خزانة الربانيون

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    بيان تهافت حكاية قصيدة صوت صفير البلبل

    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية بيان تهافت حكاية قصيدة صوت صفير البلبل

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 13.08.08 11:32

    بيان تهافت حكاية قصيدة صوت صفير البلبل
    صوت صفير البلبل

    شاع بين نابتة هذا العصر قصيدة متهافتة المبنى والمعنى ، منسوبة للأصمعي ، صنعت لها قصة أكثر تهافتاً ، وخلاصة تلك القصة أن أبا جعفر المنصور كان يحفظ الشعر من مرة واحدة ، وله مملوك يحفظه من مرتين ، وجارية تحفظه من ثلاث مرات ، فكان إذ ا جاء شاعر بقصيدة يمدحه بها ، حفظها ولو كانت ألف بيت (؟!!) ثم يقول له :إن القصيدة ليست لك ، وهاك اسمعها مني ، ثم ينشدها كاملة ، ثم يردف : وهذا المملوك يحفظها أيضاً – وقد سمعها المملوك مرتين ، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة – فينشدها ، ثم يقول الخليفة : وهذه الجارية تحفظها كذلك – وقد سمعتها الجارية ثلاث مرات- فتنشدها ، فيخرج الشاعر مكذباً متهماً .


    قال الراوي : وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه ، فعرف حيلة الخليفة ، فعمد إلى نظم أبيات صعبة ، ثم دخل على الخليفة وقد غيّر هيئته في صفة أعرابي غريب ملثّم لم يبِنْ منه سوى عينيه (!!) فأنشده :


    صــوت صفير البلبل هيّج قلب الثمــل
    الماء والزهـــر معاً مع زهر لحظ المقل
    وأنت يا سيـــددلي وسيددي وموللي (!)

    ومنها - وكلها عبث فارغ - :

    وقــــال : لا لا لللا وقد غدا مهــرولي (!)
    وفـــــتية سقونني (!) قهــيوة كالعسل
    شممـــــتها في أنففي (!) أزكى من القرنفل
    والــعود دن دن دنلي والطبل طب طب طبلي (!)
    والكـــل كع كع كعلي (!) خلفي ومن حويللي (!)


    وهلمّ شرّا ( بالشين لا بالجيم ) ، فكلها هذر سقيم ، وعبث تافه معنى ومبنى .

    ولم ينته العبث بالعقول ، فقد زاد الراوي أن الخليفة والمملوك والجارية لم يحفظوها ، فقال الخليفة للأصمعي : يا أخا العرب ، هات ما كتبتها فيه نعطك وزنه ذهباً ، فأخرج قطعة رخام وقال : إني لم أجد ورقاً أكتبها فيه ، فكتبتها على هذا العمود من الرخام ، فلم يسع الخليفة إلا أن أعطاه وزنه ذهباً ، فنفد ما في خزانته (!!!) .

    إنّ هذه القصة السقيمة والنظم الركيك كذب في كذب ، وهي من صنيع قاصّ جاهل بالتاريخ والأدب ، لم يجد ما يملأ به فراغه سوى هذا الافتعال الواهن .

    إن القصة المذكورة لم ترد في مصدر موثوق ، ولم أجدها بعد بحث طويل إلا في كتابين ، الأول : إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس ، لمحمد دياب الإتليدي ( ت بعد 1100هـ ) وهو رجل مجهول لم يزد من ترجموا له على ذكر وفاته وأنه من القصّاص ، وليس له سوى هذا الكتاب .

    والكتاب الآخر : مجاني الأدب من حدائق العرب ، للويس شيخو ( ت 1346هـ ) ،وهو رجل متّهم ظنين ، ويكفي أنه بنى أكثر كتبه على أساس فاسد - والتعبير لعمر فرّوخ ( ت 1408هـ ) - وكانت عنده نزعة عنصرية مذهبية ، جعلته ينقّب وينقّر ويجهد نفسه ، ليثبت أن شاعراً من الجاهليّين كان نصرانياً ( راجع : تاريخ الأدب العربي 1/23) .

    ويبدو أن الرجلين قد تلقفا القصة عن النواجي ( ت859هـ ) _ وقد أشار شيخو إلى كتابه ( حلبة الكميت ) على أنه مصدر القصة ، ولم أتمكّن من الاطلاع عليه ، على أن النواجي أديب جمّاع ، لا يبالي أصحّ الخبر أم لم يصحّ ، وإنما مراده الطرفة ، فهو يسير على منهج أغلب الإخباريين من الأدباء ، ولذا زخرت مدوّنات الأدب بكل ما هبّ ودبّ ، بل إن بعضها لم يخلُ من طوامّ وكفريّات .

    وتعليقاً على كون الإتليديّ قصّاصاً ، أشير إلى أن للقصّاص في الكذب والوضع والتشويه تاريخاً طويلاً ، جعل جماعة من الأئمة ينهون عن حضور مجالسهم ، وأُلّفت في التحذير منهم عدة مصنّفات ( راجع : تاريخ القصّاص ، للدكتور محمد بن لطفي الصباغ ) .

    ثمّ اعلم أيها القارئ الحصيف أن التاريخ يقول : إن صلة الأصمعي كانت بهارون الرشيد لا بأبي جعفر المنصور الذي توفي قبل أن ينبغ الأصمعي ، ويُتّخذ نديماً وجليساً ، ثم إن المنصور كان يلقّب بالدوانيقي ، لشدة حرصه على أموال الدولة ، وهذا مخالف لما جاء في القصة ، ثم إن كان المنصور على هذا القدر العجيب من العبقريّة في الحفظ ، فكيف أهمل المؤرخون والمترجمون الإشارة إليها ؟
    أضف إلى ذلك أن هذا النظم الركيك أبعد ما يكون عن الأصمعي وجلالة قدره ، وقد نسب له شيء كثير ، لكثرة رواياته ، وقد يحتاج بعض ما نُسب إليه إلى تأنٍّ في الكشف والتمحيص قبل أن يُقضى بردّه ، غير أن هذه القصة بخاصة تحمل بنفسها تُهَم وضعها ، وكذلك النظم ، وليس هذا بخاف عن اللبيب بل عمّن يملك أدنى مقوّمات التفكير الحرّ .

    ولم أعرض لها إلاّ لأني رأيت جمهرة من شداة الأدب يحتفون بالنظم الوارد فيها ، ويتماهرون في حفظه ، وهو مفسدة للذوق ، مسلبة للفصاحة ، مأذاة للأسماع .

    وبعد : فإنه يصدق على هذه القصّة قول عمر فرّوخ رحمه الله : ( إن مثل هذا الهذر السقيم لا يجوز أن يُروى ، ومن العقوق للأدب وللعلم وللفضيلة أن تؤلف الكتب لتذكر أمثال هذا النظم) .

    [نشر في المجلة العربية - عدد ( 256 ) جمادى الآخرة 1419 ص 94]


    د. عبد الله بن سليم الرشيد
    أستاذ مشارك ، رئيس قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض .

    نقلاً عن
    http://www.al-maqha.com./showthread.php?t=1206
    avatar
    الشيخ إبراهيم حسونة
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته
    كان الله تعالى له وجعل ما يفعله في ميزان حسناته


    ذكر عدد الرسائل : 9251
    شكر : 7
    تاريخ التسجيل : 08/05/2008

    الملفات الصوتية رد: بيان تهافت حكاية قصيدة صوت صفير البلبل

    مُساهمة من طرف الشيخ إبراهيم حسونة 13.08.08 11:35



    أمّا قصيدةُ «صَوْت صفيرِ البُلْبُلِ // هَيَّجْنَ قَلْبَ الثَّمِلِ»
    فقد نُسِبَتْ، بالفعلِ، بُهْتاناً وزوراً إلى الأصمعيّ الرّاويّة النّاقدِ العالِمِ بالشّعرِ، والحقيقةُ أنّها منسوبةٌ إلى مَن يحقُّ أن تُنسَبَ إليه ، وهو الشّاعِرِ أبو العِجْلِ الماجِنُ ، الشّاعِرُ العبّاسيّ المَنْسِيُّ لقلّةِ شعرِه ولِمُجونِه وتَهافُتِه، وذَكَرَه المَرْزُباني في "مُعجَم الشُّعَراء" في بابِ ذكرِ مَنْ غلبت كنيتُه على اسمه من الشعراء المجهولين والأعراب المغمورين ممن لم يقع إلينا اسمه...

    وذَكَرَه بَهاءُ الدّينِ العامليّ في "الكَشْكول" : « كان الشاعر الظريفُ أبو العِجل ممن لبس حُلَلَ الخلافة ويَدَّعي الحَماقَةَ، ويفتخرُ بها في
    شعره، ويتبجح بها فمن شعره:
    عدلوني على الحماقة جهلاً // وهي من عقلهم أجلُّ وأجْلَى »

    وذَكَرَ قصّةَ تَحامُقِه أيضاً ابنُ المُعتَزِّ في "طَبَقات الشُّعَراء" : « وكانَ أبو العِجْل يَنحو نَحْوَ أبي العِبر، ويَتحامَقُ كَثيراً في شعره. وممّا رَوَيْناه:
    أيا عاذلي في الحمق دعني من العذل // فإني رخيّ البال من كثرة الشغلِ
    وأصبحت لا أدري وإني لشاهد // أفي سفر أصبحت أم أنا في الأهل

    فهذا هو صاحبُ القصيدةِ الذي يشهَدُ على نفسِه باسترْخاءِ بالِه وتَحامُقِه وقلّةِ جِدّه


    نقلاً عن
    http://www.al-maqha.com./showthread.php?t=1206



      الوقت/التاريخ الآن هو 29.03.24 6:28