه آمين، ولم يفهموا معنى كلامه فإنما أراد أن هذه الكلمة تتضمن اسمه تبارك وتعالى، فإن معناها استجب وأعط ما سألناك، فهي متضمنة لاسمه مع دلالتها على الطلب وهذا التضمن في: سلام عليكم أظهر، لأن السلام من أسمائه تعالى فهذا كشف سر المسألة.


    *الحكمة في السلام عند اللقاء:

    إذا عرف هذا فالحكمة في طلبه عند اللقاء دون غيره من الدعاء أن عادة الناس الجارية بينهم أن يحيي بعضهم بعضاً عند لقائه، وكل طائفة لهم في تحيتهم ألفاظ وأمور اصطلحوا عليها.


    وكانت العرب تقول في تحيتهم بينهم في الجاهلية: أنعم صباحاً وأنعموا صباحاً، فيأتون بلفظة أنعموا من النعمة بفتح النون، وهي طيب العيش والحياة ويصلونها بقولهم: صباحاً لأن الصباح في أول النهار، فإذا حصلت فيه النعمة استصحب حكمها، واستمرت اليوم كله، فخصوها بأوله إيذاناً لتعجيلها وعدم تأخرها إلى أن يتعالى النهار.


    وكذلك يقولون: أنعموا مساء، فإن الزمان هو صباح ومساء، فالصباح في أول النهار إلى بعد انتصافه، والمساء من بعد انتصافه إلى الليل، ولهذا يقول الناس: صبحك الله بخير، ومساك الله بخير، فهذا معنى أنعم صباحاً ومساء، إلا أن فيه ذكر الله.


    وكانت الفرس يقولون في تحيتهم (هزا رساله ميمايي) أي تعيش ألف سنة، وكل أمة لهم تحية من هذا الجنس.. أو ما أشبهه، ولهم تحية يخصون بها ملوكهم من هيئات خاصة عند دخولهم عليهم كالسجود... ونحوه، وألفاظ خاصة تتميز بها تحية الملك من تحية السوقة وكل ذلك مقصودهم به الحياة ونعيمها ودوامها، ولهذا سميت تحية، وهي تفعلة من الحياة كتكرمة من الكرامة، لكن أدغم المثلان فصار تحية فشرع الملك القدوس السلام تبارك وتعالى لأهل السلام تحية بينهم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} وكانت أولى من جميع تحيات الأمم، التي منها ما هو محال وكذب نحو قولهم: تعيش ألف سنة، وما هو قاصر المعنى، مثل أنعم صباحاً، ومنها ما لا ينبغي إلا لله مثل السجود، فكانت التحية بالسلام أولى من ذلك كله لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها فهي الأصل المقدم على كل شيء، ومقصود العبد من الحياة إنما يحصل بشيئين: بسلامته من الشر وحصول الخير كله، والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير وهي الأصل ولهذا... إنما يهتم الإنسان بل كل حيوان بسلامته أولاً، ثم غنيمته ثانياً، على أن السلامة المطلقة تضمن حصول الخير، فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص والضعف.


    ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة فتضمنت السلامة نجاته من كل شر، وفوزه بالخير، فانتظمت الأصلين الذين لا تتم الحياة إلا بهما مع كونها مشتقة من اسمه السلام ومتضمنة له وحذفت التاء منها لما ذكرنا من إرادة الجنس لا السلامة الواحدة.


    ولما كانت الجنة دار السلامة من كل عيب وشر وآفة، بل قد سلمت من كل ما ينغص العيش، والحياة كانت تحية أهلها فيها سلام، والرب يحييهم فيها بالسلام، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. فهذا سر التحية بالسلام عند اللقاء.
    وأما عند المكاتبة فلما كان المراسلان كل منهما غائب عن الآخر ورسوله إليه كتابه يقوم مقام خطابه له استعمل في مكاتبته له من السلام ما يستعمله معه لو خاطبه لقيام الكتاب مقام الخطاب.
    فصل: تعدية السلام ب(على)


    وأما السؤال الخامس: وهو تعدية هذا المعنى ب(على) فجوابه بذكر مقدمة، وهي: ما معنى قوله: سلمت، فإذا عرف معناها عرف أن حرف (على) أليق به، فاعلم أن لفظ سلمت عليه، وصليت عليه، ولعنت فلاناً، موضوعها ألفاظ هي جمل طلبية وليس موضوعها معاني مفردة. فقولك: سلمت موضوعه قلت: السلام عليك، وموضوع صليت عليه. قلت: اللهم صل عليه أو دعوت له وموضوع لعنته قلت: اللهم العنه.


    ونظير هذا: (سبحت الله) قلت: سبحان الله... ونظيره، وإن كان مشتقاً من لفظ الجملة، (هلل) إذا قال: لا إله إلا الله، و(حمدل) إذا قال: الحمد الله، و(حوقل) إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، و(حيعل) إذا قال: حي على الصلاة و(بسمل) إذا قال، بسم الله. قال:
    وقد بسملت ليلى غداة لقيتها=== إلا حبذا ذاك الحبيب المبسمل


    وإذا ثبت هذا فقولك: سلمت عليه أي ألقيت عليه هذا اللفظ، وأوضعته عليه إيذاناً باشتمال معناه عليه، كاشتمال لباسه عليه، وكان حرف (على) أليق الحروف به.. فتأمله. وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [ الواقعة: 90، 91 ]، فليس هذا سلام تحية ولو كان تحية لقال: فسلام عليه كما قال: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [ الصافات: 109 ]، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [ الصافات: 79 ]، ولكن الآية تضمنت ذكر مراتب الناس وأقسامهم عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله فذكر أنهم ثلاثة أقسام: مقرب له الروح والريحان وجنة النعيم. ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة فوعده بالسلامة ووعد المقرب بالغنيمة والفوز وإن كان كل منهما سالماً غانماً... وظالم بتكذيبه وضلاله فأوعده بنزل من حميم وتصلية جحيم، فلما لما يكن المقام مقام تحية، وإنما هو مقام أخبار عن حاله ذكر ما يحصل له من السلامة.


    فإن قيل: فهذا فرق صحيح لكن ما معنى اللام في قوله (لك) ؟ ومن هو المخاطب بهذا الخطاب ؟ وما معنى حرف (من) في قوله من أصحاب اليمين فهذه ثلاثة أسئلة في الآية، قيل: قد وفينا بحمد الله بذكر الفرق بين هذا السلام في الآية، وبين سلام التحية وهو الذي كان المقصود، وهذه الأسئلة وإن كانت متعلقة بالآية فهي خارجة عن مقصودنا، ولكن نجيب عنها إكمالاً للفائدة بحول الله وقوته، وإن كنا لم نر أحداً من المفسرين شفى في هذا الموضع الغليل، ولا كشف حقيقة المعنى واللفظ، بل منهم من يقول المعنى فمسلم لك إنك من أصحاب اليمين ومنهم من يقول غير ذلك مما هو حرم على معناها من غير ورود. فاعلم أن المدعو به من الخير والشر مضاف إلى صاحبه بلام الإضافة الدالة على حصوله له.


    ومن ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [ الرعد: 25 ]، ولم يقل عليهم اللعنة إيذاناً بحصول معناها وثبوته لهم، وكذلك قوله: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [ الأنبياء: 18 ]، ويقول في ضد هذا: لك الرحمة، ولك التحية، ولك السلام، ومنه هذه الآية: {فَسَلامٌ لَكَ}، أي: ثبت لك السلام وحصل لك.


    وعلى هذا فالخطاب لكل من هو من هذا الضرب فهو خطاب للجنس، أي: فسلام لك يا من هو من أصحاب اليمين كما تقول هنيئاً لك يا من هو منهم، ولهذا والله أعلم أتى بحرف (من) في قوله: {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [ الواقعة: 91 ]، والجار والمجرور في موضع حال أي: سلام لك كائناً من أصحاب اليمين، كما تقول: هنيئاً لك من أتباع رسول الله وحزبه أي: كائناً منهم.
    والجار والمجرور بعد المعرفة ينتصب على الحال، كما تقول: أحببتك من أهل الدين والعلم، أي: كائناً منهم، فهذا معنى هذا الآية، وهو وإن خلت عنه كتب أهل التفسير، فقد حام عليه منهم من حام وما ورد، ولا كشف المعنى ولا أوضحه. فراجع ما قالوه... والله الموفق المانّ بفضله.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:20

    الابتداء بالنكرة في (السلام)

    وأما السؤال السادس: وهو ما الحكمة في الابتداء بالنكرة هاهنا مع أن الأصل تقديم الخبر عليها ؟ هذا سؤال قد تضمن سؤالين:

    أحدهما: حكمة الابتداء بالنكرة في هذا الموضع. الثاني: أنه إذ قد ابتدئ بها فهلا قدم الخبر على المبتدأ؟ لأنه قياس الباب نحو: في الدار رجل .


    والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: النحاة قالوا: إذا كان في النكرة معنى الدعاء مثل: سلام لك، وويل له جاز الابتداء بها، لأن الدعاء معنى من معاني الكلام، فقد تخصصت النكرة بنوع من التخصيص فجاز الابتداء بها، وهذا كلام لا حقيقة تحته، فإن الخبر أيضاً نوع من أنواع الكلام ومع هذا فلا تكون جهة الخبر مسوغة للابتداء بالنكرة، فكيف تكون جهة الدعاء مسوغة للإبتداء بها.


    وأما الفرق بين كون الدعاء نوعاً، والخبر نوعاً، والطلب نوعاً، وهلا يفيد ذلك تعيين مسمى النكرة حتى يصلح الإخبار عنها ؟ فإن المانع من الإخبار عنها ما فيها من الشياع والإبهام الذي يمنع من تحصيلها عند المخاطب في ذهنه، حتى يستفيد نسبة الإسناد الخبري إليها، ولا فرق في ذلك بين كون الكلام دعاء أو خبراً.
    وقول من قال: إن الابتداء بالنكرة إنما امتنع حيث لا يفيد نحو: رجل في الدنيا ورجل مات... ونحو ذلك، فإذا أفادت جاز الابتداء بها من غير تقييد بضابط ولا حصر بعد، وأحسن من تقييد ذلك يكون الكلام دعاء، أو في قوة كلام آخر.. وغير ذلك من الضوابط المذكورة، وهذه طريقة إمام النحو سيبويه فإنه في كتابه لم يجعل للابتداء بها ضابطاً ولا حصره بعدد، بل جعل مناط الصحة الفائدة، وهذا هو الحق الذي لا يثبت عند النظر سواه، وكل من تكلف ضابطاً فإنه ترد عليه ألفاظ خارجة عنه، فأما أن يتمحل لردها إلى ذلك الضابط وإما أن يفردها بضوابط آخر حتى آل الأمر ببعض النحاة إلى أن جعل في الباب ثلاثين ضابطاً، وربما زاد غيره عليها، وكل هذا تكلف لا حاجة إليه، واسترحت من شر أهر ذا ناب... وبابه.


    *قاعدة جامعة في الابتداء:


    فإن قلت: فما عندك من الضابط إذا سلكت طريقتهم في ذلك ؟
    قلت: اسمع الآن قاعدة جامعة في هذا الباب لا يكاد يشذ عنها شيء منه.
    أصل المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً بضرب من ضروب التخصيص بوجه تحصل الفائدة من الإخبار عنه، فإن انتفت عنه وجوه التخصيص بأجمعها فلا يخبر عنه إلا أن يكون الخبر مجروراً مفيداً معرفة مقدماً عليه بهذه الشروط الأربعة، لأنه إذا تقدم وكان معرفة صار كان الحديث عنه، وكأن المبتدأ المؤخر خبر عنه.
    ومثال ذلك إذا قلت: (على زيد دين) فإنك تجد هذا الكلام في قوة قولك: زيد مديان أو مدين، فمحط الفائدة هو الدين، وهو المستفاد من الإخبار، فلا تنحبس في قيود الأوضاع. وتقول: على زيد جار ومجرور فكيف يكون مبتدأ؟ فأنت تراه هو المخبر عنه في الحقيقة، وليس المقصود الإخبار عن الدين، بل عن زيد بأنه مديان، وإن كثف ذهنك عن هذا فراجع شروط المبتدأ وشروط الخبر، وإن لم يكن الخبر مفيداً لم تفد المسألة شيئاً وكان لا فرق بين تقديم الخبر وتأخيره، كما إذا قلت: (في الدنيا رجل) كان في عدم الفائدة، بمنزلة قولك: (رجل في الدنيا) فهنا لم تمتنع الفائدة بتقديم ولا تأخير، وإنما امتنعت من كون الخبر غير مفيد.


    ومثل هذا قولك: (في الدار امرأة) فإنه كلام مفيد، لأنه بمنزلة قولك: (الدار فيها امرأة) فأخبرت عن الدار بحصول المرأة فيها في اللفظ والمعنى، فإنك لم ترد الإخبار عن المرأة بأنها في الدار، ولو أردت ذلك لحصلت حقيقة المخبر عنه أولاً، ثم أسندت إليه الخبر. وإنما مقصودك الإخبار عن الدار بأنها مشغولة بامرأة، وأنها اشثملت على امرأة فهذا القدر هو الذي حسن الإخبار عن النكرة ههنا فإنها ليست خبراً في الحقيقة.

    وإنما هي في الحقيقة خبر عن المعرفة المتقدمة فهذا حقيقة الكلام، وأما تقديره الإعرابي النحوي فهو أن المجرور خبر مقدم، والنكرة مرفوعة بالإبتداء.

    *يشترط للابتداء بالنكرة أن تكون موصوفة:


    فإن قلت: فمن أين امتنع تقديم هذا المبتدأ في اللفظ ؟ فلا تقول: (امرأة في الدار ودين على زيد).
    قلت: لأن النكرة تطلب الوصف طلباً حثيثاً فيسبق الوهم إلى أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها إذ ليس من عادتها الإخبار عنها إلا بعد الوصف لها. فيبقى الذهن متطلعاً إلى ورود الخبر عليه وقد سبق إلى سمعه. ولكن لم يتيقن أنه الخبر بل يجوز أن يكون وصفاً فلا تحصل به الفائدة بل يبقى في ألم الانتظار للخبر والترقب له. فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفاً لها، لأنه لا يتقدم موصوفه فذهب وهمه إلى أن الاسم المجرور المقدم هو الخبر والحديث عن النكرة وهو محط الفائدة.


    إذا عرفت هذا فمن التخصيصات المسوغة للابتداء بها، أن تكون موصوفة نحو: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك} [ البقرة: 221 ]، أو عامة نحو: (ما أحد خير من رسول الله) و(هل أحد عندك) ؟


    ومن ذلك أن تقع في سياق التفضيل نحو قول عمر: (تمرة خير من جرادة) فإن التفضيل نوع من التخصيص بالعموم. إذ ليس المراد واحدة غير معينة من هذا الجنس. بل المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة إيذاناً بأن هذا التفضيل ثابت لكل فرد فرد من أفراد الجنس.
    ومنه تأويل سيبويه في قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوف} [ محمد: 21 ]، فإنه قدره طاعة أمثل وقول معروف أشبه وأجدر بكم وهذا أحسن من قول بعضهم: أن المسوغ للابتداء بها هاهنا العطف عليها، لأن المعطوف عليها موصوف فيصح الابتداء به.


    وإنما كان قول سيبويه أحسن، لأن تقييد المعطوف بالصفة لا يقتضي تقييد المعطوف عليه بها، ولو قلت: طاعة أمثل لساغ ذلك وإن لم يعطف عليها.


    ومنه وقوع النكرة في سياق تفصيل بعد إجمال، كما إذا قلت: اقسم هذه الثياب بين هؤلاء فثوب لزيد وثوب لعمرو وثوب لبكر، فإن النكرة هاهنا تخصصت وتعينت وزال إبهامها وشياعها في جنس الثياب، بل تخصصت بتلك الثياب المعينة فكأنك قلت: ثوب منها لزيد وثوب منها لعمرو وهذا تقييد وتخصيص.

    ومنه الابتداء بالنكرة إذا لم يكن الكلام خبراً محضاً بل فيه معنى التزكية والمدح، فمن ذلك قولهم: أمت في الحجر لا فيك لأنهم لم يقولوا: أمت في الحجر، وسكتوا حتى قرنوه بقولهم: لا فيك، فصار معنى الكلام نسبة الأمت إلى الحجر أقرب من نسبته إليك، والأمت بالحجر أليق به منك، لأنهم أرادوا تزكية المخاطب ونفي العيب عنه ولم يريدوا الإخبار عن أمت بأنه في الحجر بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطب معاً إلا أن نفيه عن المخاطب أوكد، وإذا دخل الحديث معنى النفي فلا غرو أن يبتدأ بالنكرة لما فيه من العموم والفائدة.


    *قولهم (شر أهر ذا ناب):
    ومن هذا قولهم: (شر أهر ذا ناب) وفيه تقديران:
    أحدهما: أنه على الوصف أي شر عظيم أو شر مخوف أهره.


    والثاني: أنه في معنى كلام آخر وهو: ما أهر ذا ناب إلا شر، أو إنما أهره شر، ولا ريب
    في صحة المسألة على وجه الفاعلية، فهكذا إذا كانت على وجه المبتدأ والخبر الذي في معناه، ومنه قولهم: شر ما جاء به، لأن معنى الكلام: ما جاء به إلا شر، فأدت ما الزائدة هنا معنى شيئين: النفي والإيجاب، كما أدته في قولك: إنما جاء به شر، وفي قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [ البقرة: 88 ] أي: ما يؤمنون إلا قليلاً، وقليلاً ما يذكرون. وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [ المائدة: 13 ]، أي: ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، ونحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: من الآية159] أي: ما لنت لهم إلا برحمة من الله، ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن (ما) زائدة في هذه المواضع، فإنه صادر عن عدم تأمل.


    فإن قيل: فمن أين لكم أفادت (ما) هذه المعنيين المذكورين من: النفي والإيجاب: وهي لو كانت على حقيقتها من النفي الصريح لم تفد إلا معنى واحد، وهو النفي، فإذا لم يكن النفي صريحاً فيها كيف تفيد معنيين ؟


    قيل: نحن لم ندع أنها أفادت النفي والإيجاب بمجردها، ولكن حصل ذلك منها ومن القرائن المحتفة بها في الكلام، أما قولهم: شر ما جاء بها، فلما انتظمت مع الاسم النكرة، والنكرة لا يبتدأ بها فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة بها، وأكد ذلك التخصيص ب(ما) فانتفى الأمر عن غير الاسم المبتدأ، ولم يكن إلا له حتى صار المخاطب يفهم من هذا ما يفهم من قوله ما جاء به إلا شر، واستغنوا هنا ب(ما) هذه عن (ما) النافية وبالابتداء بالنكرة عن (إلا).


    وأما قولك: إنما زيد قائم فقد انتظمت ب(أن) وامتزجت معها، وصارتا كلمة واحدة، وأن تعطي الإيجاب الذي تعطيه (إلا) وما تعطي النفي، ولذلك جاز: إنما يقوم أنا، ولا تكون أنا، فاعلة إلا إذا فصلت من الفعل ب(إلا)، تقول: ما يقوم إلا أنا، ولا تقول: يقوم أنا. فإذا قلت: إنما قام أنا صرت كأنك لفظت (ما) مع إلا قال:
    أدافع عن أعراض قومي وإنما=== يدافع عن أعراضهم أن أو مثلي


    فإذا عرفت أن زيادتها مع (أن) واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب، فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر من قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [ آل عمران: 59ا ]، و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [ المائدة: 13 ]، وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب وبين أن يقال: فبرحمة من الله، وفبنقضهم ميثاقهم. وأنك تفهم من تركيب الآية ما لنت لهم إلا برحمة من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، وكذلك قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} دلت على النفي بلفظها وعلى الإيجاب بتقديم ما حقه التأخير من المعمول وارتباط ما به مع تقديم. كما قرر في قولهم شر ما جاء به.


    وقد بسطنا هذا في كتاب (الفتح المكي) وبينا هناك أنه ليس في القرآن حرف زائد وتكلمنا على كل ما ذكر في ذلك، وبينا أن كل لفظة لها فائدة متجددة زائدة على أصل التركيب، ولا ينكر جريان القلم إلى هذه الغاية، وإن لم يكن من غرضنا، فإنها أهم من بعض ما نحن فيه وبصدده، فلنرجع إلى المقصود فنقول: الذي صحح الابتداء بالنكرة في: سلام عليكم، إن المسلم لما كان داعياً، وكان الاسم المبتدأ النكرة هو المطلوب بالدعاء صار هو المقصود المهتم به، وينزل منزلة قولك: أسأل الله سلاماً عليكم، وأطلب من الله سلاماً عليك، فالسلام نفس مطلوبك ومقصودك، ألا ترى أنك لو قلت: أسأل الله عليك سلاماً لم يجز وهذا في قوته ومعناه... فتأمله فإنه بديع جداً.


    فإن قلت: فإذا كان في قوته فهلا كان منصوباً مثل، سقياً ورعياً لأنه في معنى: سقاك الله سقياً ورعاك رعياً .


    قلت: سيأتي جواب هذا في جواب السؤال العاشر في الفرق بين سلام إبراهيم، وسلام ضيفه إن شاء الله.
    وأيضاً فالذي حسن الابتداء بالنكرة هاهنا أنها في حكم الموصوفة، لأن المسلم إذا قال: سلام عليكم، فإنما مراده سلام مني عليك، كما قال تعالى: {اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [ هود: 48 ].

    ألا ترى أن مقصود المسلم إعلام من سلم عليه بأن التحية والسلام منه نفسه، لما في ذلك من حصول مقصود السلام من التحيات والتواد والتعاطف، فقد عرفت جواب السؤالين لما ابتدئ بالنكرة، ولم قدمت على الخبر بخلاف الباب في مثل ذلك.... والله أعلم.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:22

    فصل: تقديم السلام في جانب المسلم

    وأما السؤال السابع وهو أنه لم كان في جانب المسلم تقديم السلام، وفي جانب الراد تقديم المسلم عليه؟
    فالجواب عنه: إن في ذلك فوائد عديدة:


    أحدها: الفرق بين الرد والإبتداء: فإنه لو قال له في الرد: السلام عليكم، أو سلام عليكم، لم يعرف أهذا رد لسلامه عليه ؟ أم إبتداء تحية منه ؟ فإذا قال: عليك السلام، عرف أنه قد رد عليه تحيته، ومطلوب المسلم من المسلم عليه أن يرد عليه سلامه، ليس مقصوده أن يبدأه بسلام كما ابتدأه به، ولهذا السر _والله أعلم_ نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم عليه بقوله: عليك السلام عن ذلك فقال: <لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى>، وسيأتي الكلام على هذا الحديث ومعناه في موضعه.

    أفلا ترى كيف نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ابتداء السلام بصيغة الرد التي لا تكون إلا بعد تقديم سلام وليس في قوله: <فإنها تحية الموتى>، ما يدل على أن المشروع في تحيات الموتى، كذلك كما سنذكره، وإذا كانوا قد اعتمدوا الفرق بين سلام المبتدئ وسلام الراد، خصوا المبتدأ بتقديم السلام، لأنه هو المقصود، وخصوا الراد بتقديم الجار والمجرور.....

    الفائدة الثانية: وهي أن سلام الراد يجري مجرى الجواب، ولهذا يكتفي فيه بالكلمة المفردة الدالة على أختها، فلو قال: وعليك، لكان متضمناً للرد كما هو المشروع في الرد على أهل الكتاب مع أنا مأمورون أن نرد على من حيانا بتحية مثل تحيته. وهذا من باب العدل الواجب لكل أحد فدل على أن قول الراد، وعليك مماثل لقول المسلم سلام عليك. لكن اعتمد في حق المسلم إعادة اللفظ الأول بعينه تحقيقاً للماثلة، ودفعاً لتوهم المسلم عدم رده عليه لاحتمال أن يريد عليك شيء آخر.

    وأما أهل الكتاب فلما كانوا يحرفون السلام ولا يعدلون فيه، وربما سلموا سلاماً صحيحاً غير محرف ويشتبه الأمر في ذلك على الراد ندب إلى اللفظ المفرد المتضمن لرده عليهم نظير ما قالوه. ولم تشرع له الجملة التامة، لأنها إما أن تتضمن من التحريف مثل ما قالوا، ولا يليق بالمسلم تحريف السلام الذي هو تحية أهل الإسلام. ولا سيما وهو ذكر الله كما تقدم لأجل تحريف الكافر له، وإما أن يرد سلاماً صحيحاً غير محرف مع كون المسلم محرفاً للسلام فلا يستحق الرد الصحيح. فكان العدول إلى المفرد وهو عليك هو مقتضى العدل والحكمة مع سلامته من تحريف ذكر الله.

    فتأمل هذه الفائدة البديعة. والمقصود أن الجواب يكفي فيه قولك: وعليك وإنما كمل تكميلاً للعدل وقطعاً للتوهم.

    الفائدة الثالثة: وهي أقوى مما تقدم أن المسلم لما تضمن سلامة الدعاء للمسلم عليه بوقوع السلامة عليه، وحلولها عليه. وكان الرد متضمناً لطلب أن يحل عليه من ذلك مثل ما دعا به. فإنه إذا قال: وعليك السلام كان معناه وعليك من ذلك مثل ما طلبت لي.

    كما إذا قال: غفر الله لك، فإنك تقول له: ولك يغفر، ويكون هذا أحسن من قولك: وغفر لك، وكذا إذا قال: رحمة الله عليك، تقول: وعليك وإذا قال: عفا الله عنك. تقول: وعنك، وكذلك نظائره لأن تجريد القصد إلى مشاركة المدعو له للداعي في ذلك الدعاء لا إلى إنشاء دعاء مثل ما دعا به فكأنه قال: ولك أيضاً، وعنك أيضاً. أي وأنت مشارك لي في ذلك مماثل لي فيه لا أنفرد به عنك، ولا اختص به دونك، ولا ريب أن هذا المعنى يستدعي تقديم المشارك المساوي... فتأمله.

    ابتداء السلام بالنكرة والجواب بالمعرفة

    وأما السؤال الثامن: وهو ما الحكمة في ابتداء السلام بلفظ النكرة ؟ وجوابه بلفظ المعرفة؟ فتقول: سلام عليكم فيقول الراد: وعليك السلام، فهذا سؤال يتضمن لمسألتين: إحداهما هذه والثانية اختصاص النكرة بابتداء المكاتبة والمعرفة بآخرها، والجواب عنها بذكر أصل نمهده ترجع إليه مواقع التعريف والتنكير في السلام.

    وهو أن السلام دعاء وطلب وهم في ألفاظ الدعاء والطلب، إنما يأتون بالنكرة إما مرفوعة على الابتداء، أو منصوبة على المصدر، فمن الأول: ويل له، ومن الثاني: خيبة له وجدعاً وعقراً وترباً وجندلاً هذا في الدعاء عليه. وفي الدعاء له: سقياً ورعياً وكرامة ومسرة، فجاء سلام عليكم بلفظ النكرة، كما جاء سائر ألفاظ الدعاء.

    وسر ذلك أن هذه الألفاظ جرت مجرى النطق بالفعل، ألا ترى أن سقياً ورعياً وخيبة، جرى مجرى سقاك الله ورعاك... وكذلك سلام عليك جار مجرى سلمك الله والفعل نكرة فأحبوا أن يجعلوا اللفظ الذي هو جار مجراه، كالبدل منه نكرة مثله، وأما تعريف السلام في جانب الراد فنذكر أيضاً أصلاً يعرف به سره وحكمته، وهو أن الألف واللام إذا دخلت على اسم السلام تضمنت أربعة فوائد:

    إحداها: الإشعار بذكر الله تعالى، لأن السلام المعرف من أسمائه كما تقدم تقريره.

    الفائدة الثانية: إشعارها بطلب معنى السلامة منه للمسلم عليه، لأنك متى ذكرت اسماً من أسمائه فقد تعرضت به، وتوسلت به إلى تحصيل المعنى الذي اشتق منه ذلك الاسم.

    الفائدة الثالثة: إن الألف واللام يلحقها معنى العموم في مصحوبها والشمول فيه في بعض المواضع.

    الفائدة الرابعة: أنها تقوم مقام الإشارة إلى المعين، كما تقول: ناولني الكتاب واسقني الماء وأعطني الثوب لما هو حاضر بين يديك. فإنك تستغني بها عن قولك هذا فهي مؤدية معنى الإشارة.

    وإذا عرفت هذه الفوائد الأربع:

    فقول الراد: وعليك السلام بالتعريف متضمن للدلالة على أن مقصوده من الرد مثل ما ابتدئ به وهو هو بعينه، فكأنه قال: ذلك السلام الذي طلبته لي مردود عليك، وواقع عليك، فلو أتى بالرد منكراً لم يكن فيه إشعار بذلك، لأن المعرف وأن تعدد ذكره واتحد لفظه، فهو شيء واحد بخلاف المنكر.

    ومن فهم هذا فهم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: <لن يغلب عسر يسرين> فإنه أشار إلى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراًً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [ الشرح: 5، 6 ]، فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظ المعرفة فهو واحد، واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران، فالعسر محفوف بيسربن يسر قبله ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين.

    وفائدة ثانية: وهي أن مقامات رد السلام ثلاثة: (مقام فضل. ومقام عدل. ومقام ظلم)، فالفضل أن يرد عليه أحسن من تحيته، والعدل أن ترد عليه نظيرها، والظلم أن تبخسه حقه وتنقصه منها، فاختير للراد أكمل اللفظين، وهو المعرف بالأداة التي تكون للاستغراق والعموم كثيراً ليتمكن من الإتيان بمقام الفضل.

    وفائدة ثالثة: وهي أنه قد تقدم أن المناسب في حقه تقديم المسلم عليه على السلام، فلو نكره وقال: عليك سلام، لصار بمنزلة قولك: عليك دين، وفي الدار رجل، فخرجه فخرج الخبر المحض، وإذا صار خبراً بطل معنى التحية، لأن معناها الدعاء والطلب، فليس بمسلم من قال: عليك سلام، إنما المسلم من قال: سلام عليك، فعرف سلام الراد باللام إشعاراً بالدعاء للمخاطب وإنه راد عليه التحية، طالب له السلامة من اسم السلام...

    والله أعلم.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:23

    فصل: ابتداء السلام في المكاتبة


    وأما السؤال التاسع: وهو ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة، واختتامها بالمعرفة، فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء، فإن المكاتبة قائمة مقام النطق، وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد:


    أحدها: أن السلام الأول قد وقع الأنس بينهما به، وهو مؤذن بسلامه عليه خصوصاً، فكأنه قال: سلام مني عليك كما تقدم، وهذا أيضاً من فوائد تنكر السلام الابتدائي للإيذان بأنه سلام مخصوص من المسلم، فلما استقر ذلك، وعلم في صدر الكتاب، كان الأحسن أن يسلم عليه سلاماً هو أعم من الأول لئلا يبقى تكراراً محضاً، بل يأتي بلفظ يجمع سلامه وسلام غيره، فيكون قد جمع له بين السلامين: الخاص منه، والعام منه ومن غيره، ولهذه الفائدة استحسنوا أن يكون قول الكاتب: وفلان يقرئك السلام، وفلان في آخر المكاتبة بعد والسلام عليك لهذا الغرض.


    الفائدة الثانية: أنه قد تقدم أن السلام المعرف اسم من أسماء الله، وقد افتتح الكاتب رسالته بذكر الله فناسب أن يختمها باسم من أسمائه وهو السلام، ليكون اسمه تعالى في أول الكتاب وآخره وهذه فائدة بديعة.
    الفائدة الثالثة: بديعة جداً، وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا، وهي أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب: والسلام عليكم ورحمة الله فيها وجهان:


    أحدهما: قول ابن قتيبة أنها عطف على السلام المبدوء به، فكأنه قال: والسلام المتقدم عليكم، والقول الثاني: إنها لعطف فصول الكتاب بعضه على بعض، فهي عطف لجملة السلام على ما قبلها من الجمل، كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول وهذا أحسن من قول ابن قتيبة لوجوه:


    منها: إن الكلام بين السلامين قد طال فعطف آخره بعد طوله على أوله قبيح غير مفهوم من السياق.
    الثاني: إنه إذا حمله على ذلك، كان السلام الثاني هو الأول بعينه فلم يفد فائدة متجددة، وفي ذلك شح بسلام متجدد، وإخلال بمقاصد المتكاتبين من تعداد الجمل والفصول، واقتضاء كل جملة لفائدة غير الفائدة المتقدمة، حتى أن قارىء الكتاب كلما قرأ جملة منه لفائدة غير الفائدة المتقدمة تطلعت نوازع قلبه إلى استفادة ما بعدها، فإذا كررت له فائدة واحدة مرتين سئمتها نفسه، فكان اللائق بهذا المقصود أن يجدد له سلاماً غير الأول يسره به كما سره بالأول وهو السلام العام الشامل.


    ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه، وختمها أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرف فقال: والسلام عليكم، أي وبعد هذا كله السلام عليكم، وقد تقدم أن السلام إذا انبنى على اسم مجرور قبله وكان سلام رد لا ابتداء فإنه يكون معرفاً نحو: وعليك السلام، ولما كان سلام المكاتب هاهنا ليس بسلام رد قدم السلام على المجرور، فقال: والسلام عليكم وأتى باللام لتفيد تجديد سلام آخر -والله أعلم-.


    وهذه فصاحة غريبة وحكمة سلفية موروثة عن سلف الأمة وعن الصحابة في مكاتباتهم. وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم صلوات الله وسلامه عليه.


    وقد فرغنا من جواب السؤال التاسع المتعلق بواو العطف.
    نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة


    وأما السؤال العاشر: وهو السر في نصب سلام ضيف إبراهيم الملائكة ورفع سلامه؟ فالجواب: أنك قد عرفت قول النحاة، فيه أن سلام الملائكة تضمن جملة فعلية، لأن نصب السلام يدل على سلمنا عليك سلاماً، وسلام إبراهيم تضمن جمل إسمية، لأن رفعه يدل على أن المعنى سلام عليكم، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والتقرر، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد، فكان سلامه عليهم أكمل من سلامهم عليه، وكان له من مقامات الرد ما يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم وهو مقام الفضل إذ حياهم بأحسن من تحيتهم هذا تقرير ما قالوه وعندي فيه جواب أحسن من هذا، وهو أنه لم يقصد حكاية سلام الملائكة فنصب قوله سلاماً انتصاب مفعول القول المفرد، كأنه قيل: قالوا قولاً سلاماً، وقالوا سداداً وصواباً.. ونحو ذلك، فإن القول إنما تحكي به الجمل، وأما المفرد فلا يكون محكياً به، بل منصوب به انتصاب المفعول به.


    ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [ الفرقان: 63 ]، ليس المراد أنهم قالوا هذا اللفظ المفرد المنصوب، وإنما معناه قالوا: قولاً سلاماً مثل: (سداداً وصواباً)، وسمي القول سلاماً، لأنه يؤدي معنى السلام ويتضمنه من رفع الوحشة وحصول الاستيناس.


    وحكي عن إبراهيم لفظ سلامه، فأتى به على لفظه مرفوعاً بالابتداء محكياً بالقول، ولولا قصد الحكاية لقال: سلاماً بالنصب، لأن ما بعد القول إذا كان مرفوعاً فعلى الحكاية ليس إلا، فحصل من الفرق بين الكلامين في حكاية سلام إبراهيم ورفعه ونصب ذلك، إشارة إلى معنى لطيف جداً، وهو أن قوله: سلام عليكم من دين الإسلام المتلقي عن إمام الحنفاء وأبي الأنبياء وأنه من ملة إبراهيم التي أمر الله بها وباتباعها، فحكى لنا قوله ليحصل الاقتداء به والاتباع له، ولم يحك قول أضيافه، وإنما أخبر به على الجملة دون التفصيل- والله أعلم- فإن هذا الجواب والذي قبله بميزان غير جائر يظهر لك أقواهما... وبالله التوفيق.
    فصل : نصب السلام ورفعه


    وأما السؤال الحادي عشر: وهو نصب السلام من قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [ الفرقان: 63 ] ورفعه في قوله حكاية عن مؤمني أهل الكتاب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [ القصص: 55 ].


    فالجواب عنه أن الله سبحانه مدح عباده الذين ذكرهم في هذه الآيات بأحسن أوصافهم وأعمالهم فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [ الفرقان: 63 ]، فسلاماً هنا صفة لمصدر محذوف هو القول نفسه، أي: قالوا: قولاً سلاماً، أي: سداداً وصواباً وسليماً من الفحش والخنا، ليس مثل قول الجاهلين الذين يخاطبونهم بالجهل، فلو رفع السلام هنا لم يكن فيه المدح المذكور، بل كان يتضمن أنهم إذا خاطبهم الجاهلون سلموا عليهم، وليس هذا معنى الآية ولا مدح فيه، وإنما المدح في الإخبار عنهم بأنهم لا يقابلون الجهل بجهل مثله، بل يقابلونه بالقول السلام، فهو من باب دفع السيئة بالتي هي أحسن التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم.


    وتفسير السلف وألفاظهم صريحة بهذا المعنى، وتأمل كيف جمعت الآية وصفهم في حركتي الأرجل والألسن بأحسنها وألطفها وأحكمها وأوقرها، فقال: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان: من الآية63]، أي: بسكينة ووقار، والهون بفتح الهاء من الشيء الهين وهو مصدر هان هوناً، أي: سهل، ومنه قولهم: يمشي على هينته، ولا أحسبها إلا مولدة، ومع هذا فهي قياس اللفظة، فإنها على بناء الحالة والهيئة فهي فعلة من الهون وأصلها هونة، فقلبت واوها ياء لانكسار ما قبلها، فاللفظة صحيحة المادة والتصريف، وأما الهون بالضم فهو الهوان فأعطوا حركة الضم القوية للمعنى الشديد وهو الهوان، وأعطوا حركة الفتح السهلة للمعنى السهل، وهو الهون، فوصف مشيهم بأنه مشي حلم ووقار وسكينة، لا مشي جهل وعنف وتبختر


    ووصف نطقهم بأن سلام فهو نطق حلم وسكينة ووقار، لا نطق جهل وفحش وخنا وغلظة، فلهذا جمع بين المشي والنطق في الآية فلا يليق بهذا المعنى الشريف العظيم الخطير أن يكون المراد منه: سلام عليكم... فتأمله.

    وأما قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [ القصص: 55 ]، فإنها وصف لطائفة من مؤمني أهل الكتاب قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فآمنوا به فعيرهم المشركون، وقالوا: قبحتم من وفد بعثكم قومكم لتعلموا خبر الرجل، ففارقتم دينكم وتبعتموه، ورغبتم عن دين قومكم فأخبر عنهم بأنهم خاطبوهم خطاب متاركة وإعراض وهجر جميل، فقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وكان رفع السلام متعيناً، لأنه حكاية ما قد وقع ونصب السلام في آية الفرقان متعيناً، لأنه تعليم وإرشاد لما هو الأكمل والأولى للمؤمن أن يعتمده إذا خاطبه الجاهل... فتأمل هذه الأسرار التي أدناها يساوي رحلة والله المحمود وحده على ما من به وأنعم:
    وهي المواهب من رب العباد فما=== يقال لولا ولا هلا ولا فلما

    فصل : تسليم الله أنبيائه ورسله


    وأما السؤال الثاني عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله على أنبيائه ورسله والسلام هو طلب ودعاء، فكيف يتصور من الله ؟ فهذا سؤال له شأن ينبغي الاعتناء به، ولا يهمل أمره وقل من يدرك سره إلا من رزقه الله فهماً خاصاً وعناية، وليس هذا من شأن أبناء الزمان الذين غاية فاضلهم نقلاً أن يحكي قيلاً وقالاً، وغاية فاضلهم بحثاً أن يبدي احتمالاً، ويبرز أشكالاً، ، وأما تحقيق العلم كما ينبغي:
    فللحروب أناس قائمون بها=== وللدواوين كتاب وحساب


    وقد كان الأولى بنا الإمساك وكف عنان القلم، وأن نجري معهم في ميدانهم ونخاطبهم بما يألفونه، وأن لا نجلو عرائس المعاني على ضرير، ولا نزف خودها إلى عنين، ولكن هذه سلعة وبضاعة لها طلاب وعروس لها خطاب فستصير إلى أهلها، وتهدى إلى بعلها ولا تستطل الخطابة، فإنها نفثة مصدور.


    فلنرجع إلى المقصود، فنقول: لا ريب أن الطلب يتضمن أموراً ثلاثة: (طالباً ومطلوباً ومطلوباً منه)، ولا تتقوم حقيقته إلا بهذه الأركان الثلاثة، وتغاير هذه ظاهر، إذا كان الطالب يطلب شيئاً من غيره، كما هو الطلب المعروف مثل من يأمر غيره وينهاه ويستفهمه، وأما إذا كان طالباً من نفسه فهنا يكون الطالب هو المطلوب منه، ولم يكن هنا إلا ركنان طالب ومطلوب والمطلوب منه هو الطالب نفسه.


    فإن قيل: كيف يعقل اتحاد الطالب والمطلوب منه، وهما حقيقتان متغايرتان فكما لا يتحد المطلوب والمطلوب منه، ولا المطلوب والطالب، فكذلك لا يتحد الطالب والمطلوب منه، فكيف يعقل طلب الإنسان من نفسه ؟ قيل: هذا هو الذي أوجب غموض المسألة وأشكالها، ولا بد من كشفه وبيانه فنقول:
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:27

    *الفرق بين الإرادة والطلب:

    الطلب من باب الإرادات، والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئاً، فكذلك يريد من نفسه هو أن يفعله، والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها، والإرادة كالجنس له، فكما يعقل أن يكون المريد يريد من نفسه، فكذلك يطلب من نفسه، وللفرق بين الطلب والإرادة وما قيل في ذلك مكان غير هذا.

    والمقصودان طلب الحي من نفسه أمر معقول يعلمه كل أحد من نفسه، وأيضاً فمن المعلوم أن الإنسان يكون آمراً لنفسه ناهياً لنفسه، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [ يوسف:53 ]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعـات:40]


    وقال الشاعر:
    لا تنه عن خلق وتأتي مثله=== عار عليك إذا فعلت عظيم
    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها=== فإذا انتهت عنه فأنت حكيم


    وهذا أكثر من إيراد شواهده فإذا كان معقولاً أن الإنسان يأمر نفسه وينهاها والأمر والنهي طلب مع أن فوقه آمراً وناهياً، فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناه أن يطلب من نفسه فعل ما يحبه وترك ما يبغضه؟ وإذا عرف هذا عرف سر سلامه تبارك وتعالى على أنبيائه ورسله، وأنه طلب من نفسه لهم السلامة، فإن لم يتسع لهذا ذهنك فسأزيدك إيضاحاً وبياناً

    وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا إيجاب منه على نفسه، فهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه.

    وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بما يوضحه كل الإيضاح، ويكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: <لما قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش أن رحمتي تغلب غضبي> وفي لفظ: <سبقت غضبي > فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة وصفة اليد ومحل الكتابة وأنه كتاب وذكر مستقر الكتاب، وأنه عنده فوق العرش. فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد وهو إيجاب منه على نفسه.


    ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [ الروم:47 ] فهذا حق أحقه على نفسه فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ الحق ولفظ (على).


    ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمعاذ: <أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم: قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار>.


    ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: <من فعل كذا وكذا كان حقاً على الله أن يفعل به كذا وكذا>، في الوعد والوعيد، فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه.


    ومنه الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك، فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه لا أنهم هم أوجبوه ولا أحقوه بل أحق على نفسه أن يجب من سأله كما أحق على نفسه في حديث معاذ. أن لا يعذب من عبده فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما لا السائلون ولا العابدون فإنه سبحانه:

    ما للعباد عليه حق واجب=== كلا ولا سعي لديه ضائع
    إن عذبوا فبعدله أو نعموا=== فبفضله وهو الكريم الواسع


    ومنه قوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: من الآية111] فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه على نفسه وأوجبه.


    ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه نحو: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ الحجر: 92 ]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [ مريم: 68 ]،
    وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [ إبراهيم: 13 ]،
    وقوله: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ ص: 84، 85 ]،
    وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [ آل عمران: 195 ]،
    وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6 ]،

    إلى أمثال ذلك مما أخبر أنه يفعله أخباراً مؤكداً بالقسم والقسم في مثل هذا يقتضي الحض والمنع بخلاف القسم على ما فعله تعالى مثل قوله: {يَس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [ يس: 1-3]، والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون، فإنه توكيد للخبر وهو من باب القسم المتضمن للتصديق.

    ولهذا تقول الفقهاء: (اليمين ما اقتضى حقاً، أو منعاً، أو تصديقاً، أو تكذيباً)، فالقسم الذي يقتضي الحض والمنع، هو من باب الطلب لأن الحض والمنع طلب، ومن هذا ما أخبر به، أنه لا بد أن يفعله لسبق كلماته به كقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [ الصافات: 171، 172، 173 ]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [ هود: 191 ]، وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [ طه: 129، فصلت: 45، الشورى: 14 ]، فهذا إخبار عما يفعله ويتركه أنه لسبق كلمته به فلا يتغير.


    ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرمه على نفسه كقوله فيما يرويه عنه رسوله: <يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً> فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، فإن الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها به يجزم ببعد المراد منها،

    كقول بعضهم: إن معنى الإيجاب والكتابة في ذلك كله هو إخباره به، ومعنى كتب ربكم على نفسه الرحمة أخبر بها عن نفسه وقوله: حرمت الظلم على نفسي أي أخبرت أنه لا يكون، ونحو ذلك مما يتيقن المرء أنه ليس هو المراد بالتحريم، بل الإخبار ههنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه، فمتعلق الخبر هو التحريم والإيجاب، ولا يجوز إلغاء متعلق الخبر فإنه يتضمن إبطال الخبر ولهذا إذا قال القائل: أوجبت على نفسي صوماً فإن متعلقه وجوب الصوم على نفسه، فإذا قيل: إن معناه أخبرت بأني أصوم كان ذلك إلغاء وإبطالاً لمقصود الخبر... فتأمله.


    وإذا كان معقولاً من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه، فالآمر الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله.

    فإن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه وكراهته، لأن يفعله تمنع وقوعه منه وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه. فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه، وكراهته منهم لا تمنع وقوعه. ففرق بين فعله هو سبحانه وبين فعل عباده الذي يقع مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله هو سبحانه، فهذا نوع وذاك نوع، فتدبر هذا الموضع الذي هو مزلة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصم الله وهداه إلى صراط مستقيم. وتأمل أين تكون محبته وكراهته موجبة لوجود الفعل، ومانعة من وقوعه وأين تكون المحبة منه والكراهة لا توجب وجود الفعل، ولا تمنع وقوعه.


    ونكتة المسألة هو الفرق بين ما يريد أن يفعله هو سبحانه وما لا يريد أن يفعله، وبين ما يحبه من عبده أن يفعله العبد، أو لا يفعله ومن حقق هذا المقام زالت عنه شبهات ارتبكت فيها طوائف من النظار والمتكلمين... والله الهادي إلى سواء السبيل.


    واعلم: أن الناس في هذا المقام ثلاث طوائف:
    فطائفة منعت أن يجب عليه شيء، أو يحرم عليه شيء بإيجابه وتحريمه. وهم كثير من مثبتي القدر الذين ردوا أقوال القدرية النفاة وقابلوهم أعظم مقابلة، نفوا لأجلها الحكم والأسباب والتعليل وأن يكون العبد فاعلاً أو مختاراً.


    الطائفة الثانية: بإزاء هؤلاء، أوجبوا على الرب وحرموا أشياء بعقولهم جعلوها شريعة له يجب عليه مراعاتها من غير أن يوجبها هو على نفسه ولا حرمها، وأوجبوا عليه من جنس ما يجب على العباد، وحرموا عليه من جنس ما يحرم عليهم، ولذلك كانوا مشبهة في الأفعال والمعتزلة منهم جمعوا بين الباطلين تعطيل صفاته، وجحد نعوت كماله، والتشبيه له بخلقه، فيما أوجبوه عليه، وحرموه فشبهوا في أفعاله، وعطلوا في صفات كماله، فجحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال، وسموه توحيداً، وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال، وسموا ذلك عدلاً، وقالوا: نحن هل العدل والتوحيد فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شتى من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى، وتحريف معانيها عما هي عليه. فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلاً وعدلهم شركاً وهذا مقرر في موضعه.


    والمقصود أن هذه الطائفة مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات، وهدى الله الأمة الوسط لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلم يقيسوه بخلقه، ولم يشبهوه بهم في شيء من صفاته ولا أفعاله، ولم ينفوا ما أثبته لنفسه من ذلك، ولم يوجبوا عليه شيئاً، ولم يحرموا عليه شيئاً، بل أخبروا عنه بما أخبر عن نفسه وشهدت قلوبهم ما في ضمن ذلك الإيجاب والتحريم من الحكم والغايات المحمودة التي يستحق عليها كمال الحمد والثناء، فإن العباد لا يحصون ثناء عليه أبدا بل هو كما أثنى على نفسه.


    وهذا بين بحمد الله عند أهل العلم والإيمان، مستقر في فطرهم ثابت في قلوبهم يشهدون انحراف المنحرفين في الطرفين وهم لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، بل هم إلى الله ورسوله متحيزون، وإلى محض سنته منتسبون يدينون دين الحق أنى توجهت ركائبه، ويستقرون معه حيث استقرت مضاربه لا تستفزهم بداوات آراء المختلفين، ولا تزلزلهم شبهات المبطلين، فهم الحكام على أرباب المقالات، والمميزون لما فيها من الحق والشبهات، يردون على كل باطله ويوافقونه فيما معه في الحق، فهم في الحق سلمه وفي الباطل حربه. لا يميلون مع طائفة على طائفة، ولا يجحدون حقها لما قالته من باطل سواه. بل هم ممتثلون قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [ المائدة: 8 ]،

    فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطىء على أن لا يعدلوا عليهم. بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله، وما جاء به منه علماً وعملاً. ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبراً من قومهم على الأذى في الله، وإقامة لحجة الله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل لا كمن نصب معالمه صادرة عن آراء الرجال، فدعا إليها وعاقب عليها وعادى من خالفها بالعصبية وحمية لجاهلية،


    والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به _وليكن هذا تمام الكلام في هذا السؤال فقد تعدينا به طوره وإن لم نقدره قدره.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:29

    فصل: التسليم بلفظ (النكرة أو المعرفة)


    وأما السؤال الثالث عشر: وهو ما السر في كونه سلم عليهم بلفظ النكرة، وشرع لعباده أن يسلموا على رسوله بلفظ المعرفة؟ وكذلك تسليمهم على نفوسهم وعلى عباده الصالحين فقد تقدم بيان الحكمة في كون السلام ابتداء بلفظ النكرة,


    ونزيد هنا فائدة أخرى: وهي أنه قد تقدم أن في دخول اللام في السلام أربعة فوائد، وهذا المقام مستغن عنها، لأن المتكلم بالسلام هو الله تعالى، فلم يقصد تبركاً بذكر الاسم كما يقصده العبد فإن التبرك استدعاء البركة واستجلابها. والعبد هو الذي يقصد ذلك، ولا قصد أيضاً تعرضاً وطلباً على ما يقصده العبد، ولا قصد العموم. وهو أيضاً غير لائق هنا، لأن سلاماً منه سبحانه كاف من كل سلام، ومغن عن كل تحية ومقرب من كل أمنية. فأدنى سلام منه ولا أدنى هناك يستغرق الوصف ويتم النعمة ويدفع البؤس ويطيب الحياة ويقطع مواد العطب والهلاك، فلم يكن لذكر الألف واللام هناك معنى.


    وتأمل قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [ التوبة: 72 ] كيف جاء بالرضوان مبتدأ منكراً مخبراً عنه بأنه أكبر من كل وعدوا به، فأيسر شيء من رضوانه أكبر الجنات، وما فيها من المساكن الطيبة وما حوته، ولهذا لما يتجلى لأوليائه في جنات عدن ويمنيهم أي شيء يريدون. فيقولون: ربنا وأي شيء نريد أفضل مما أعطيتنا. فيقول تبارك وتعالى: إن لكم عندي أفضل من ذلك أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً.


    وقد بان بهذا الفرق بين سلام الله على رسله وعباده، وبين سلام العباد عليهم، فإن سلام العباد لما كان متضمناً لفوائد الألف واللام التي تقدمت من قصد التبرك باسمه السلام والإشارة إلى طلب السلام له وسؤالها من الله باسم السلام، وقصد عموم السلام كان الأحسن في حق المسلم على الرسول. أن يقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وإن كان قد ورد سلام عليك، فالمعرفة أكثر وأصح وأتم معنى. فلا ينبغي العدول عنه ويشح في هذا المقام بالألف واللام... والله أعلم.

    فصل : تسليم الله وتسليم المسيح


    وقد عرفت بهذا جواب السؤال الرابع عشر: وهو ما الحكمة في تسليم الله تعالى على يحيى بلفظ النكرة، وتسليم المسيح على نفسه بلفظ المعرفة لا ما يقوله من لا تحصيل له ؟ أن سلام يحيى جرى مجرى ابتداء السلام في الرسالة والمكاتبة فنكر وسلام المسيح جرى مجرى السلام في آخر المكاتبة فعرف. فإن السورة كالقصة الواحدة ولا يخفى فساد هذا الفرق فإنهما سلامان متغايران من مسلمين:


    أحدهما: سلام الله تعالى على عباده. والثاني سلام العبد على نفسه. فكيف يبنى أحدهما على الآخر ؟
    وكذلك قول من قال: إن الثاني عرف لتقدم ذكره في اللفظ فكانت الألف واللام فيه للعهد وهذا أقرب من الأول لإمكان أن يكون المسيح أشار إلى السلام الذي سلمه الله على يحيى، فأراد أن لي من السلام في مثل هذه المواطن الثلاثة مثل ما حصل له.... والله أعلم.

    فصل: تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح


    وأما السؤال الخامس عشر: وهو ما الحكمة في تقييد السلام في قصتي يحيى والمسيح صلوات الله عليهما بهذه الأوقات الثلاثة ؟


    فسره -والله أعلم- أن طلب السلامة يتأكد في المواضع التي هي مظان العطب ومواطن الوحشة. وكلما كان الموضع مظنة ذلك تأكد طلب السلامة، وتعلقت بها الهمة، فذكرت هذه المواطن الثلاثة، لأن السلامة فيها آكد وطلبها أهم والنفس عليها أحرص:


    لأن العبد فيها قد انتقل من دار كان مستقراً فيها موطن النفس على صحبتها وسكناها إلى دار هو فيها معرض للآفات والمحن والبلاء، فإن الجنين من حين خرج إلى هذه الدار انتصب لبلائها وشدائدها ولأوائها ومحنها وأفكارها كما أفصح الشاعر بهذا المعنى حيث يقول:

    تأمل بكاء الطفل عند خروجه=== إلى هذه الدنيا إذا هو يولد
    تجد تحته سـراً عجيباً كأنه === بكل الذي يلقاه منها مــهدد
    وإلا فما يبكــيه منها وإنها=== لأوسـع مما كان فيه وأرغد


    ولهذا من حين خرج ابتدرته طعنه الشيطان في خاصرته فبكى لذلك، ولما حصل له من الوحشة بفراق وطنه الأول وهو الذي أدركه الأطباء والطبائعيون. وأما ما أخبر به الرسول، فليس في صناعتهم ما يدل عليه. كما ليس فيها ما ينفيه. فكان طلب السلامة في هذه المواطن من آكد الأمور.


    الموطن الثاني: خروجه من هذه الدار إلى دار البرزخ عند الموت، ونسبة الدنيا إلى تلك الدار كنسبة داره في بطن أمه إلى الدنيا تقريباً وتمثيلاً وإلا فالأمر أعظم من ذلك، وأكبر، وطلب السلامة أيضاً عند انتقاله إلى تلك الدار من أهم الأمور.


    الموطن الثالث: موطن يوم القيامة يوم يبعث الله الأحياء ولا نسبة لما قبله من الدار إليه وطلب السلامة فيه آكد من جميع ما قبله. فإن عطبه لا يستدرك وعثرته لا تقال، وسقمه لا يداوى. وفقره لا يسد. فتأمل كيف خص هذه المواطن بالسلام لشدة الحاجة إلى السلامة فيها.


    وأعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عشر معشارها، وتأمل ما في السلام مع الزيادة على السلامة من الأنس وذهاب الوحشة، ثم نزل ذلك على الوحشة الحاصلة للعبد في هذه المواطن الثلاثة عند خروجه إلى عالم الابتلاء، وعند معاينته هول المطلع. إذا قدم على الله وحيداً مجرداً عن كل مؤنس إلا ما قدمه من صالح عمل وعند موافاته القيامة مع الجمع إلا أعظم ليصير إلى إحدى الدارين التي خلق لها، واستعمل بعمل أهلها، فأي موطن أحق بطلب السلامة من هذه المواطن؟ فنسأل الله السلامة فيها بمنه وكرمه ولطفه وجوده وإحسانه.

    فصل : تسليم نبينا وتسليم موسى


    وأما السؤال السادس عشر: وهو ما الحكمة في تسليم النبي صلى الله عليه وسلم على من اتبع الهدى في كتابه إلى هرقل بلفظ النكرة وتسليم موسى عليهم بلفظ المعرفة ؟


    فالجواب عنه أن تسليم النبي صلى الله عليه وسلم تسليم ابتدائي، ولهذا صدر به الكتاب حيث قال: <من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى> ففي تنكيره ما في تنكير سلام من الحكمة، وقد تقدم بيانها.


    وأما قول موسى: السلام على من اتبع الهدى، فليس بسلام تحية فإنه لم يبتدىء به فرعون بل هو خبر محض، فإن من اتبع الهدى له السلام المطلق دون من خالفه، فإنه قال له: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [ طه: 47، 48 ].


    أفلا ترى أن هذا ليس بتحية في ابتداء الكلام ولا خاتمته. وإنما وقع متوسطاً بين الكلامين إخبار محضاً عن وقوع السلامة، وحلولها على من اتبع الهدى. ففيه استدعاء لفرعون وترغيب له بما جبلت النفوس على حبه. وإيثاره من السلامة. وإنه إن اتبع الهدى الذي جاءه به، فهو من أهل السلام... والله تعالى أعلم.
    وتأمل حسن سياق هذه الجمل، وترتيب هذا الخطاب، ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته. كيف ابتدأ الخطاب بقول: أنا رسولا ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه. بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك. وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله. كما يقول الرسول للرجل: من عند مولاه أنا رسول
    389
    مولاك إليك وأستاذك وإن كان أستاذهما معاً ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة له، ثم إنهما طلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ويخلي بينهم وبينهما، ولا يعذبهم ومن طلب من غيره ترك العدوان والظلم، وتعذيب من لا يستحق العذاب فلم يطلب منه شططاً ولم يرهقه من أمره عسراً. بل طلب منه غاية النصف.


    ثم أخبره بعد الطلب بثلاث إخبارات أحدها: قوله تعالى: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [ طه: 47 ]، فقد برئنا من عهدة نسبتك لنا إلى التقول والافتراء بما جئناك به من البرهان والدلالة الواضحة. فقد قامت الحجة. ثم بعد ذلك للمرسل إليه حالتان إما أن يسمع ويطيع فيكون من أهل الهدى والسلام على من اتبع الهدى، وإما أن يكذب ويتولى، فالعذاب على من كذب وتولى فجمعت الآية طلب الإنصاف وإقامة الحجة، وبيان ما يستحقه السامع المطيع. وما يستحقه المكذب المتولي بألطف خطاب وأليق قول وأبلغ ترغيب وترهيب.
    فصل : {قل الحمد لله وسلام على عباده}


    وأما السؤال السابع عشر: وهو أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، هل السلام من الله فيكون المأمور به الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعاً ؟
    فالجواب عنه: أن الكلام يحتمل الأمرين ويشهد لكل منهما هذا ضرب من الترجيح فيرجح كونه داخلاً في جملة القول بأمور:


    منها اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعاً على كل واحد منهما هذا هو الأصل ما لم يمنع منه مانع، ولهذا إذا قلت: الحمد الله وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول.
    ومنها أنه إذا كان معطوفاً على المقول كان عطف خبر على خبر وهو الأصل. ولو كان منقطعاً عنه كان عطفاً على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
    ومنها أن قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] ظاهر في أن المسلم هو القائل: الحمد لله ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل سلام على عبادي.


    ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور: أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى كقوله: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [ الصافات: 79 ]، {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [ الصافات: 109 ]، {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [ الصافات:120 ]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [ الصافات: 130 ].
    390
    ومنها: أن عباده الذين اصطفى هم المرسلون، والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه. وسلامه عليهم، وبين حمده لنفسه، وسلامه عليهم. أما الأول فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [ الصافات: 180، 181 ]، وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلامه على رسله.
    وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً. كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه، ثم سلم المرسلين. وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد. وأعظم ما جاءوا به التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم.


    وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد فهو الحق المحض. وما خالفه هو الباطل والكذب المحال. وهذا المعنى بعينه في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} فإنه يتضمن حمده بما من نعوت الكمال وأوصاف الجلال والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى، وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به كل باطل. فتأمل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد لكون السلام هنا من الله تعالى. كما هو في آخر الصافات.


    وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره فمنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ} [ الأنبياء: 112 ]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [ المؤمنون: 118 ]، وقوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [ الأعراف: 89 ]، ونظائره كثيرة جداً.
    وفصل الخطاب في ذلك: أن يقال: الآية تتضمن الأمرين جميعاً وتنتظمهما انتظاماً واحداً. فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه وليس فيه إلا البلاغ. والكلام كلام الرب تبارك وتعالى فهو الذي حمد نفسه وسلم على عباده. وأمر رسوله بتبليغ ذلك، فإذا قال الرسول: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه، وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء ومن المبلغ بلاغاً، ومن العباد اقتداء وطاعة، فنحن نقول كما أمرنا ربنا تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}.
    391
    ونظير هذا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [ الإخلاص: 1 ]، فهو توحيد منه لنفسه وأمر للمخاطب بتوحيده، فإذا قال العبد: {قُلْ هُوَ الله أَحَدْ} كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة: (قل) تحقيقاً لهذا المعنى. وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله.. والله أعلم. وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ النَّاسْ} [ الناس: 1 ]، فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله أعوذ برب الناس، فإن الله لا يستعيذ من أحد، وذلك عليه محال بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد، فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان.

    فصل : (عليك السلام) تحية الموتى


    وأما السؤال الثامن عشر: وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم من قال له عليك السلام عن ذلك وقال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى، فما أكثر من ذهب عن الصواب في معناه وخفي عليه مقصوده وسره. فتعسف ضروباً من التأويلات المستنكرة الباردة ورد بعضهم الحديث وقال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تحية الموتى: <السلام عليكم دار قوم مؤمنين>، قالوا: وهذا أصح من حديث النهي. وقد تضمن تقديم ذكر لفظ السلام فوجب المصير إليه.


    وتوهمت طائفة أن السنة في سلام الموتى أن يقال: عليكم السلام. فرقاً بين السلام على الأحياء والأموات وهؤلاء كلهم. إنما أتوا ما أتوه من عدم فهمهم لمقصود الحديث. فإن قوله صلى الله عليه وسلم: <عليك السلام تحية الموتى> ليس تشريعاً منه وإخباراً عن أمر شرعي. وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراء والناس. فإنهم كانوا يقدمون إسم الميت على الدعاء كما قال قائلهم:
    عليك سلام الله قيس بن عاصم=== ورحمته ما شاء أن يترحما
    وقول الذي رثى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
    392
    عليك سلام من أمير وباركت=== يد الله في ذاك الأديم الممزق


    وهذا أكثر في أشعارهم من أن نذكره هاهنا، والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلاً عن كونه سنة، بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدل على عدم مشروعيته.


    *السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه:


    وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء وعلى الأموات فكما لا يقال في السلام على الأحياء: عليكم السلام، فكذلك لا يقال في سلام الأموات كما دلت السنة الصحيحة على الأمرين، وكأن الذي تخيله القوم من الفرق، أن المسلم على غيره لما كان يتوقع الجواب، وأن يقال له: وعليك السلام بدءوا باسم السلام على المدعو له توقعاً لقوله وعليك السلام، وأما الميت فما لم يتوقعوا منه ذلك قدموا المدعو له على الدعاء، فقالوا عليك السلام.


    وهذا الفرق لو صح كان دليلاً على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام، فإن المسلم على أخيه الميت يتوقع الجواب أيضاً.


    قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: <ما من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام>، وبالجملة.. فهذا الخيال قد أبطلته السنة الصحيحة.
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:32

    *تشريع السلام على الأحياء والأموات:


    وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها، وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم، لأنه دعاء بخير، والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له، كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت} [ هود: 73 ]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [ الصافات: 109 ]، {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ} [ الصافات: 79 ]، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [ الصافات: 130 ]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [ الرعد: 24 ]،


    393
    وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه على المدعو به غالباً كقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} [ ص: 78 ]، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة} [ الحجر: 35 ]، وقوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [ التوبة: 98 ]، وقوله:{وَعَلَيْهِمْ غَضَب} [الشورى: من الآية16] وسر ذلك -والله أعلم- أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس، وتطلبه ويلذ للسمع لفظه، فيبدأ السمع بذكر الاسم المحبوب المطلوب، ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع، فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا، وعلى من يحل، فيأتي باسمه فيقول: عليك أو لك، فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم، الذي هو المقصود بالسلام.


    وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء، وأنه عليه وحده، كأنه قيل له: هذا عليك وحدك لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير، فإن المطلوب عمومه، وكل ما عم به الداعي كان أفضل.


    وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء في الأرض.


    وذكر في ذلك حديثاً مرفوعاً عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو يدعو فقال: <يا علي فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض>، وفيه فائدة ثانية أيضاً: وهي أنه في الدعاء عليه إذا قال له: عليك، انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغاً متشوفاً لمعرفته فكان أبلغ في نكايته، ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [ الزمر: 71 ]، ففاجأهم وبغتهم عذابها، وما أعد الله فيها فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر، إلا أنه متوقع منه شراً عظيماً ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه، وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق، حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه، ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه.


    وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة، وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحاً، فلا يلحق ألم الانتظار فقال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [ الزمر: 73 ]، وحذف الجواب تفخيماً لأمره وتعظيماً لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد.


    394
    وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو، ومن دعوى كونها واو الثمانية، لأن أبواب الجنة ثمانية، فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحداً بعد واحد، فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو، وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها... فتأمله.


    على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في (الفتح المكي) وبينا المواضع التي ادعى فيها أن الواو للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك؟ وأين يستحيل؟


    فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق صلى الله عليه وسلم يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقاً حتى يستفتحه.


    قلنا: هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق، أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه، فلو جاءها وصادفها مفتوحة فدخلها هو وأهلها لم يعلم الداخلون أن فتحها كان على يديه وأنه هو الذي استفتحها لهم.


    ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة، أو حصن وعجزوا، ولم يمكنهم فتحه حتى جاء رجل ففتحه لهم أحوج ما كانوا إلى فتحه كان في ذلك من ظهور سيادته، عليهم وفضله وشرفه ما لا يعلم لو جاء هو وهم فوجدوه مفتوحاً، وقد خرجنا عن المقصود وما أبعدنا، ولا تستطل هذه النكت، فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق... والله المان بفضله وكرمه.

    فصل: إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم


    وأما السؤال التاسع عشر: وهو دخول الواو في قوله صلى الله عليه وسلم: <إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم>، فقد استشكلها كثير من الناس، كما ذكر في السؤال وقالوا: الصواب حذفها، وأن يقال: عليكم، قال الخطابي: يرويه عامة المحدثين بالواو، و ابن عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب.
    395


    وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوا بعينه مردوداً عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين. قلت: معنى ما أشار إليه الخطابي: إن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة، وزيادة الثانية عليها، كما إذا قلت: (زيد كاتب) فقال المخاطب : (وشاعر) فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر، وكذلك إذا قلت لرجل: (فلان محب لك) فقال: (ومحسن إلي).


    *عدة أصحاب الكهف:


    ومن هنا استنبط السهيلي في (الروض) أن عدة أصحاب الكهف سبعة، قال: لأن الله تعالى عطف عليهم الكلب بحرف الواو فقال: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُم} (الكهف: من الآية22) ولم يذكر الواو فيما قبل ذلك من كلامهم، والواو تقتضي تقرير الجملة الأولى وما استنبطه حسن غير أنه إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلاً في جملة قولهم بل يكون قد حكى سبحانه أنهم قالوا: سبعة، ثم أخبر تعالى أن ثامنهم الكلب فحينئذ يكون ذلك تقريراً لما قالوه وإخباراً يكون الكلب ثامناً، وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملة قولهم، وأنهم قالوا: هذا وهذا لم يظهر ما قاله، ولا تقتضي الواو في ذلك تقريراً ولا تصديقاً.. فتأمله.
    وأما قوله: المحدثون يروونه بالواو فهذا الحديث رواه عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: <إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم>، قال أبو داود: وكذلك رواه مالك عن عبدالله بن دينار ورواه الثوري عن عبد الله بن دينار وقال فيه: وعليكم... انتهى كلامه، وأخرجه الترمذي و النسائي كذلك... ورواه مسلم وفي بعض طرقه فقل: عليك ولم يذكر الواو.


    وحديث مالك الذي ذكره أبو داود وأخرجه البخاري في صحيحه، وحديث سفيان الثوري متفق عليه كلها بالواو.


    وأما ما أشار إليه الخطابي من حديث ابن عيينة فرواه النسائي في سننه بإسقاط الواو.
    396
    وإذا عرف هذا فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذوراً البتة، وذلك لأن التحية التي يحيون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه، لأن (السام) معناه الموت، فإذا حيوا به المسلم فرده عليهم كان من باب القصاص والعدل وكان مضمون رده أنا لسنا نموت دونكم، بل وأنتم أيضاً تموتون، فما تمنيتموه لنا حال بكم واقع عليكم.


    وأحسن من هذا أن يقال: ليس في دخول الواو تقرير لمضمون تحيتهم، بل فيه ردها وتقريرها لهم أي ونحن أيضاً ندعو عليكم بما دعوتم به علينا، فإن دعاءهم قد وقع، فإذا رد عليهم المجيب بقوله: وعليكم، كان في إدخال الواو سر لطيف وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا، ودعوتم به هو بعينه مردود عليكم لا تحية غيره، فإدخال الواو مفيد لهذه الفائدة الجليلة.


    وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال: غفر الله لك، فقال له: ولكن المعنى أن هذه الدعوة بعينها مني لك. ولو قلت: غفر الله لك، فقال: لك لم يكن فيه إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه فتأمله فإنه بديع جداً، وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في الصحيح والسنن.


    فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة فمن وجد شيئاً فليلحقه بالهامش، فيشكر الله له وعباده سعيه. فإن المقصود الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل. وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب (تهذيب السنن).

    فصل: اقتران الرحمة والبركة بالسلام


    وأما السؤال العشرون: وهو ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام ؟
    فالجواب عنه: أن يقال لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء: أحدها: سلامته من الشر، ومن كل ما يضاد حياته وعيشه. والثاني: حصول الخير له. والثالث: دوامه وثباته له، فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعه بالحياة.


    شرعت التحية متضمنة للثلاثة، فقوله: سلام عليكم يتضمن السلامة من الشر وقوله: ورحمة الله يتضمن حصول الخير. وقوله: وبركاته يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة وهو كثرة الخير واستمراره.


    ومن هنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور باسمه الرحيم في عامة القرآن.
    397
    ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد، بل هي متضمنة لكل مطالبه وكل المطالب دونها، ووسائل إليها، وأسباب لتحصيلها جاء لفظ التحية دالاً عليها بالمطابقة تارة وهو كمالها، وتارة دالاً عليها بالتضمن، وتارة دالاً عليها باللزوم فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذكرت بلفظها، ودلالته بالتضمن إذا ذكر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث، ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على السلام وحده، فإنه يستلزم حصول الخير وثباته إذ لو عدم لم تحصل السلامة المطلقة. فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره.
    وقد عرف بهذا فضل هذه التحية وكمالها على سائر تحيات الأمم ولهذا اختارها الله لعباده وجعلها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام.


    وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله فإذا كان هذا في فرع من فروع الإسلام، وهو التحية التي يعرفها الخاص والعام فما ظنك بسائر محاسن الإسلام وجلالته وعظمته وبهجته التي شهدت بها العقول والفطر، حتى أنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكمال دينه وفضله وشرفه على جميع الأديان، وأن معجزته في نفس دعوته فلو اقتصر عليها كانت آية وبرهاناً على صدقه وأنه لا يحتاج معها إلى خارق، ولا آية منفصلة، بل دينه وشريعته ودعوته وسيرته من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته حتى أن إيمانهم به، إنما هو مستند إلى ذلك. والآيات في حقهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة.


    ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة يرقص القلب فيها طرباً ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها.


    وعسى الله أن يأتي بالفتح، أو أمر من عنده فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته، وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها.


    وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة، ولم يحسن إليهم إحساناً أعظم من إحسانه إليهم، بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [ آل عمران: 164 ]، وقوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [ الحجرات: 17 ]، فهي محض الإحسان إليهم والرأفة بهم، وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة، لا أنها محض التكليف والامتحان
    398
    الخالي عن العواقب الحميدة التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة فهي لغاياتها المجربة المطلوبة بمنزلة الأكل للشبع والشرب للري، والجماع لطلب الولد، وغير ذلك من الأسباب التي ربطت بها مسبباتها بمقتضى الحكمة والعزة، فلذلك نصب هذا الصراط المستقيم وسيلة وطريقاً إلى الفوز الأكبر والسعادة، ولا سبيل إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق، كما لا سبيل إلى دخول الجنة إلا بالعبور على الصراط.


    فالشريعة هي حياة القلوب، وبهجة النفوس ولذة الأرواح، والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلاً عن أن يكون هو المقصود لا سواه. فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من الفكر في مصادرها ومواردها يفتح لك باباً واسعاً من العلم والإيمان. فتكون من الراسخين في العلم لا من الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.


    وكما أنها آية شاهدة له على ما وصف به نفسه من صفات الكمال، فهي آية شاهدة لرسوله بأنه رسوله حقاً، وأنه أعرف الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقواهم إلى الله وسيلة، وأنه لم يؤت عبد مثل ما أوتي، فوا لهفاه على مساعد على سلوك هذه الطريق، واستفتاح هذا الباب والإفضاء إلى ما وراءه ولو بشطر كلمة، بل: وا لهفاه على من لا يتصدى لقطع الطريق والصد عن هذا المطلب العظيم، ويدع المطي وحاديها، ويعطي القوس باريها.


    ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد وكثر المعارض والمعاند، وإذا كان الاعتماد على مجرد مواهب الله وفضله يغنيه ما يتحمله المتحمل من أجله، فلا يثنك شنآن من صد عن السبيل وصدف، ولا تنقطع مع من عجز عن مواصلة السير ووقف، فإنما هي مهجة واحدة فانظر فيما تجعل تلفها وعلى من تحتسب خلفها:

    أنت القتيل بكل من أحببته=== فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي


    وأنفق أنفاسك فيما شئت فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك وصائرة لا سواها إليك وبين العبد وبين السعادة والفلاح صبر ساعة لله وتحمل ملامة في سبيل الله:

    وما هي إلا ساعة ثم تنقضي=== ويذهب هذا كله ويزول

    وقد أطلنا ولكن ما أمللنا، فإن قلباً فيه أدنى حياة يهتز إذا ذكر الله ورسوله، ويود أن لو كان المتكلم كله ألسنة تالية، والسامع كله آذاناً واعية، ومن لم يجد قلبه، ثم فليشتغل بما يناسبه فكل ميسر لما خلق له و(كل يعمل على مشاكلته).

    وكل امرىء يهفو إلى من يحبه=== وكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه
    399
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:36

    فصل: لماذا كانت نهاية (السلام) عند قوله: { وبركاته}


    وقد عرفت بهذا جواب السؤال الحادي والعشرون، وأن كمال التحية عند ذكر البركات إذ قد استوعبت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشر، وحصول الخير وثباته وكثرته ودوامه. فلا معنى للزيادة عليها ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلام إلي وبركاته.

    فصل : إضافة الرحمة لله وتجريد السلام عن الإضافة


    وأما السؤال الثاني والعشرون: وهو ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن الإضافة ؟


    فجوابه: أن السلام لما كان اسماً من أسماء الله تعالى استغنى بذكره مطلقاً عن الإضافة إلى المسمى، وأما الرحمة والبركة فلو لم يضافا إلى الله لم يعلم رحمة من، ولا بركة من تطلب.


    فلو قيل: عليكم ورحمة وبركة، لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطلب الرحمة والبركة منه. فقيل: رحمة الله وبركاته.


    وجواب ثان: أن السلام يراد به قول المسلم: سلام عليكم، وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويراد به حقيقة السلامة المطلوبة من السلام سبحانه وتعالى، وهذا يضاف إلى الله فيضاف هذا المصدر إلى الطالب الذاكر تارة، وإلى المطلوب منه تارة، فأطلق ولم يضف.


    وأما الرحمة والبركة فلا يضافان إلا إلى الله وحده، ولهذا لا يقال: رحمتي وبركتي عليكم، ويقال: سلام مني عليكم وسلام من فلان على فلان.


    وسر ذلك: أن لفظ السلام اسم للجملة القولية، بخلاف الرحمة والبركة، فإنهما اسمان لمعناهما دون لفظهما... فتأمله فإنه بديع.


    وجواب ثالث: وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرد السلامة، فإن السلامة تبعيد عن الشر، وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية، وهذا أكمل فإنه هو المقصود لذاته والأول وسيلة إليه، ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنة من النعيم أكمل من مجرد سلامتهم من النار، فأضيف إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظاً،
    400
    وأطلق الآخر وفهمت إضافة إليه من العطف وقرينة الحال، فجاء اللفظ على أتم نظام وأحسن سياق.

    فصل: الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة


    وأما السؤال الثالث والعشرون: وهو ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة ؟ فجوابه: إن السلام إما مصدر محض فهو شيء واحد فلا معنى لجمعه، وإما اسم من أسماء الله، فيستحيل أيضاً جمعه، فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه.


    وأما الرحمة فمصدر أيضاً بمعنى العطف والحنان فلا تجمع أيضاً والتاء فيها بمنزلتها في الخلة والمحبة، والرقة ليست للتحديد بمنزلتها في ضربة وتمرة. فكما لا يقال: رقات ولا خلات ولا رأفات، لا يقال: رحمات وهنا دخول الجمع يشعر بالتحديد والتقييد بعدد وإفراده يشعر بالمسمى مطلقاً من غير تحديد، فالإفراد هنا أكمل وأكثر معنى من الجمع، وهذا بديع جداً أن يكون مدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع.


    ولهذا كان قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [ الأنعام: 149 ]، أعم وأتم معنى من أن يقال: فلله الحجج البوالغ وكان قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [ إبراهيم: 34 ]. أتم معنى من أن يقال: وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَة} [ البقرة: 201 ]، أتم معنى من أن يقال: حسنات. وكذا قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [ آل عمران: 171 ]، ونظائره كثيرة جداً، وسنذكر سر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.


    وأما البركة فإنها لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئاً بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر، فهو خير مستمر بتعاقب الأفراد على الدوام شيئاً بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن، كذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُم} [ هود: 73 ]، فأفرد الرحمة وجمع البركة، وكذلك في السلام في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
    401

    فصل: الرحمة المضافة إلى الله


    واعلم أن الرحمة والبركة المضافتين إلى الله تعالى نوعان:


    أحدهما: مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله، والثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فمن الأول قوله في الحديث الصحيح: <احتجت الجنة والنار>، فذكر الحديث وفيه: <فقال للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء> فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة وإنما يدخلها الرحماء.
    ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: <خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض>، ومنه قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}[هود: 9 ]، ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [ الفرقان: 48 ]،


    وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديماً وحديثاً وهو قول الداعي: اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك، وذكره البخاري في كتاب (الأدب المفرد) له عن بعض السلف وحكى فيه الكراهة. قال: إن مستقر رحمته ذاته وهذا بناء على أن الرحمة صفة، وليس مراد الداعي ذلك، بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة، ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جداً وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك، فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال: {حسنت مستقراً ومقاماً}، فكيف يضاف المستقر إليها؟

    والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة... فتأمله.

    ولهذا قال: مستقر رحمته ذاته، والصواب أن هذا لا يمتنع وحتى لو قال صريحاً: اجمعنا في مستقر جنتك لم يمتنع وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة، أو عذاباً، فإن أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر.


    ونظير هذا أن يقول: اجلس في مستقر المسجد، أي المستقر الذي هو المسجد، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة وأيضاً فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة، فالداعي أن يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جداً، فلا يمتنع الدعاء بوجه... والله أعلم.


    وهذا بخلاف قول الداعي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، فإن الرحمة هنا صفته تبارك وتعالى وهي متعلق الاستغاثة. فإنه لا يستغاث بمخلوق ولهذا كان هذا الدعاء من أدعية الكرب لما تضمنه من التوحيد والاستغاثة برحمة أرحم الراحمين متوسلاً إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما مرجع معانيها جميعها، وهو اسم الحي القيوم، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفي كمال الحياة، وبهذا الطريق العقلي أثبت متكلموا أهل الإثبات له تعالى صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال.


    وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته وعزته. فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة.


    فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإنالة الطلبات، والمقصود إن الرحمة المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته، كما أن المستعيذ بعزته في قوله: أعوذ بعزتك، مستعيذ بعزته التي هي صفته لا بعزته التي خلقها يعز بها عباده المؤمنين.


    403
    وهذا كله يقرر قول أهل السنة إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: <أعوذ بكلمات الله التامات> يدل على أن كلماته تبارك وتعالى غير مخلوقة، فإنه لا يستعاذ بمخلوق، وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [ غافر: 7 ] فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [ الأعراف: 156 ]، وسعتها عموم تعلقها بكل شيء كما أن سعة علمه تعالى عموم تعلقه بكل معلوم.

    فصل: البركة المضافة لله


    وأما البركة فكذلك نوعان أيضاً:
    أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركاً بجعله تعالى.
    والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [ مريم: 31 ]، فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك.


    404
    وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ الأعراف: 54]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [ الملك: 1 ]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ المؤمنون: 14 ]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [ الزخرف: 85 ]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [ الفرقان: 1 ]، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [ الفرقان: 10 ]، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [ الفرقان: 61 ].


    أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه، غير مختصة به لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، ك تعالى وتعاظم... ونحوهما، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها... وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك وتعاظم.


    وقال آخر: معناه أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه. وقال غيره: كثر خيره وإحسانه إلى خلقه، وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم، وقيل: تزايد عن كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل: معناه تعالى وتعاظم، وقيل: تبارك تقدس، والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء، وقيل: تبارك ارتفع والمبارك: المرتفع. ذكره البغوي. وقيل: تبارك، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره.

    وقال ابن عباس: جاء بكل بركة، وقيل: معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال. ذكره البغوي أيضاً. وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه، ولا أحد أحق بذلك وصفاً وفعلاً منه تبارك وتعالى.
    وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل، فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم.


    ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عالياً ولا قدوساً ولا عظيماً هذا مما يحتمله اللفظ بوجه وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالي المتقدس، فكذلك تبارك، لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر لفظاً ومعنى، هذا لازم وهذا متعد، فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره، لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركاً فتبارك من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس. فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين فقال: مجيء البركة كلها من عنده، أو البركة كلها من قبله، وهذا فرع على تبارك في نفسه.


    405
    وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب (الفتح المكي)، وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك، ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك، ولهذا كان كتابه مباركاً ورسوله مباركاً وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة، فليلة القدر مباركة، وما حول المسجد الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة، وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة: <اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام>، فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء، أعني: ثناء التنزيه والتسبيح، وثناء الحمد والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزه، وأتمه معنى، فأخبر أنه السلام ومنه السلام، فالسلام له وصفاً وملكاً، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسماءه كلها سلام، وكذا الحمد كله له وصفاً وملكاً فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محموداً، فيهبه حمداً من عنده، وكذلك العزة كلها له وصفاً وملكاً وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له.


    وكذلك الرحمة كلها له وصفاً وملكاً.


    وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه، وعليه فيصير بذلك مباركا:ً {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا بساط وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه.


    وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله، وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاهاً: <لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك>.


    وقال في حديث الشفاعة الطويل: <فأخرساجداً لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن>.

    وفي دعاء الهم والغم: <أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به علم الغيب عندك>، فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل.


    وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه وبالله التوفيق.

    فصل : السلام على النبي دون الصلاة عليه


    وأما السؤال الرابع والعشرون: وهو ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}؟


    407
    فجوابه أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام وإن اختلفت جهة التأكيد فإنه سبحانه أخبر في أول الآية بصلاته عليه وصلاة ملائكته عليه مؤكداً لهذا الإخبار بحرف (إن) مخبراً عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه وهذا يفيد العموم والاستغراق.


    فإذا استشعرت النفوس أن شأنه صلى الله عليه وسلم عند الله وعند ملائكته هذا الشأن بادرت إلى الصلاة عليه، وإن لم تؤمر بها، بل يكفي تنبيهها والإشارة إليها بأدنى إشارة، وإذا أمرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر بل إذا جاء مطلق الآمر بادرت وسارعت إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر.


    ولما خلا السلام عن هذا المعنى، وجاء في حيز الأمر المجرد دون الخبر، حسن تأكيده بالمصدر ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته، ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره كما حصل التكرير في الصلاة خبراً أو طلباً، فكذلك حصل التكرير في السلامة فعلاً ومصدراً فتأمله فإنه بديع جداً.. والله أعلم.


    وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب (تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام) وأتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره ولله الحمد فلنقتصر على هذه النكتة الواحدة.

    فصل: تقديم السلام على النبي في الصلاة قبل الصلاة عليه


    وأما السؤال الخامس والعشرون: وهو ما الحكمة في تقديم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قبل الصلاة عليه ؟ وهلا وقعت البداءة بما بدأ الله به في الآية؟


    فهذا سؤال أيضاً له شأن لا ينبغي الإضراب عنه صفحاً وتمشية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان شديد التحري لتقديم ما قدمه الله والبداءة بما بدأ به؟

    فلهذا بدا بالصفا في السعي. وقال: <نبدأ بما بدا الله به>.


    408
    وبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس في الوضوء، ولم يخل بذلك مرة واحدة، بل كان هذا وضوءه إلى أن فارق الدنيا، لم يقدم منه مؤخراً ولم يخل منه مقدماً قط، ولا يقدر أحد أن ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ومع هذا فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة، وذلك لسر من أسرار الصلاة نشير إليه بحسب الحال إشارة، وهو أن الصلاة قد اشتملت على عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب، فلكل عضو منها نصيب من العبودية فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله وذلاً له وخضوعاً، فلما أكمل المصلي هذه العبودية وانتهت حركاته ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمته عز وجل، كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده، وكان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعاً وتذللاً فأذن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات.


    وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم، وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم والله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه. فجمع العبد في قوله: التحيات والصلوات والطيبات أنواع الثناء على الله، وأخبر أن ذلك له وصفاً وملكاً، وكذلك الصلوات كلها لله فهو الذي يصلي له وحده لا لغيره، وكذلك الطيبات كلها من الكلمات والأفعال كلها له فكلماته طيبات وأفعاله كذلك وهو طيب لا يصعد إليه إلا طيب والكلم الطيب إليه يصعد. فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه له ملكاً ووصفاً، ومنه مجيئها وابتداؤها. وإليه مصعدها ومنتهاها والصلاة مشتملة على عمل صالح وكلم طيب، والكلم الطيب إليه يصعد، والعمل الصالح يرفعه. فناسب ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقت رفعها إلى الله تعالى.
    409
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    أبو محمد عبدالحميد الأثري
    المدير العام .. وفقه الله تعالى


    ذكر عدد الرسائل : 3581
    البلد : مصر السنية
    العمل : طالب علم
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 25/04/2008

    الملفات الصوتية رد: من "بدائع الفوائد" للعلامة شمس الدين ابن القيم - رحمه الله تعالى .

    مُساهمة من طرف أبو محمد عبدالحميد الأثري 22.04.09 9:37

    *سر السلام على النبي:


    فلما أتى بهذا الثناء على الرب تعالى التفت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخير على يديه. فسلم عليه أتم سلام معرف باللام التي للاستغراق مقروناً بالرحمة والبركة. هذا هو أصح شيء في السلام عليه فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام.

    ثم انتقل إلى السلام على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين وبدأ بنفسه، لأنها أهم، والإنسان يبدأ بنفسه، ثم بمن يعول، ثم ختم هذا المقام يعقد الإسلام وهو التشهد بشهادة الحق التي هي أول الأمر وآخره. وعندها كل الثناء والتشهد، ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب.

    فالتشهد يجمع نوعي الدعاء. دعاء الثناء والخير، ودعاء الطلب والمسألة والأول أشرف النوعين، لأنه حق الرب ووصفه، والثاني حظ العبد ومصلحته وفي الأثر <من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين>.

    لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيها النوعين. وقدم الأول منهما لفضله، ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو دعاء الطلب والمسألة.. فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه له وهو طلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، كما ذكرنا في كتاب: تعظيم شأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفيه أيضاً أن الداعي جعله مقدمة بين يدي حاجته وطلبه لنفسه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله: <ثم لينتخب من الدعاء أعجبه إليه>، وكذلك في حديث فضالة بن عبيد إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع).
    فتأمل كيف جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقاً لهذا منتظماً له أحسن النظام، فحديث فضالة هذا هو الذي كشف لنا المعنى وأوضحه وبينه فصلوات الله وسلامه على من أكمل به لنا دينه، وأتم برسالته علينا نعمته، وجعله رحمة للعالمين وحسرة على الكافرين.

    410
    فصل: السلام بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة


    وأما السؤال السادس والعشرون: وهو ما الحكمة في كون السلام وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة ؟

    فجوابه يظهر مما تقدم، فإن الصلاة عليه طلب وسؤال من الله أن يصلي عليه فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة إذ لا يقال: اللهم صل عليك وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلاً له منزلة المواجه لحكمة بديعة جداً وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه وأولى به منها وأقرب وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجوداً في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه كما قال القائل:

    مثالك في عيني وذكرك في فمي=== ومثواك في قلبي فأين تغيب


    ومن كان بهذه الحال فهو الحاضر حقاً، وغيره وإن كان حاضراً للعيان فهو غائب عن الجنان. فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة تزيلاً له منزلة المواجه المعاين لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه كما قيل:
    * لو شق عن قلبي يرى وسطه ذكرك *

    والتوحيد في سطر: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه، حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور، والمشاهدة مع غاية البعد العياني لكمال القرب الروحي، فلم يمنعهم بعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها ومن كثفت طباعه فهو عن هذا كله بمعزل، وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها، كما قيل:

    يا مقيماً مدى الزمـــان بقلبي=== وبعيداً عن ناظري وعياني
    أنت روحي إن كنت لست أراها=== فهي أدنى إلي من كل داني


    وقال آخر:

    يا ثاوياً بين الجوانح والحشا=== مني وإن بعدت علي دياره
    411


    وإنه ليلطف شأن المحبة حتى يرى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه ولي من أبيات تلم بذلك:

    وادني إلى الصب من نفسه=== وإن كان عن عينه نائيا
    ومن كان مع حبه هكـذا=== فأنى يكون له ساليا


    ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها، حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه، فلا يشعر إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه، ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز، فحكم صاحبها فيها الحال على العلم وجعل الحكم له وعزل علمه من البين، وحكم المحفوظون فيها حاكم العلم على سلطان الحال، وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكماً عليه، فإنه لا ينبغي أن يغتر به، ولا يسكن إليه إلا كما يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمل من القوم، الذين جمعوا بين نور العلم، وأحوال المعاملة، فلم تطفئ عواصف أحوالهم نور علمهم، ولم يقصر بهم علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء حكام على الطائفتين.

    ومن عداهم فمحجوب يعلم لا نفوذ له فيه، أو مغرور بحال لا علم له بصحيحه من فاسده والله المسؤول من فضله إنه قريب مجيب، فالكامل من يحكم العلم على الحال فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد لا من يقدح في العلم بالحال، ويجعل الحال معياراً عليه وميزاناً، فما وافق حاله من العلم قبله وما خالفه رده ونفاه، فهذا أضل الضلال في هذا الباب، بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه، وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم وحرضوا على العلم أعظم تحريض لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: من الآية213).
    412

    فصل: الثناء على الله في التشهد


    وأما السؤال السابع والعشرون: وهو ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغيبة مع كونه سبحانه هو المخاطب الذي يناجيه العبد والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب مع كونه غائباً؟

    فجوابه: أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافاً إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ [ الفاتحة ]، وقوله في الركوع: سبحان ربي العظيم وفي السجود: سبحان ربي الأعلى.

    وفي هذا من السر أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال ونعوت الجلال فأتى بالاسم الظاهر الدل على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك، ولهذا إذا كان ولابد من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالاسم الظاهر مقروناً بميم الجمع الدالة على جمع الأسماء والصفات نحو قوله في رفع رأسه من الركوع: (اللهم ربنا لك الحمد)، وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى. فتأمله فإنه لطيف المنزع جداً.

    وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة: (اللهم) كما في سيد الاستغفار: <اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك>... الحديث. وجاء الدعاء المجرد مصدراً بلفظ الرب نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [ آل عمران ]، وقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [ الأعراف: 23 ]، وقول موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [ القصص: 16 ]، وقول نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [ هود: 47 ]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: <رب اغفر لي رب اغفر لي>.

    وسر ذلك أن الله تعالى يسأل بربوبيته المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره ويثنى عليه بإلاهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك.

    فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد، يجيء إلا مصدراً باسم الرب.

    وأما الثناء فحيث وقع فمصدر بالأسماء الحسنى وأعظم ما يصدر به اسم الله جل جلاله نحو: {الْحَمْدُ لله} حيث جاء، ونحو: {فَسُبْحَانَ الله } وجاء {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} ونحوه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض} [ الحشر: 1، الصف: 1 ] حيث وقعت ونحو {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [ الأعراف: 54 ]، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ المؤمنون: 14 ]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [ الفرقان: 1 ]....ونظائره.

    وجاء في دعاء المسيح: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} [ المائدة: 114 ]، فذكر الأمرين ولم يجىء في القرآن سواه ولا رأيت أحداً تعرض لهذا ولا نبه عليه.
    وتحته سر عجيب دال على كمال معرفة المسيح بربه وتعظيمه له، فإن هذا السؤال كان عقيب سؤال قومه له: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} [ المائدة: 112 ]، فخوفهم بالله وأعلمهم أن هذا مما لا يليق أن يسأل عنه، وأن الإيمان يرده، فلما ألحوا في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يجابوا إلى ما سألوا بدأ في السؤال باسم ( اللهم ) الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المثنى الحامد الذاكر لأسماء ربه، المثنى عليه بها. وأن المقصود من هذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يثنى على الرب بذلك ويمجده به ويذكر آلاءه، ويظهر شواهد قدرته وربوبيته، ويكون برهاناً على صدق رسوله فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يحسن معه الطلب ويكون كالعذر فيه فأتى بالاسمين اسم الله الذي يثنى عليه به، واسم الرب الذي يدعي ويسأل به لما كان المقام مقام الأمرين.

    فتأمل هذا السر العجيب، ولا ينب عنه فهمك فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه.. وله الحمد. وأما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب فقد ذكرنا سره في الوجه الذي قبل هذا.. فالعهد به قريب.

    فصل : السلام في آخر الصلاة وتعريفه


    وأما السؤال الثامن والعشرون: فقد تضمن سؤالين: أحدهما: ما السر في كون السلام في آخر الصلاة ؟ والثاني لم كان معرفاً ؟

    والجواب: أما اختتام الصلاة به فإنه قد جعل الله لكل عبادة تحليلاً منها، فالتحليل من الحج بالرمي وما بعده، وكذلك التحلل من الصوم بالفطر بعد الغروب، فجعل السلام تحليلاً من الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: <تحريمها التكبير وتحليلها التسليم>، تحريمها هنا هو بابها الذي يدخل منه إليها، وتحليلها بابها الذي يخرج به منها.

    فجعل التكبير باب الدخول، والتسليم باب الخروج لحكمة بديعة بالغة يفهمها من عقل عن الله وألزم نفسه بتأمل محاسن هذا الدين العظيم، وسافر فكره في استخراج حكمه وأسراره وبدائعه، وتغرب عن عالم العادة والألف، فلم يقنع بمجرد الأشباح، حتى يعلم ما يقوم بها من الأرواح، فإن الله لم يشرع شيئاً سدى، ولا خلواً من حكمة بالغة، بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحكم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على ما وراءه، فيسجد القلب خضوعاً وإذعاناً.

    فنقول: -وبالله التوفيق- لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل، وقطع جميل العلائق وتطهر، وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله ومناجاته. شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال. فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول الله أكبر. فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور ب(من) ما لا يوجد في غيره، ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه، ولا يؤدي معناه، ولا تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث.

    فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه. والمقصود به باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه. فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيي منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره، فلا يكون موفياً لمعنى (الله أكبر)، ولا مؤديا لحق هذا اللفظ، ولا أتى الببت من بابه، بل الباب عنه مسدود.

    وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه. وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى، فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة، وكشف الحجاب لعين القلب، فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية، وقد تبعث قلبك في كل واد، فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك، فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه، فتدخل في الصلاة بغير قلب.

    والمقصود: أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه: (الله أكبر) وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة، ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها. فلو قضى حق ( الله أكبر )، وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات، فهذا الباب الذي يدخل منه المصلي وهو التحريم.

    وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى، فيكون مفتتحاً لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتماً لها باسمه فيكون ذاكراً لاسم ربه أول الصلاة وآخرها، فأولها باسمه، وآخرها باسمه، فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه مع ما في اسم السلام من الخاصية، والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله، فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره، بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن، وتعرضت له من كل جانب وجاءه الشيطان بمصائده وجنده، فهو متعرض لأنواع البلايا والمحن، فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوباً بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى. وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.

    فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره، لكان كافياً، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان.. والحمد في ذلك لله وحده، فكما أن المنعم به هو الله وحده. فالمحمود عليه هو الله وحده.

    وقد عرف بهذا جواب السؤال الثاني وهو مجيء السلام هنا معرفاً ليكون دالاً على اسمه السلام. ولكن هذا آخر الكلام في مسألة: (سلام عليكم) فلولا قصد الاختصار لجاءت مجلداً ضخماً، هذا ولم نتعرض فيها إلى المسائل المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله، فإنها مملوءة منها فمن أرادها، فليأخذها من هناك..

    والحمد لله رب العالمين.


    والنقل
    لطفــــــاً .. من هنــــــــــا

      الوقت/التاريخ الآن هو 19.04.24 6:28